بعد الاحتفاء بانحسار عهد بنيامين نتانياهو طرحت في الأوساط العربية نظريتان رئيسيتيان: واحدة تقول ان رئيس الوزراء الاسرائيلي الجديد ايهود باراك وسلفه نتانياهو وجهان لعملة واحدة. وعليه يجدر بالطرف العربي التمهل في اصدار الحكم على الحكومة الاسرائيلية الجديدة الى حين اثباتها الإرادة السياسية الضرورية والعزم على نقلة نوعية في عملية السلام. النظرية الأخرى تقول ان الانتخابات الاسرائيلية اسفرت عن التصويت لمصلحة عملية السلام، وان حزب العمل الذي وقع اتفاقات اوسلو المتعلقة بالمسار الفلسطيني وفاوض على المسارين السوري واللبناني لا بد ان ينفذ اتفاق مزرعة "واي" فوراً، وسيستأنف المفاوضات مع سورية من حيث توقفت، وسينفذ الانسحاب من لبنان عبر البوابة السورية، وعليه فإن المسؤولية العربية تقتضي دعم باراك وتشجيعه بكل قوة. القاسم المشترك بين النظريتين هو التطلع الى دور الراعي الأميركي لعملية السلام، والى افرازات استخدام الفسحة الزمنية المحدودة لإدارة بيل كلينتون لتحقيق انجاز. ومؤشرات التحرك لدى كل الأطراف المعنية وفيرة. المفقود هو الاستراتيجية الضرورية لتلازم أساسي في السياسات العربية من أجل تحقيق نقلة نوعية. قبل ثلاث سنوات قررت اسرائيل الشعبية انها ليست جاهزة للسلام ولا لتسديد كلفته، فانتخبت بنيامين نتانياهو. قبل أيام اتخذت اسرائيل الشعبية القرار بأنها غير جاهزة للتضحية بعملية السلام فإنتخبت باراك. والسؤال اليوم، كما أمس، هو ماذا سيكون قرار الرأي العام الاسرائيلي، هل سيختار السلام ويدفع ثمنه؟ أم هل يمضي الفترة المقبلة مكتفياً بمجرد التصويت للسلام مجدداً، مع استمرار التردد في مواجهة مقتضيات التعايش بذريعة أمنية هنا واستيطانية هناك؟ الأكيد ان باراك، بعد تأليف حكومته، سيمضي الى تنفيذ اتفاق "واي" الذي تنسحب القوات الاسرائيلية بموجبه من أجزاء من الضفة الغربية، وترتبط القرى والمدن الواقعة تحت السيطرة الفلسطينية عبر "الممرات الآمنة"، ويشتغل الميناء، وغير ذلك من تفاصيل واضحة وافق عليها نتانياهو ولم ينفذها. وهذه ليست تفاصيل هامشية. فالسلطة الفلسطينية ستكون لها سيطرة على حوالى 40 في المئة من الضفة. والممرات الآمنة ستسد الثغرات التي منها ما يُعرف بالجبنة السويسرية في الأراضي الخارجة عن السيطرة الاسرائيلية. والأهم، ان تنفيذ اتفاق "واي" سيؤدي الى استعادة الثقة بالعملية التفاوضية السلمية، وسيطلق مجدداً المفاوضات المباشرة بين الطرفين الاسرائيلي والفلسطيني، وسيعود الزخم والحماس اللذان كانا أسيري عهد نتانياهو، وسينتقل المسار الفلسطيني الى عتبة جديدة... الى حين بدء المرحلة الصعبة، مرحلة التفاوض على الوضع النهائي للأراضي الفلسطينية. ففي هذه المرحلة يتم اختبار معدن ايهود باراك اذ أنها تصب في مسائل المستوطنات وعودة اللاجئين، والحدود للدولة الفلسطينية المنتظرة، والقدس. وهذه قضايا معقدة قد يستغرق التفاوض عليها فترة مطولة من الزمن على رغم الرغبة الاميركية بانتهاء المفاوضات على الوضع النهائي في غضون سنة من بدئها. لذلك، وللاستفادة من زخم الاجواء الايجابية ومناخ الثقة، بدلاً من استنزافه في المفاوضات على الوضع النهائي، ففي ذهن المعنيين الانتقال بعد "واي" من التركيز على المسار الفلسطيني الى التركيز على المسارين السوري واللبناني من المفاوضات، حيث مقومات الانجاز متوافرة اذا توفرت الإرادة السياسية. ما يقوله المسؤولون الاميركيون المعنيون بصياغة السياسة الاميركية في عملية السلام للشرق الأوسط يمكن تلخيصه بالآتي: - أولاً، ان شيئاً لن يحدث بسرعة وبفورية ذلك ان تشكيل الحكومة الاسرائيلية سيستغرق شهراً أو شهراً ونصف الشهر وهذه فترة صياغة المواقف والاستراتيجيات المحتملة الى حين التعرف الى تشكيلة الحكومة الجديدة. وعندئذ ستبدأ عملية التعرف الى التوجهات التي ينوي باراك السير نحوها. فنوعية الحكومة التي يؤلفها ستكون المؤشر الأول على نياته العملية. - ثانياً، ان التركيز الأول سيكون على المسار الفلسطيني، عبر تفعيل اتفاقية "واي" والحض على تنفيذها كأول اجراء مع وضع الاطار للمفاوضات على الوضع النهائي. فهذه أسهل الحلقات، وكل شيء جاهز بلا أخذ وعطاء أو إعادة المفاوضات. - ثالثاً، بتزامن مع زخم تنفيذ الطرف الاسرائيلي لاتفاق "واي" تبدأ ردود الفعل العربية في اطارها الأوسع، جغرافياً وسياسياً واقتصادياً بهدف استعادة نمط التبادلية. فإلى جانب التجاوب من ناحية السلطة الفلسطينية المعنية مباشرة بالمسار الفلسطيني، تتوقع الإدارة الاميركية اجراءات ملموسة من بقية الدول العربية على نسق استئناف الاتصالات ورفع مستواها والتبادل الاقتصادي وتعزيزه. - رابعاً، تحرص اقطاب الادارة الاميركية على التأكيد بأن شيئاً لن يحدث على المسارين السوري واللبناني بما يكون على حساب المسار الفلسطيني. فالرئيس الاميركي يتمنى انجاز اختراق تاريخي قبل مغادرته البيت الأبيض، وهذا لا يبدو وارداً على المسار الفلسطيني بسبب تعقيدات المفاوضات على الوضع النهائي. وبالتالي فإن تحقيق الاختراق على المسارين السوري واللبناني أولوية أساسية تحرص أقطاب الإدارة الاميركية على حمايتها من الافتراضات بأن ذلك قد يكون على حساب المسار الفلسطيني. فوضع هذين المسارين في خانة الأولوية ليس من دون مقومات واقعية، لكنه في الوقت ذاته محط خلاف وموضع تناقض الاستراتيجية. والتدقيق في هذا الأمر آتٍ. - خامساً، يدرك القائمون على صياغة السياسة الاميركية ان الانطباع لدى الطرف العربي هو ان عليه دفع ثمن تحريك عملية السلام مجدداً عبر نافذة باراك. ويسرع هؤلاء الى القول "مهمتنا ليست تسويق باراك في العالم العربي... ولن نقول للعرب: نفذوا أي شيء يريده باراك... فهدفنا ليس القيام بعملية علاقات عامة نيابة عن باراك أو لمصلحته... ونحن نود ان نرى تعابير تجاوب من الطرف العربي مع التصويت الاسرائيلي للسلام... لكننا ندرك ان باراك ليس من الحمائم... ونحن ايضاً في انتظار الأفعال المقرونة بالأقول". ما أنجزه نتانياهو أثناء عهد التوتر في علاقته مع الإدارة الاميركية جاء لمصلحة الطرف الفلسطيني. فهو الذي دفع الإدارة الاميركية والسلطة الفلسطينية الى علاقة أوثق. وما تحقق في اطار هذه العلاقة، بفضل نتانياهو، أصبح واقعاً لا عودة عنه. على هذا الأساس، في امكان السلطة الفلسطينية البناء على الإنجاز شرط تجنب الإفراط في الاندفاع لترضية واشنطن أو لمساندة باراك وتوجهاته. إذ ان تنمية العلاقة الثنائية مع الولاياتالمتحدة مسألة فائقة الأهمية للطرف الفلسطيني، ويجب ان تبقى بين أولويات السلطة الفلسطينية، اما دعم هذه العلاقة اقليمياً، بتفاهم وتنسيق واستراتيجية موضوعية، فمسألة مصيرية لعملية السلام وللنتيجة المرجوة منها فلسطينياً وعربياً وشرق أوسطياً. ولذلك، يجدر بالسلطة الفلسطينية ألا تفترض ان علاقتها الثنائية بواشنطن كافية بمعزل عن بيئتها العربية، كما يجب على البيئة العربية بشقيها "المهرول" والمعارض ل"الهرولة" ان تترفع عن رواسب الماضي واخطائه وتضع بدلاً من ذلك تصوراً واقعياً لكيفية الاستفادة من ظروف قد تكون مؤاتية، ولكيفية الحصانة من مآرب قد تكون مبيتة. التمهل والرصانة والواقعية سمات جيدة انما المبادرة والجرأة والتكيف ايضاً سمت ضرورية. تزاوج هذه السمات، بين المسارات الفلسطينية والسورية واللبنانية وعلى الصعيد العربي الأوسع، أمر ضروري للرؤية العربية في أعقاب الانتخابات الاسرائيلية. سورية عنصر أساسي في ايجاد الرؤية كما في تنفيذ اية استراتيجية البعض يتخوف من المؤشرات التي تفيد بأن هناك حماس واستعداد لدى دمشق لاستكمال المسارين السوري واللبناني من المفاوضات بمعزل عن وربما على حساب المسار الفلسطيني. مصر، مثلاً، تحض على التمهل في تفعيل المسار السوري، بل على تأجيل تفعيله، كي يُعالج المسار الفلسطيني بصورة فاعلة وفورية تسجل لدى جميع المعنيين ان المسألة الفلسطينية تبقى اساس ولب حل النزاع العربي - الاسرائيلي. سورية من ناحيتها ترى ان لا تصارب هناك في تحرك جميع المسارات في آن واحد، بل هي تعتبر توازي التحرك في كل المسارات عنصراً ايجابياً يؤثر في التقدم في مسار على التقدم في مسار آخر. وذلك في اطار مواقفها القائلة بشمولية السلام العادل، واستطراداً توازي المفاوضات في كل المسارات. مجيء باراك الى الحكم أحيا في دمشق الرغبة والاستعداد لتحريك المسارين السوري واللبناني والمفاوضات لأسباب عديدة، بينها، ان المسؤولين السوريين تفاوضا في أربع جولات مع باراك عام 1994 عبر شخصي رئيس الأركان حينذاك حكمت الشهابي والسفير السوري لدى واشنطن وليد المعلم. فهو بالتالي رجل معروف الى حد ما لدى دمشق من نواحي الأسلوب الى المواقف الى الشخصية. بسبب مشاركته كرئيس أركان في المفاوضات على الناحية الأمنية في "بلير هاوس" يرى السوريون ان باراك مطلع على ما تم انجازه في عهدي كل من اسحق رابين وشمعون بيريز، وما أنجز في اعتبار السوريين ما يشكل 75 في المئة من الاتفاق. وبما ان باراك الآن رئيس حكومة اسرائيل ورئيس حزب العمل، لم يعد هناك أية ذريعة ليطالب بعودة المفاوضات الى نقطة الصفر. ثم ان في حملته الانتخابية لاحظ السوريون استعداد باراك لاستئناف المفاوضات من حيث توقفت، كما لاحظوا انه أبدى الاستعداد للخروج من لبنان في غضون سنة عبر "البوابة" السورية. وهذا في رأي دمشق ايجابيات. هذا اضافة الى عنصرين آخرين ايجابيين، من وجهة النظر السورية هما، ان علاقته الجيدة بالولاياتالمتحدة قد تؤدي الى تنشيط الدور الاميركي في عملية السلام، وكونه عسكري يفترض به ان ينفذ ما يقول، عكس شخصية نتانياهو. كل هذه النواحي تبقى عناصر ايجابية رهن الاثبات. والعنوان الرئيسي لدى الطرف السوري هو "الإرادة السياسية". فالمسألة ليست في مضمون المباحثات بقدر ما هي في توفر الإرادة السياسية لدى باراك. وحتى النواحي الأمنية التي يقال ان باراك مهووس بها، فإنها ليست عرقلة جذرية علماً بأن المباحثات على الناحية الأمنية لم تصل الى حال توقف وانما انقطت عام 1996 بسبب قطع بيريز كامل المباحثات. وبالتالي ان الترتيبات الأمنية لم تستكمل بسبب انقطاعها وليس لأنه كان هناك عقبات، حسب وجهة نظر السوريين. أما في موضوع لبنان، فإن الإرادة السياسية هي ايضاً المفتاح الاساسي للحل، وهذه الإرادة، حسب الرأي السوري يجب ان تتضمن نقطة مهمة هي حق عودة اللاجئين الفلسطينيين استناداً الى سياسة اللاتوطين في لبنان، أما حزب الله، فإنه في حال تم الانسحاب الاسرائيلي سيكون فاعلاً على الساحة اللبنانية، انما كحزب سياسي في البرلمان وليس كقاعدة مقاومة في الجنوب اللبناني. يبقى ان الفسحة الزمنية لتحقيق انجاز على المسارين السوري واللبناني تستلزم التحرك السريع لأن عهد بيل كلينتون ينتهي بعد سنة. والبعض في الادارة الاميركية يتساءل ان كانت الأولوية في دمشق لترتيب البيت الداخلي أو لإحياء المفاوضات، وهل دمشق على استعداد لإنهاء المباحثات سريعاً؟ السفير السوري في واشنطن يقول "إذا بنينا على ما تم انجازه في المحادثات التي جرت اثناء حكومتي حزب العمل في عهدي رابين وبيريز واستأنفت المحادثات من حيث توقفت، بالإمكان انجاز اتفاق على المسارين السوري واللبناني خلال بضعة اشهر في حال توفرت الادارة السياسية لدى القيادة الاسرائيلية... وسورية جاهزة لاستئناف المحادثات من حيث توقفت". المهم الآن ان يتم تفاهم بين الاطراف العربية، تلك المعنية مباشرة بالمفاوضات وتلك المساهمة في عملية السلام من بعيد، على رؤية واضحة بواقعية وصدق بعيداً عن التسابق أو التناحر أو المزايدة.