قرابة منتصف العام الماضي أعلن عن دخول العاهل الأردني الراحل الملك حسين أحد المستشفيات الأميركية لتلقي العلاج من مرض قاس. وإطلاع الأردنيين على تفاصيل مراحل العلاج ومدته التي طالت تركت في الأردن حالاً من الترقب يخالطه القلق واستمر فترة ليست بقصيرة، إذ أن الأردنيين في معظمهم ما عرفوا قائداً سواه للبلاد منذ توليه السلطات الدستورية في العام 1953. وكان حتى رحيله مسؤولاً أول فوق الدستور والمجتمع مما جعل أي أمر يتعلق بصحته مصدر قلق للمجتمع الأردني. ومهرجان جرش للثقافة والفنون، الذي بات واحداً من أبرز المهرجانات الفنية في المنطقة العربية، وهو يقام في تموز يوليو من كل عام في مدينة جرش الأثرية التي هجرها الرومان قبل ألفي عام وتقع على بعد خمسة وثلاثين كيلومتراً الى الشمال من العاصمة الأردنية. هذا المهرجان ما زالت في رأس لجنته الوطنية العليا منذ تأسيسه عام 1981 الزوجة الأخيرة للعاهل الراحل الملكة نور. وقد تزامن المهرجان في دورته الماضية السابعة عشرة مع بدايات تلك الحال من الترقب، مما ترك أثراً واضحاً في إقبال الأردنيين على الفاعليات في المدينة الأثرية. ولما أعلن الملك الحسين عن إيلاء ولاية العهد لأكبر أبنائه الملك عبدالله الثاني بن الحسين توقع كثيرون ان تغيرات مقبلة في المشهد السياسي سوف تشمل مؤسسات كثيرة في بنيتها، وهو ما تعزز اكثر لحظة إعلان وفاة الملك الراحل. في تلك الأثناء كانت الإستعدادات جارية للدورة الثامنة عشرة لمهرجان جرش على رغم توقع إرجائها أو إحداث تغييرات في إدارتها. كانت الإستعدادات بطيئة لكنها مستمرة، وربما أن تلك التغييرات كانت ستحدث بالفعل. فحين عقد السيد أكرم مصاروة المدير النشط للمهرجان مؤتمراً صحافياً في صحبة مدير الفرقة الروسية "الكرملين للباليه"، أعلن ان تغييرات في هيكل إدارة المهرجان مقبلة وأن النقاب سوف يكشف عنها فيما بعد. ولما أعلن في منتصف الشهر الماضي البرنامج النهائي لفاعليات الدورة الثامنة عشرة للمهرجان في مؤتمر صحافي اخير لم يتطرق مصاروة الى ان تلك التغييرات حدثت بالفعل مما يعني ان الامور ظلت على حالها او انها ارجئت. ولكن المزاج السياسي السائد في المجتمع الأردني، وهو مزاج متحوّل وغير مستقر، ليس وحده الذي يتدخل في حسم الإقبال على فاعليات المهرجان، مع انه مزاج هيّن في هذا الوقت. فثمة حال اقتصادية تلعب دوراً اكيداً في ذلك ايضاً. وحتى الآن لم تحدث تطورات إيجابية واضحة في المسألة الإقتصادية، والوعود التي تقدمت بها الدول الغربية وتحديد أميركا للملك الشاب لم تفِ بها بعد بل ان رئيس الوزراء عبدالرؤوف الروابدة اعلن في لقاء مفتوح مع الكتّاب والمثقفين ان مئة مليون دولار منحتها اميركا للأردن اخيراً لم تصل الى الخزينة بعد. هل يكون اثر ذلك في اقبال الأردنيين على مهرجانهم موازياً لما حدث في الدورة الماضية؟ في جاري العادة: نعم. غير ان ثمة ما يمكن له ان يكون داعماً بقوة للمهرجان فيعطيه مقدرة على الاستمرار دائماً .. انهم المغتربون القادمون من الخليج وسواه والسائحون العرب وذلك الجمهور الواسع الذي راح يتدفق الى المسرحين الجنوبي والشمالي في المدينة الأثرية منذ العام 1995 في اثر معاهدة السلام التي وقّعها الأردن مع الدولة العبرية صيف العام 1994 .. انهم الفلسطينيون الذي بقوا في ارضهم بعد احتلالها عام 1948، جمهور يقيم في الفنادق الفخمة ذاتها حيث يقيم المطربون العرب، ويراهم المرء شباناً وغير شبان في الردهات بانتظار خروج واحد من اولئك المطربين طالبين منه ان يلتقطوا معه صوراً تذكارية. وفضلاً عن انهم سائحون بوفرة مالية فهم الى ذلك قادمون الى الأردن بروح عربية في العادة قريبة الى تلك التي سادت في الستينات، وإذا سئلوا من أين هم تنقلت اجاباتهم من: "فلسطينيون بالتأكيد" إلى "عرب إسرائيل". والأردن هو المنفذ لهم والمتنفس الذي انفتح لالتقاء بني جلدتهم. ذلك ما التقطته بذكاء ادارة مهرجان جرش وظل مصاروة، وهو الذي كان سابقاً اميناً عاماً لوزارة السياحة والآثار، يعلن حتى العام الماضي ما يعني ان مسألة وجود فلسطينيي العام 1948 في أروقة المهرجان ليست تطبيعاً بل هو حقهم في أن يجدوا بلداً عربياً واحداً يلتقون فيه مع سواهم من العرب، والأردن انفتحت ابوابه لهم. وقد وجهت ادارة المهرجان في هذه الدورة ولدورات سابقة دعوات لشعراء وفرق فنية من فلسطين، والذين رأوا في ذلك تطبيعاً، لم يكن صوتهم مسموعاً كفاية بل ان افتقاد اي تواجد رسمي للدولة العبرية جعل الأمر مسألة طبيعية لا تطبيعية. في أي حال، ليلة الحادي والعشرين من هذا الشهر ليست بعيدة. هذه الليلة ستشهد الافتتاح وتصدح فيها ماجدة الرومي التي لها موقع خاص في المجتمع الأردني ولدى العرب والفلسطينيين. وفضلاً عن حلقة نقدية يشارك فيها نقّاد عرب ومحليون في عنوان "دورة عرار" تقام في مئوية ميلاد شاعر الأردن مصطفى وهبي التل المعروف بعرار، ومهرجان موازٍ للشعر يشارك فيه خمسة عشر شاعراً عربياً وقرابة عشرين شاعراً من الأردن، أعلنت ادارة المهرجان ان مصر ستكون الدولة الضيف لهذا العام وستكون لها مشاركة واسعة في المدينة الاثرية مثلما اعلنت عن مشاركة فرقة "الكرملين للباليه" وتقدم الأوبرا الشهيرة لها "طائر البجع" لشايكوفسكي في رؤية معاصرة، موسيقى ورقصاً. وتقدم فرقة اسبانية الفلامينغو وعرض للمسرح الشكسبيري الكلاسيكي الانكليزي وسواها من عروض لفرق عربية ومحلية الثالث عشر من الشهر المقبل.