لم تمنع الخلافات العسكرية والسياسية بين الحزب الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني من انجاح عمل لجنة التنسيق العليا التي تهتم بمعالجة الملفات الاقتصادية والتنموية بحيث اصبحت اعمال هذه اللجنة وفروعها تشرف على مجمل النشاط الاقتصادي اليومي بنفس القدر الذي تشرف فيه على التخطيط المستقبلي. وبهذا السياق يمكن القول من دون مبالغة ان الإدارة الكردية في المنطقتين استفادت الى اقصى قدر من وجود منظمات الأممالمتحدة العاملة على تنفيذ القرار 986 النفط مقابل الغداء الصادر من مجلس الأمن لتعزيز خبراتها وتعميق الإصلاحات البنيوية اللازمة لإستغلال الفرصة الذهبية المتاحة امامها. ولعل اكبر انجاز حققته الكوادر الكردية الشابة هو نجاحها في تعمير اكثر من 80 في المئة من القري التي كانت دمرت وهجرت منذ بداية الثمانينات والبالغ عددها 4500 في اقل التقديرات. وأقتضى انجاز ذلك الهدف انضباطاً للإدارات والمنظمات السياسية المسيطرة على المنطقة، والتزامها بتوفير افضل الفرص لاستغلال المساعدات الدولية. وعنى ذلك في كثير من الأحيان التضحية بالكثير من التقاليد الموروثة من عهد الدولة المركزية وبيروقراطيتها الخبيرة بالفساد والإفساد. وقد افضت النجاحات التي حققتها الإدارة الكردية في أربيل والسليمانية الى تلافي الكوارث التي تسبب بها الحصار وقرارات الحظر الدولي الذي فرض على كل العراق منذ العام 1991. ومع ان هنالك الكثير من النقص في الحاجات الإنسانية اللازمة للحياة، ناهيكم عن سلع الرفاهية والمتع الثقافية والفكرية والتكنولوجيا، الا ان كردستان لم تشهد نسبة وفيات مرتفعة في صفوف الأطفال أو وفاة عدد كبير من المواطنين بسبب نقص الأدوية واللقاحات الحيوية المضادة، كما ان الإقليم الكردي تمكن من انتاج نسبة كبيرة من المواد الغذائية والخضروات والألبان والبيض واللحوم الى حد ان الإقليم بدأ تصدير الكميات الزائدة منها الى باقي انحاء العراق. واقتضى تعمير آلاف القرى الكردية قسطاً كبيراً من الأموال المخصصة للمنطقة انفقت على بناء البيوت المهدمة اولاً ومد الطرقات والجسور اليها في عملية سباق ماراثوني مع الزمن ومع المتناقضات السياسية التي تنعكس بين آونةٍ وأخرى في شكل جولات من الاقتتال الداخلي تشل عملية البناء، ويعيدها أحياناً الى نقطة الصفر. ويعتبر كثير من مسؤولي الإدارة الكردية اوضاع السكان الريفيين افضل بكثير من اوضاع اهل المدن نتيجة لوجود الحاجات الأساسية في متناول أيديهم او انهم يتمتعون بها من دون ان يدفعوا ثمناً يثقل موازنتهم. على المستوى ذاته يتمتع إقتصاد إقليم كردستان بقوة هائلة مقارنةً بالإقتصاد العراقي ككل. فعلى سبيل المثال يبلغ سعر صرف الدينار العراقي في كردستان ويدعى بالطبعة السويسرية، وهي غير شرعية في العراق 100 ضعف قيمة الدينار العراقي الرسمي ويسمى "دينار طبع" اشارة الى طبعه محلياً. وأدى هذا الى جذب كثير من المهنيين والأطباء والمهندسين وأساتذة الجامعات للعمل في المؤسسات و الجامعات والمعامل الواقعة تحت الإدارة الكردية. ويكسب الاستاذ الجامعي في 8 ايام عمل شهرياً في جامعة اربيل او السليمانية 10 اضعاف الراتب الشهري الذي يتقاضاه في جامعة بغداد او البصرة او الموصل. ولكن الحكومة لم تنظر الى ايجابيات هذا الوضع بالقدر الكافي، لا سيما انه عامل يسهم في وقف نزيف العقول العراقية التي تهجر البلد تحت وطأة الشروط الإنسانية الصعبة، بل اصدرت خلال الشهرين الماضيين تعليمات جديدة تمنع انتقال المواطنين للعمل في الإقليم الكردي. وينطبق الأمر ذاته على المجال الرياضي، إذ يستقر في مدن الإقليم عشرات من اللاعبين، بعضهم إعضاء في المنتخب العراقي أو مدربون لنوادي الدوري العراقي الممتاز. ويبدو مسؤولو النوادي الكردية في السليمانية وأربيل ودهوك مسرورين لوجود هؤلاء الذين يعتبرونهم سبباً في إرتفاع مستوى الرياضة في الإقليم. وينقل المواطنون الأكراد طرائف كثيرة نجمت عن تفاوت اسعار العملة العراقية بين بغداد وكردستان منها ان مشجعي النوادي الكردية المرافقين لنواديهم في مباريات الدوري يقيمون في فنادق بخمسة نجوم. وبكلمات اخرى اصبحت كردستان مع مرور الوقت ما كانت تمثله الكويت للعراقيين من ناحية البحبوحة الإقتصادية. ويصر الأكراد على ان الإدارة الكردية تبقى برغم كل التحولات الجارية جزءاً من الكيان العراقي، ولا تزال القوانين العراقية الأساسية سارية المفعول، باستثناء تلك التي تميز بين المواطنين لأسباب تتعلق بالإنتماء السياسي أو القومية. ومع ان العلم العراقي لا يزال علم الكيان الرسمي، الا ان البرلمان الكردي في أربيل يوشك على بحث اقتراح لقانون ينشيء علماً خاصاً بالإدارة الكردية يرفع الى جانب العلم العراقي. وكان مشروع العلم يتكون من ثلاثة الوان، هي الأحمر والأبيض والأخضر وتقع في وسطه شمس، هو الى حد ما العلم الذي رفعته جمهورية مهاباد في الأربعينات موضع تجاذب طويل بين جانب متطرف يريد إزالة العلم العراقي من كل إقليم كردستان وآخر يرفض ذلك ويتمسك بالعلم العراقي الى جانب العلم الكردي.