ربما يكون يهود العراق من المجموعات التي خسرها العرب وكانت تمثل تنوعاً وإغناء في الحياة العربية، ويُخشى ان العرب متجهون لخسارة الأكراد والامازيغيين "البربر" ومجموعات اخرى تمثل اهمية كبرى للتعددية والحيوية المطلوبة للأمم جميعها، وخصوصاً العرب، فقد ظل التاريخ العربي الاسلامي يعبر عن مسار رائع من الاستيعاب والتعددية ما جعل الحضارة العربية الاسلامية فاعلة مؤثرة. كان يهود العراق عراقيين وعرباً بالفعل، وقدموا للعراق والعرب نماذج مهمة في الأدب والفن والثقافة، وما زال سمير النقاش الروائي العراقي الذي يعيش في اسرائيل يكتب بالعربية ويتكلم بها ويعلن هويته العربية والعراقية في اسرائيل ويدافع عنها، وكان الفن العراقي ميزة مجموعة كبيرة من اليهود في العراق من المغنين والموسيقيين، لعل اشهرهم المغنية سليمة مراد التي تعرفها الاجيال السابقة من العراقيين والعرب والتي تزوجت من المغني العراقي ناظم الغزالي. ويدرس الأدب العراقي في الجامعات الاسرائيلية مجموعة من الاساتذة الكبار مثل ديفيد سميح، وساسون سوميخ، وشغل احدهم هنركيل ساسون منصب وزير مالية في احدى الحكومات العراقية، وينسب اليه الفضل في انه أصرّ في صياغة عقود الحكومة العراقية مع شركات النفط ان يكون الدفع بما يعادل قيمة الذهب. لكن معظم اليهود العراقيين هاجر الى الغرب، وقد أبقى اليهود العراقيون على تميزهم في اسرائيل والمهجر وما زالوا يعيشون حياة عراقية او كمجموعة عراقية مغتربة، وتتعلم الاجيال الجديدة منهم حتى الذين لا يعرفون العربية الفن العراقي. يعرض سامي زبيدة يهودي عراقي، استاذ في جامعة لندن تجربته كيهودي عراقي في مجلة فرنسية "شرق وغرب" وهو يعتز بعراقيته وعروبته ويتابع الثقافة العربية كمثقف عربي متقدم، وقد غادر زبيدة العراق عام 1963 وبقيت عائلته في بغداد. ولد سامي زبيدة في بغداد وكان والده ناظر محطة سكة حديد، ثم عمل في التجارة وكان على صلة واسعة بالعرب، ودرس المرحلة الابتدائية في مدرسة مسيحية، ثم انتقل الى مدرسة يهودية كانت بسبب سمعتها المرموقة تجتذب بعض العرب، ودرّسه عدد من الشخصيات البارزة في الأدب والسياسة من العرب في العراق، مثل محمد شرارة، ومحمد حسن السوري، وانخرط في اليسار العراقي، ومن المعلوم ان احد قادة ومؤسسي الحزب الشيوعي في العراق كان يهودياً "ابو فهد" وقد أعدم عام 1949. وكان معظم اليهود في الأربعينيات حوالى 130 ألفا يعيشون في بغداد ويمثلون الجزء الغالب من الطبقات الوسطى والتجار والمهنيين والأساتذة، حتى ان معظم اسواق بغداد كانت تغلق يوم السبت، وقد أدت معرفتهم باللغات الأوروبية وخبراتهم المالية والفنية الى ان ينخرطوا في تأسيس الدولة العراقية في العشرينات. ومن طرائف الحياة السياسية في العراق ان الحزب الشيوعي العراقي كان ينتظم فيه عدد كبير من اليهود وطلبت منهم قيادة الحزب ان يعتنقوا الاسلام، على رغم ان الشيوعية هي في الأصل نقيض الدين وتحاربه وتنكره، وقد اعتنق بالفعل بعض اليهود الشيوعيين الاسلام، وأصرّ بعضهم على انهم ماركسيون ليسوا يهوداً ولا مسلمين، وتعرض مثل هؤلاء لاضطهاد مضاعف لأنهم شيوعيون ولأنهم يهود، دفعهم الى الهجرة الى اسرائيل. وتضافرت على يهود العراق عوامل الطرد من العراق والجذب الى اسرائيل، وشعر معظمهم بالخيبة والاحباط عندما استقبلوا في اسرائيل في مخيمات بائسة، بل ان معظمهم وهم ابناء عائلات عريقة في التمدن والعلم كانوا يرشون بالمبيدات الحشرية مخافة عدم نظافتهم. وفي كتاب "جمهورية الخوف" لمؤلفه سمير الخليل وهو اسم مستعار للكاتب والمهندس العراقي كنعان مكية فصل عن تزايد قمع اليهود واضطهاد من تبقى منهم في العراق، ويرى مكية في ذلك خسارة للعراق والعرب ومكاسب لاسرائيل والصهيونية. كانت تجربة المسيحيين العرب بمجملها رائعة ونموذجية، فقد انخرطوا في المجتمع العربي المسلم وحضارته، ووقفوا مع المسلمين في الحروب الصليبية والحملة الاستعمارية الغربية الحديثة، فهل كان يمكن استيعاب اليهود العرب والعراقيين منهم خاصة ومشاركتهم في التصدي للهجمة الصهيونية والاحتلال الاسرائيلي للأراض العربية؟ * كاتب أردني.