«ان الجمهور الألماني لا يجد اية مصلحة له في الاحتفاظ بصورة مزيفة عن وضع المسرح في بلاده، رسمها قلم مهاجر...»، بهذه الكلمات حسمت محكمة هامبورغ الإصلاحية الألمانية عام 1966 قضية ادبية فنية كانت شغلت الرأي العام في ذلك البلد لسنوات طويلة مع ان الأطراف الأساسية ذات العلاقة بالقضية كانت رحلت عن عالمنا منذ زمن. وهذه القضية تتعلق برواية كانت كتبت وصدرت منذ زمن بعيد ايضاً. وبهذا الحكم الذي سخر منه كثر من الناس في ذلك الحين، خيّل للمحكمة وللذين ارضاهم حكمها، ان الملف قد اقفل وأن ما خطّه «قلم الكاتب المهاجر الذي رسم صورة مزيفة...» على تلك الشاكلة سيسكت الى الأبد بحكم قضائيّ مبرم. لكن هذا الاعتقاد كان مخطئاً، فالرواية المعنية بالأمر لم تنته حياتها في ذلك اليوم بل بدأت، والرواية منذ ذلك الحين لم تعد مجرد عمل مطبوع بل ما فتئت ان تحولت الى مسرحية فإلى فيلم سينمائي وصارت تعتبر من الكلاسيكيات. اذاً منذ ذلك الوقت المبكر وحتى قبل ان تأتي أزمان الفضاءات المفتوحة لتقضي نهائياً على الحماقات الرقابية وعلى كل ضروب المنع وما شابهه، تجاوز الأمر الواقع عسف القضاء المسيّر وخطايا كل محاولي اسكات اصوات الإبداع والتفكير. الرواية التي نتحدث عنها هنا هي «مفيستو» للروائي كلاوس مان احد اولاد توماس مان الذي هيمن بظله الأدبي الكبير على القرن العشرين الإبداعي في ألمانيا وغيرها. واذا كنا نعرف ان كلاوس لم تكن له قامة أبيه ولم يخلّف للأزمنة الحديثة نتاجاً يضاهي ما خلّفه الأب، فإن ما لا بد من معرفته ايضاً – وللمناسبة – هو ان الأبن كان أكثر جرأة من الأب حيث انه – ومنذ استتباب السلطة للنازيين في ألمانيا بفعل ما اعتبر في عام 1933 «انقلاباً» دستورياً -، عبّر عن مواقفه الرافضة والنضالية ضد الديكتاتورية النازية وهتلرها بوضوح إسوة بعمّه الكاتب، هو ايضاً، هاينريش مان (صاحب «الملاك الأزرق» بين اعمال ادبية كبيرة أخرى)، فيما كان توماس لا يزال متردداً يفضل مهادنة النازيين على مضض بدلاً من سلوك درب الهجرة التي سيعود ليسلكها على اية حال، لكن تلك حكاية اخرى. اما هنا فلنعد الى «مفيستو». ولنبادر الى القول بأن هذه الرواية التي حملت في طبعاتها الأولى عنواناً ثانوياً هو «حكاية مسار مهني» هي بالأحرى رواية وثائقية حتى وإن حمّل الكاتب شخصياتها الرئيسة اسماء مستعارة. بل ولا بد من التوضيح ايضاً أن الشخصية الرئيسة التي تحمل هنا اسماً تلقيبياً هو «مفيستو» هي في الأصل شخصية معروفة في ألمانيا في ذلك الحين... وأكثر من هذا: كان هذا الشخص في الواقع ولسنوات عدة صهر الكاتب، كان زوج اخته كلارا. ومن هنا كان جزء من الدعوى التي اقيمت ضد الرواية تستند الى الزعم بأنها ليست أكثر من تصفية حسابات عائلية. وربما يكون هذا الأمر صحيحاً في شكل جزئي، لكنه لا يحجب دلالة الرواية ولا بالطبع حقيقتها التاريخية. ولئن كان القراء – ثم متفرجو السينما والتلفزة من بعدهم – اقبلوا على هذا العمل، فإنهم رموا جانباً كل ما يتعلق بالأمور الشخصية ليتوقفوا عند ما هو اساسي: انتهازية البعض وتلوّنهم ازاء تبدل السلطات والحكام وتحديداً هنا من خلال شخصية ذلك الممثل الكبير الذي وجد نفسه بالتدريج في احضان ذلك الرهان الفاوستي الذي جعله دمية في يد النظام الديكتاتوري النازي كي يحافظ على مصالحه وموقعه متجاهلاً المذابح التي يرتكبها النظام، ومتجاهلاً بخاصة تاريخه هو نفسه الذي كان بدأ حياته ومساره مناصراً للديموقراطيين والشيوعيين! واضح حتى الآن ان القارئ قد بات يملك فكرة اساسية عن هذه الرواية ويملك خطوطها العامة. ومن هنا قد ينبغي الانتقال الى مزيد من التوضيح: تتحدث الرواية عن الممثل المعروف غوستاف غروندجنز – تحت اسم روائي هو هنا هندريك هوفغن -، وتدور الأحداث بين 1926 و1936 ، اي السنوات العشر التي انتقلت فيها المانيا من حكم دستوري نيابي الى حكم ديكتاتوري نازي . وبالنسبة الى الألمان في شكل عام، كانت تلك هي الفترة التي توجب فيها على كل فرد ان يفكر ويقرر: هل سيقف مع الديكتاتورية ام سيتجه الى الديموقراطية؟ هل يقول لا للفاشية النازية ام يبدأ بالنضال ضدها؟ ام تراه سيحاول الوقوف على الحياد؟ في الحقيقة كان ثمة كثر من الناس يمكنهم اللجوء الى هذا الخيار الأخير، ولكن حين يكون الشخص شخصية عامة تلقى على وجوده وسلوكه ومكانته اضواء كاشفة، من المؤكد ان حياده سيعتبر من جانب الديكتاتورية الحاكمة موقفاً عدائياً تجاهها. وطبعاً وجد هوفغن نفسه في ذلك الموقف. فهو معروف منذ زمن بكونه واحداً من اشهر اهل المسرح في المانيا. وكان قد اشتهر بخاصة بأداء دور مفيستو في مسرحية «فاوست» لغوته، إحدى اشهر المسرحيات وأهمها في تاريخ الأدب والفن الألمانيين. وهوفغن هذا كانت له سمعة نضالية يسارية مرموقة، ولا سيما حين كان من مؤسسي مسرح ثوري شيوعي في برلين. وهكذا اذ وجد نفسه مع سيطرة الديكتاتورية النازية مضطراً للاختيار ورأى ان كثراً من زملائه الفنانين الذين اختاروا النضال ضد الديكتاتور وحزبه انتهى بهم الأمر الى البطالة والاضطهاد، اتخذ قراره بالرضوخ للنظام، بخاصة ان «البدين» الذي يرمز، في الرواية، الى غورنغ احد اعمدة النظام النازي والذي كان مولعاً بالفن، افهمه مواربة ان هذا النظام سيغفر له «حماقات» ماضيه بل سيمكّنه بين الحين والآخر من تقديم «خدمات وعون» الى بعض رفاق ذلك الماضي «حتى ولو كانوا يهوداً». بل ان «البدين» سيسمح له بالاحتفاظ بسكرتيره الخاص الذي لم يكن آريّاً. وكان من الواضح ان في هذه الوضعية كلها الكثير من المغريات. وعلى هذا النحو يقرر هوفغن ان يبدل بندقيته من كتف الى أخرى. وتكون علامة ذلك التبديل الأساسية ذات مساء حين يحضر «البدين» عرضاً «منقّحاً» لمسرحية «فاوست» يبدع فيه هوفغن على عادته. وحين ينتهي العرض يمد «البدين» يده ليصافح الممثل، فيبدو التقاء اليدين أشبه بعقد تحالف فاوستي بين الفنان وممثل النظام. بالنسبة الى هوفغن كان الحل مثالياً. واذا كان من المستحيل علينا ان نعرف ما الذي فكر فيه صاحب العلاقة الحقيقي – اي غوستاف غروندجنز - في الحياة الحقيقية حين جسّد قراره على ارض الواقع خلال ذلك العرض الذي لا ينسى، فإننا في الرواية سنجدنا امام هوفغن يقول لنفسه : «الآن قضي الأمر! وها انا قد وسّخت نفسي . اليوم صار ثمة لطخة على يدي. لطخة لن يمكنني محوها مهما حاولت . لقد بعت نفسي ووسمتها الى ابد الآبدين!»... نعم ان «بطلنا هذا واع تماماً بما فعل. لكنه ومهما كان مقدار وعيه، بات يدرك ان أوان التراجع قد فات،وانه منذ تلك اللحظة وصاعداً يجب ان يعتبر نفسه «مهرج الدكتاتور... مهرج النظام» وعليه بالطبع وبالتالي ان يتصرف على هذا النحو... انطلاقاً من انه قد وقّع تحالفه مع الشيطان. لقد صار فاوستياً بامتياز. وهو لئن كان لسنوات طويلة قد لعب دور مفيستو على المسرح، فإن الدور صار حياته مذّاك وصاعداً. بقية ما تبقى من الرواية لا يخرج عن دربها المرسوم ، في ما عدا ان تحالف هوفغن الشيطاني هذا سيمكّنه من اخفاء صديق او اخراج آخر من السجن او اشياء من هذا القبيل. بيد ان الرواية تفيدنا بأن هذه الأفعال لا تنتج عن ازمة ضمير لدى صاحب العلاقة. بل عن ايمانه بأن الديكتاتور ونظامه سيزولان إن عاجلاً او آجلاً، وبالتالي فإن تصرفات من هذا النوع قد تشفع له ايام ايّ نظام تال... ترى، أولم نقل في عنوان هذا المقال ان الرجل انما كان رجل كلّ الأزمنة؟ كلاوس مان (1906-1949) لم يعمّر طويلاً. ومن هنا من الصعب مقارنة اعماله بما انتج ابوه. وهو قبل سنوات طويلة من موته انتحاراً في مدينة «كان» في الجنوب الفرنسي كان هاجر الى الولاياتالمتحدة حيث نال الجنسية الأميركية ثم عاد الى اوروبا جندياً في جيوش وطنه الجديد ليحارب في ايطاليا. وهو اذا كان قد كتب اول اعماله بالألمانية منذ صباه ، ولا سيما روايته «مفيستو» التي نشرت للمرة الأولى في امستردام عام 1936، فإنه منذ عام 1940 لم يعد يكتب إلا بالألمانية ... وقد عرفت رواياته بعد الحرب العالمية الثانية وزوال النازية، نجاحاً كبيراً وترجمت الى الكثير من اللغات. ثم بعد زمن خبا فيه ذكره بعض الشيء عاد الى الواجهة اوائل ثمانينات القرن العشرين بعد ان حوّل المجري استيفان تزابو «مفيستو» الى فيلم بديع قام ببطولته كلاوس ماريا برادور احد كبار الممثلين الأوروبيين. [email protected]