رأت واشنطن قبل ان تبدأ عملية مدريد للسلام في تشرين الأول اكتوبر 1991 بسنوات أن إحدى وسائل تجاوز ما افرزته عملية السلام المصرية - الاسرائيلية من جمود في مستوى التفاعل بين الشعب المصري والاسرائيلي الذي عرف بالسلام البارد، ان تبدأ بجمع شبان فلسطينيين مع شبان اسرائيليين لبعض الوقت في الولاياتالمتحدة للتعارف والتحاور والتقارب وليعرف كل طرف ما يقض مضجع الطرف الآخر ويتفهم رغباته ومخاوفه وتطلعاته. وكانت اسرائيل ايضاً بدأت تجربة محدودة على سجينين احدهما فلسطيني والآخر اسرائيلي بأن جمعتهما في زنزانة واحدة وبدأت تراقب سلوك احدهما ازاء الاخر ومدى التغير الذي يحدثه العيش المشترك في سلوك عدوين وعلاقاتهما. ثم وسعت واشنطن تجربتها بأن ادخلت في برامج الديبلوماسيين والاعلاميين العرب الذين يزورون الولاياتالمتحدة بدعوة من وكالة الاستعلامات الاميركية وبينهم فلسطينيون من الاراضي المحتلة، لقاءات مع مختلف المنظمات اليهودية والصهيونية سواء تلك التي تقبل بدولة فلسطينية والتفاوض مع منظمة التحرير كممثل شرعي للفلسطينيين، او تلك التي تتمسك باحتلال كل فلسطين وتعتبر كل فلسطيني ارهابياً، وتنكر حقوق الفلسطينيين جملة وتفصيلاً، اضافة الى لقاءات مع عناصر تعمل في "الايباك" وتلقي محاضرات في معهد دراسات الشرق الادنى الذي يلعب دوراً مؤثراً في السياسة الاميركية نحو الشرق الاوسط خصوصاً في اوساط الكونغرس الاميركي. ولما كان هذا غير كافٍ، ولتجنب ان تحذو عملية السلام العربية - الاسرائيلية حذو عملية السلام المصرية الباردة، شددت الادارة الاميركية على لسان الرئيس كلينتون وغيره على اهمية السلام والتفاعل بين شعوب الشرق الاوسط، وفي حقبة ظهرت فيها المنظمات غير الحكومية وابلى بعضها بلاء حسناً في بعض الحالات ومنها مجال الحريات أعلن في نهاية كانون الثاني يناير 1997 تشكيل تحالف دولي للسلام العربي- الاسرائيلي من اطراف اربعة، مصرية وفلسطينية وأردنية واسرائيلية وبرعاية دنماركية وتشجيع اميركي وأوروبي، وأخذ هذا التحالف على عاتقه العمل على ألا تظل مفاتيح عملية السلام بين الحكومات وحدها. وعبر عن ذلك البيان الطموح المتفائل، الذي جاء فيه ان التحالف "يعكس ارادة اغلبية شعوب المنطقة" وانه "يعبر عن المشاعر الغالبة بين العرب والاسرائيليين، ولذا فإننا - نحن الشعوب - يجب ان نشارك بفاعلية في رسم طريق المستقبل للشرق الاوسط بأن نمنع غلبة القوة المضادة للسلام". وليس هنا مجال مناقشة تمثيل التحالف لأغلبية شعوب المنطقة، لكن المؤكد ان غالبية شعوب المنطقة تشاطره الامل بتحقيق سلام عادل وشامل وليس السلام الذي تريد اسرائيل فرضه على العرب ولو حتى من خلال التفاوض. والشعوب العربية كلها، وليس غالبيتها فقط، لا تشاطر التحالف موقفه من قضية القدس الذي يعبر عنه بيان كوبنهاغن بقوله: "إنها على وجه الخصوص موضوع مركزي شديد الحساسية لكل الاطراف يستدعي اهتماماً خاصاً في مفاوضات الوضع النهائي من اجل الوفاء بمتطلبات جميع الاطراف". وفي هذه الفقرة ساوى التحالف بين مطالب من يريد أن يتحرر من الاحتلال ويستعيد حقوقه في جزء من وطنه وبين مطالب غير شرعية لدولة توسعية لا تزال تزعم ان القدس كلها ملك لها وهي التي لم تجرؤ عند اعلانها كدولة في العام 1948 على أن تمسي القدس عاصمة لها، وقبلت عند انضمامها الى الاممالمتحدة العام 1949 ان تحترم قرارات تلك المنظمة الدولية بشأن القدس واللاجئين. وعند احتلال جزئها الشرقي العام 1967، الذي سمّته اسرائيل تحريراً من "الاحتلال" الاردني، كررت الشرعية الدولية في اكثر من قرار صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الامن، ان القدسالشرقية هي أرض محتلة يسري عليها ما يسري على بقية الاراضي الفلسطينية التي احتلت العام 1967. ولكن هذه الهفوة التي كان ينبغي الابتعاد عنها، تطورت الى الاسوأ كما سنرى في البيان الصادر عن حركتي السلام المصرية والاسرائيلية اللتين عقدتا اجتماعاً مشتركاً في القاهرة في شهر حزيران يونيو 1998، الذي قال: "تظل القدس مدينة موحدة بصورة دائمة ويعاد تحديد مساحة المدينة ويكون مقبولاً ان يعيش مواطنون من الدولتين في المدينة وأن يحظى كل منهما بالحقوق الوطنية والدينية، ويتم وضع الأطر البلدية المتفق عليها والمنسقة داخل حدود المدينة بغية تمكين كل طائفة من ادارة شؤونها الداخلية، وستوجد عاصمتان داخل هذه المنطقة البلدية، عاصمة اسرائيل في المنطقة اليهودية، وعاصمة فلسطين في المنطقة العربية، ويتم وضع وترتيبات الاماكن المقدسة من خلال المفاوضات استناداً الى الحفاظ على الحقوق الدينية وحرية العبادة لكل الاديان".ان أسوأ ما يقال من وجهة النظر العربية عن القدس هو ما جاء في هذه الفقرة للأسباب التالية: 1- قبول طرف عربي بقدس موحدة وبصورة دائمة في ظل وضع يتغير باستمرار لمصلحة اسرائيل، وزعم اسرائيل، بأن هذه ارضنا وحدنا، وفي ظل غلبة لاسرائيل في القدس. 2- منح حقوق وطنية للمستوطنين وتهميش حقوق المواطنين او انزالها الى مستوى حقوق الطوائف. 3- القبول بأن يعيش مواطنون من الدولتين في المدينة، يعني فقط الترحيب ببقاء المستوطنات وكل ما اجرته اسرائيل من تغييرات ديموغرافية من العام 1967 وحتى الآن. 4- الغموض حول مكان العاصمتين، هل في المنطقة البلدية غير المعلومة حتى لأعضاء التحالف العرب، أم في مكان ما من المدينة التي سيعاد تحديد مساحتها، ومن قبل من يعاد تحديد هذه المساحة، ولأي غرض، وهذا الغموض لا تستفيد منه سوى اسرائيل، لأن هناك جانباً عربياً لمن يقبل بوضوح بأن عاصمة الدولة الفلسطينية هي القدسالشرقيةالمحتلة وان ما ينطبق على الاراضي المحتلة ينطبق على القدسالشرقية ايضاً. 5- إن المدينة الموحدة الى الابد، تُبقي العرب الى الابد ايضاً اقلية، وهذا ما تريده اسرائيل التي تحرص على ان لا تزيد نسبة العرب في القدس عن 22 في المئة، والتي بدأت تتضايق من ارتفاع هذه النسبة الآن الى 29 في المئة اضافة الى 60 ألف مقدسي خارج القدس يُشك بأن اسرائيل، في ظل منهاج تسوية كهذا، ستسمح لهم بالعودة الى القدس. وفي هذا الصدد ربما يكون تخلف الفلسطينيين عن المؤتمر الثاني في حزيران 1998 في القاهرة هو وراء الزلة التي جعلت حركة السلام المصرية تقبل بهذه الصيغة لحل مشكلة القدس التي هي اقرب المواقف العربية حتى الآن من الموقف الاسرائيلي، وربما ايضاً ان حركة السلام المصرية وقعت تحت تأثير الوثيقة التي اتفق عليها أبو مازن وبيلين، وينكر الجانب الفلسطيني الرسمي وجودها وعلمه بها. وموقف حركة السلام المصرية هذا ليس بعيداً ايضاً عن الموقف الاميركي من قضية القدس الذي تطور بعد احتلال اسرائيل للقدس الشرقية العام 1967 على النحو التالي: 1- اعلن الرئيس جونسون في 10 / 9 / 1968 انه "لا أحد يريد ان يرى القدس مقسمة بالاسلاك الشائكة والبنادق". وفي عهده قال وزير خارجيته دين راسك "إن إعادة وضع القدس الى ما كانت عليه في 4 حزيران يونيو 1967 هي وصفة لتجديد العداوات وليس السلام". 2- مال الموقف الاميركي الى الانحياز لاسرائيل ايضا في عهد الرئيس نيكسون الذي عبرت ادارته عن "الامل في ان تكون القدس نموذجاً للوحدة" رغم انها وصفت اسرائيل بأنها دولة محتلة. ثم انتقلت ادارة نيكسون من هذا النموذج الوحدوي الذي تريده للقدس الى انها ترى بقاء القدس موحدة من دون قيود على حركة الاشخاص والبضائع. وهذا مع استمرار استنكار سياسة اسرائيل في "الجزء المحتل من القدس". 3- قالت الادارات اللاحقة عن القدس انها تريدها غير مقسمة undivided أو موحدة united واحياناً استخدمت الكلمتين معاً. ووافق سيروس فانس وزير خارجية ادارة كارتر في اجابة على سؤال من السناتور غافيتس، على انه حتى التفاوض حول القدس او اي شيء آخر لا يجب ان يقسم المدينة. وان كان أقرّ بأن السيادة على القدس هي موضوع نزاع بين الاطراف. وحتى الآن لم تقبل اي ادارة اميركية بالسيادة الاسرائيلية على القدس. ولا تزال واشنطن ترى ان السيادة على القدس معطلة لحين اتفاق اطراف الصراع بشأنها. ولم تقبل واشنطن رغم كل انحيازها ودعمها لاسرائيل بأن القدس هي عاصمة لاسرائيل. وهناك على الارض الكثير من المؤشرات والدلالات التي تعامل بها واشنطنالقدس العربية كمنطقة محتلة. ولم يكن من الحكمة في شيء أن تقفز حركة السلام المصرية على نتائج المفاوضات وتضع نفسها بديلاً للمفاوضين الفلسطينيين، وتحدد ببعض من التفصيل الضار بقضية القدس، مسار حل مشكلة هذه المدينة المقدسة القريب جداً من وجهة النظر الاسرائيلية وغير البعيد كذلك عن وجهة النظر الاميركية. واذا انتقلنا الى موضوع اللاجئين فسنجد ان بيان القاهرة 1998، الحق ضرراً جسيماً بقضية اللاجئين ايضاً. إذ جاء في فقرته السادسة: "يتم تعويض اللاجئين بدعم دولي"، وفي هذا الجانب الغى تحالف كوبنهاغن الشرعية الدولية التي تخيّر اللاجئين بين امرين، اولهما العودة ثم يأتي بعدها وفي المرتبة الثانية التعويض. وهذه الشرعية عندما تحدثت عن التعويض قصدت ان يتم ذلك من قبل من تسبب في إحداث الضرر، من تشريد ولجوء وفقدان ممتلكات، وليس من قبل جهة دولية كما يريد تحالف كوبنهاغن، اي ان اسرائيل هي التي يجب ان تدفع التعويضات لأنها هي التي استفادت من ممتلكات وارض شعب آخر. وهذا هو انزلاقه الثاني في أمر من الأمور الجوهرية في قضايا الصراع العربي - الاسرائيلي، وما يؤخذ على التحالف ايضا في هذا الخصوص، انه لم يتحدث عن حق اللاجئين في العودة وهذا هو عين ما تريده اسرائيل، كما عبر عن ذلك شمعون بيريز، في مؤتمر القاهرة للسلام الذي عقد في شهر تموز يوليو الجاري في القاهرة، وكانت اسرائيل عبّرت عن رغبتها في تحميل اطراف دولية، ومنها اطراف عربية في تعويض اللاجئين اثناء المحادثات المتعددة الاطراف بخصوص مشكلة اللاجئين. واذا اخذنا عينة أكثر سوءاً من الآراء الاسرائيلية بشأنها، فسنجد ان كلينتون بيلي، الكاتب المتخصص في شؤون السلطة الوطنية الفلسطينية في معهد ترومان للسلام التابع للجامعة العبرية في القدس رأى في مقال له في جريدة "الهيرالد تربيون" في 4/5/1999 أن يتم تعويض اللاجئين الفلسطينيين من بعض اموال صندوق الهولوكوست. ويرى السيد بيلي ان الفلسطينيين يقدّرون التعويض الذي يستحقه الفلسطينيون عن اراضيهم وممتلكاتهم بنصف تريليون دولار. والسيد بيلي يعطي اليهود المتضررين من النازية الاولوية في الحصول على اموال هذا الصندوق لأن من هم كبار في السن يحتاجون الى مساعدة الصندوق. وبالقطع فهذا تنويه آخر لحقوق اللاجئين، إذ عليهم ان ينتظروا ما تسفر عنه متابعات المنظمات اليهودية واسرائيل للأموال اليهودية التي فقدت او سلبت في العهد النازي، وهي أقل بما لا يقاس من التعويضات التي يستحقها الفلسطينيون. ويضع السيد بيلي شروطاً لقبول اسرائيل تعويض اللاجئين الفلسطينيين، منها استعادة اسرائيل لممتلكات تركها 200 الف يهودي وراءهم في المغرب والعراق وايران واليمن وليبيا ومصر وسورية ولبنان، عندما نزحوا الى اسرائيل. وقبل ان تلفظ حكومة الليكود انفاسها برئاسة بنيامين نتانياهو بأيام تحدث وزير الخارجية الاسرائيلي السابق اريل شارون عن هذا المطلب نفسه لكن مع عدم ربطه بدفع تعويضات اسرائيلية للاجئين الفلسطينيين. ويذكر في هذا الصدد أن هناك منظمة يهودية جديدة هي "المنظمة العالمية ليهود البلدان العربية" تطالب بما طالب به شارون وما قال به كلينتون بيلي، وان كانت ايران خارج نشاطها. واذا انتقلنا الى بيان مؤتمر القاهرة للسلام الصادر في 7/7/1999، سنجد انه لم يحافظ على الموقف السابق نفسه فقط، بل وضع قيداً على المتفاوضين حول القدس، بأن يحتفظوا بها كمدينة غير مقسمة، وساوى بين الحقوق الوطنية الاصيلة للفلسطينيين في القدس والحقوق التي اكتسبتها اسرائيل فيها بقوة الاحتلال وسياسات الامر الواقع ومصادرة الارض وهدم أحياء وبيوت فيها، وما ظهر من تفسيرات ادلى بها هذا المشارك او ذاك في هذا المؤتمر لا تسمن ولا تغني من جوع، فقد سلمنا للأسف بوجهة نظر اسرائيل وما قاله وزير الخارجية الاميركية السابق سيروس فانس، انه حتى التفاوض لن يؤدي الى تقسيم مدينة القدس، هو ما قاله بيان القاهرة الاخير. وبعيداً من لغة الوعّاظ، فإنه من الجوهري ان يدرك كل طرف عربي يريد ان يسهم في حل مشكلة القدس أن هناك من الاسرائيليين من يقرون باستحالة التعايش بين الفلسطينيين والاسرائيليين في القدس لأن فيها شعبين بثقافتين ولغتين وديانتين مختلفتين وتطلعين متعارضين اضافة الى ثقل الوجود المسيحي المدعوم دولياً ومنهم من يقول بأن 5،2 مليار نسمة مسلم ومسيحي لن يقبلوا بسيطرة 13 مليون يهودي اغلبهم خارج اسرائيل على هذه المدينة المقدسة. وفي تقريرالاممالمتحدة السنوي عن القدس لعام 1997 ما يؤكد الكلام السابق، إذ جاء فيه "ان الانتفاضة شطرت القدس من جديد وان الوهم الاسرائيلي حول اسرائيل الكبرى والمدينة الموحدة للشعبين تلاشت خلال السنتين الاولى للانتفاضة". إننا مع السلام ولسنا ضد الحوار مع الاسرائيليين الذين يؤيدون حقوقنا، ونقدر لحركة السلام الاسرائيلية الآن دورها الشجاع في إشاعة ثقافة السلام في اسرائيل ولمن يدافع عن حقوق الفلسطينيين الوطنية، لكن قبولنا ببعض الاطروحات الاسرائيلية يقوي منطق اسرائيل. * سفير يمني.