في نهاية شهر حزيران يونيو الفائت، عقدت دول الاتحاد الأوروبي وأميركا الجنوبية مؤتمر قمة في مدينة ريو البرازيلية اعلنت فيه الاتفاق على "شراكة استراتيجية" بين الطرفين مبنية على التعاون الثقافي وتحرير التجارة والحوار السياسي. كما أعرب زعماء الجانبين عن رغبتهم في مباشرة المفاوضات عام 2001 بهدف انشاء كتلة اقتصادية أورو - لاتينية لتصبح اكبر تجمع من نوعه في العالم. قد يبدو هذا الحدث قليل الأهمية بالمنظار العربي، اذ تبعد اميركا الجنوبية آلاف الأميال عن المنطقة العربية، فضلاً عن ذلك فان مقررات قمة ريو لم تتطرق لا من بعيد ولا من قريب الى القضية التي تشغل الزعماء العرب راهناً، اي "عملية السلام" مع اسرائيل. الا ان لهذا الحدث انعكاساته المباشرة على المصالح العربية. فعلى الصعيد الاقتصادي، مثلاً، سيؤدي تطوير العلاقة بين الاتحاد الأوروبي ودول اميركا الجنوبية الى تخفيف الضرائب في دول الاتحاد على وارداتها الزراعية من القارة الاميركية. وهذا من شأنه ان يحد من قدرة بعض الدول العربية على تسويق صادراتها الزراعية في الأسواق الأوروبية. الجانب الأهم في قمة ريو وما تمخض عنها من نتائج، هو انها توفر للعرب، ولأصحاب القرار والرأي منهم بصورة خاصة، فرصة لتفحص أوضاع الدول العربية في المجتمع الدولي، وللمقارنة بين النهج الذي يتبعه فاعل دولي مثل الاتحاد الأوروبي في التعامل معهم، وبين النهج الذي يتبعه في التعامل مع دول وتجمعات الاقاليم الاخرى في العالم. كما ان القمة الأوروبية - اللاتينية جديرة بأن تحفز اصحاب القرار والرأي العرب على التفتيش عن اسباب التباين في التعامل الأوروبي مع دول المنطقتين. يتسم التعامل بين الاتحاد الأوروبي، من جهة، ودول اميركا اللاتينية، من جهة اخرى، بخصائص متعددة تأتي في مقدمتها الميزتان التاليتان: أولاً: الاحترام المتبادل. هذا الاحترام لم يبرز في الوثيقة النهائية للمؤتمر التي تشدد على فكرة الشراكة المتوازية والمتساوية على كل صعيد، سواء في مجال التجارة او الثقافة او السياسة فحسب، ولكنه برز ايضاً في نمط المشاركين في القمة، وفي هوية الكتلة المقترحة باعتبارها تجمعاً يضم فريقين لكل منهما شخصيته الحضارية المتميزة ومصالحه الخاصة. كذلك برز الاحترام المتبادل عبر اقرار الاتحاد الأوروبي بمكانة ميركوسور سوق اميركا الجنوبية المشتركة كركن رئيسي في بناء الشراكة بين المنطقتين. ولعبت "ميركوسور" دوراً رئيسياً في الاعداد للقمة وفي تحديد نتائجها. لقد تحولت "ميركوسور"، التي خرجت الى الوجود في اول التسعينات وبمبادرة اميركية جنوبية خالصة، الى اهم تكتل اقليمي في المنطقة. وستقوم، وفقاً لمقررات القمة، بمتابعة المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي الرامية الى قيام التكتل الأورو - لاتيني. هذا الدور الذي تضطلع به "ميركوسور" يعكس اهميتها الراهنة ولكنه، سيعزز، من ناحية اخرى، وبمباركة أوروبية، مصداقيتها في القارة الاميركية وعلى الصعيد الدولي، كما يزيد من اهميتها كواحدة من التكتلات الاقليمية الرئيسية في العالم. ثانياً: تشكل هذه الشراكة خروجاً عن القواعد التي رسمتها الولاياتالمتحدة منذ اعلان "مبدأ موزو" للتعامل بين أوروبا وأميركا اللاتينية. فالولاياتالمتحدة لا ترحب عادة بقيام علاقات خاصة ومباشرة ونامية بين دول المنطقتين، وهي تعتبر ذلك، حتى ولو اختلفت المسميات والجزئيات، نوعاً من الانتهاك الأوروبي لحرمة البيت الاميركي، وتعدياً على منطقة نفوذ اميركية. الا ان مقررات القمة الأوروبية - الاميركية الجنوبية انطوت على تجاهل لتلك النظرة الاميركية التقليدية، كما كرست حق اميركا اللاتينية في التصرف بمعزل عن رغبات "الشقيق الأميركي الأكبر" في الشمال. وإذا كانت وثيقة "الشراكة الاستراتيجية" التي صدرت عن القمة قد اكدت رغبة الطرفين في التعاون مع سائر الاطراف الدولية الا انها، من جهة اخرى، وجهت ادانة ضمنية الى قانون هيلمز - بيرتون الاميركي الذي يعاقب الشركات الدولية التي تتعامل مع كوبا. كما ان مساهمة كوبا في المؤتمر كانت في حد ذاتها مؤشراً على رغبة الطرفين الأوروبي والاميركي اللاتيني في التصرف بمعزل عن قواعد السياسة الخارجية التي ترسمها واشنطن. مقابل الاحترام الذي يبديه الاتحاد الأوروبي لمصالح دول اميركا الجنوبية ولهويتها الحضارية ومؤسساتها الاقليمية، فانه يعتمد نهجاً مختلفاً في التعامل مع الدول العربية. فاطار الشراكة المتوسطية الذي حدده الاتحاد للتعاون مع الدول العربية لا يعترف بالهوية الحضارية لهذه الدول ولا بالرابطة العربية الاقليمية والقومية التي تجمع بينها. وهو اذ يصر على عقد الاتفاقات التجارية مع كل دولة على حدة، يفرض عليها شروطاً لا تخدم مصالحها على المدى البعيد. وبينما يحرص الاتحاد الأوروبي على التعاون مع "ميركوسور" بل على تنميتها، مع انها لا تمثل كافة دول اميركا، فانه يستبعد، عن عمد، داخل اطار الشراكة المتوسطية، التعاون مع جامعة الدول العربية التي تمثل سائر الدول العربية. هذه السياسة الأوروبية تجاه المنطقة العربية كانت موضع نقد وتساؤلات واسعة، الا ان معظم المسؤولين الأوروبيين كانوا يتجاهلون هذا النقد ويتمسكون بالتعامل مع الدول العربية على اساس ثنائي بحت. بعضهم كان يبرر هذه السياسة بأنها من باب الرغبة في مراعاة المصالح الاميركية في المنطقة العربية، او في منطقة الشرق الأوسط تحديداً. وبدا هنا ان الاتحاد الأوروبي سلّم بأن الشرق الأوسط هو منطقة نفوذ اميركية، وبأنه على الاتحاد دعم مصالح ومواقف واشنطن تجاه قضايا النفط واسرائيل والعلاقات العربية - العربية بالكامل تجنباً لاستفزاز الولاياتالمتحدة والدخول معها في صراعات لا تفيد الطرفين الاميركي والأوروبي. وربما كان في هذا التفسير شيء من الحقيقة باعتبار انه ليس من مصلحة الاتحاد الأوروبي الدخول في صراع مع الولاياتالمتحدة حينما يكون تجنب هذا الصراع ممكناً. الا ان موافقة الزعماء الأوروبيين على اقامة تكتل اقتصادي مع دول اميركا الجنوبية وموقفهم الايجابي تجاه كوبا يدلان على ان قاعدة مراعاة المصالح والحساسيات الاميركية ليست قاعدة مطلقة. فلماذا لا يتجه الاتحاد الأوروبي الى التعامل مع الدول العربية في اطار التعاون بين كتلتين اقليميتين وفقاً لنفس الاسس والمبادئ التي تحكم علاقاته مع اميركا اللاتينية ومع ميركوسور؟ لماذا لا يمد مشاريع التعاون الاقليمي العربي بالدعم السياسي والفني والمادي كما يفعل مع ميركوسور ومع مشاريع التعاون الاقليمي التي تعدها في اميركا الجنوبية؟ من الأسباب المهمة التي تحول دون اعتماد الاتحاد الأوروبي سياسة ايجابية تجاه مشاريع التعاون الاقليمي العربي، كما يفعل تجاه مشاريع التعاون الاقليمي في اميركا الجنوبية، هو ان النظرة الطاغية في اكثر دول الاتحاد - ربما باستثناء فرنسا - هي نظرة سلبية تجاه فكرة التكتل الاقليمي العربي. ومن المرجح ان تشتد هذه النظرة مع اسناد دور وزير خارجية في المفوضية الأوروبية الى الوزير البريطاني السابق كريس باتن الذي ينتمي الى نخبة سياسية لعبت دوراً مهماً في احباط مشاريع التعاون العربي. السبب الثاني المهم الذي يتيح للاتحاد الأوروبي مساندة التعاون الاقليمي في اميركا الجنوبية والوقوف موقفاً سلبياً منه في المنطقة العربية، هو القصور الذي تبديه القيادات العربية في تنمية التعاون الاقليمي بين دولها. ولعل أبرز معالم هذا القصور، هو التصدع الذي تعاني منه مؤسسات العمل العربي المشترك، فالقمة العربية الدورية معطلة كلياً، والقادة العرب لا يجتمعون الا عندما يكون هناك سبب طارئ وداهم، مع ان التحديات الداهمة والطارئة والخطيرة تدق البوابات العربية كل يوم. اما جامعة الدول العربية ومنظماتها المتخصصة فانها تعاني من ازمات مالية حادة تجعلها عاجزة عن الاضطلاع بالادوار المنتظرة منها. ومع استمرار هذه الأوضاع العربية، فانه لن يكون غريباً ان يشجع فاعل دولي، مثل الاتحاد الأوروبي، بناء التكتلات الاقليمية في اماكن كثيرة من العالم بينما يساهم في اضعاف عرى التعاون بين الدول العربية. * كاتب وباحث لبناني.