يواجه الفلسطينيون مأزقاً في ما كان من قبل يبدو انجازاً عظيماً، وهو المؤتمر المزمع عقده في جنيف في منتصف تموز يوليو الحالي، للدول الموقعة على ميثاق جنيف الخاص بحماية المدنيين في وقت الحرب، وذلك بهدف تطبيق الميثاق على الأراضي الفلسطينية التي تحتلها اسرائيل. وهذا أول مؤتمر من نوعه في تاريخ الميثاق، الذي تم اعتماده في 1949، اي انه اول مؤتمر يهدف الى محاسبة دولة ما بعينها لعدم تطبيقها شروط الميثاق، ضمن صلاحيات ومرجعية قانونية تتيح لهذا المؤتمر ان يفرض عقوبات على الدولة المخالفة. جاءت الدعوة الى المؤتمر في قرار تبنته الجمعية العمومية للأمم المتحدة بغالبية حاسمة، في 9/2/1999، على رغم معارضة متشددة من الولاياتالمتحدة واسرائيل طبعاً. وارتكز الموقف الاميركي المعارض على الصيغة المعهودة، وهي ان الخلافات بين الاطراف يجب ان تحل بالمفاوضات ومن دون تدخل اطراف خارجية يعني الأممالمتحدة وتحديداً الجمعية العمومية. وتضيف واشنطن انها لا تقبل برفع صلاحيات من هذا النوع الى هيئات دولية، بصرف النظر عن خصوصية النزاع العربي - الاسرائيلي، لأن ذلك يشكل سابقة ان تم اعتمادها ستكون مساً بالسيادة الاميركية على سياستها الخارجية، اي ان واشنطن ترفض ان تكون سياستها الخارجية خاضعة لقرارات تصدر عن جهة ثالثة حتى لو كانت منظمة دولية. اما اسرائيل فترفض الفكرة من اساسها بحجج اضافية، هي ان معاهدة جنيف لا تنطبق على الأراضي الفلسطينية المحتلة في 1967، وذلك بناء على تفسير فريد للمعاهدة يرى انها تنطبق على أراضي "الغير" التي تقع تحت الاحتلال. اما الأراضي الفلسطينية التي احتلت في 1967 فهي ليست "أراضي الغير" لأنها ليست جزءاً من دولة اخرى اسرائيل طبعاً لا تعترف بالضم الأردني للضفة الغربية اي انها أراض لا صاحب لها. وبناء على ذلك فهي ليست "أراض محتلة" بل أراض تديرها اسرائيل، باستثناء القدس طبعاً والتي جرى ضمها الى الدولة اليهودية وتوسيع حدودها وترفض اسرائيل اخضاعها لأي مفاوضات. بهذه الفذلكة القانونية تعاملت اسرائيل مع ميثاق جنيف، علماً بأنها وقعت على الميثاق في 1949. وقد انبرت المنظمات اليهودية الاميركية للتصدي لجهود عقد المؤتمر في جنيف بلهجة المظلوم المندهش من هذا الاستفراد باسرائيل. والواقع ان تبني الجمعية العمومية القرار كان تتويجاً لحملة ذكية ومصرة قامت بها البعثة الفلسطينية في الأممالمتحدة. لكن ذلك النجاح يرجع كذلك الى الظروف الدولية التي احاطت بالقرار، وتحديداً الشعور بالاستياء، بل والقرف، في الأوساط الأوروبية وحتى الاميركية من مواقف رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق بنيامين نتانياهو واصراره على نسف جهود السلام والمفاوضات مع الفلسطينيين وتجميده تطبيق حتى اتفاق "واي ريفر"، ناهيك عن اتفاق اوسلو الأصلي. وكانت المجموعة الأوروبية، لهذا السبب، من اهم مؤيدي القرار. تم تبني القرار في جلسة خاصة طارئة للجمعية العمومية بناء على طلب الأردن والمجموعة العربية للنظر في الاجراءات الاسرائيلية المخالفة للقانون الدولي، وتحديداً مواصلة بناء وتوسيع المستوطنات اليهودية في الأراضي المحتلة، ومصادرة أراضي العرب، والطرد المتواصل لسكان القدس العرب، وعزل الضفة الغربية عن قطاع غزة، واجراءات الخنق الاقتصادي للفلسطينيين. وصوّت لصالح عقد مؤتمر جنيف 115 دولة بينما اعترضت دولتان فقط هما الولاياتالمتحدة واسرائيل، فيما امتنعت خمس دول عن التصويت. وانعقد من ثم في القاهرة في منتصف حزيران يونيو مؤتمر خاص لوضع ترتيبات عقد مؤتمر جنيف، تم فيه استعراض التغيرات التي شهدتها المنطقة منذ شباط الماضي. ذلك ان القرار الاصلي جاء قبل سقوط حكومة نتانياهو في الانتخابات وقبل ان تلوح في الأفق تباشير ذلك الانقلاب. وكانت السلطة الفلسطينية تحاول ادارة مأزق المفاوضات بعد ان اعلنت حكومة نتانياهو في كانون الأول ديسمبر 1998 تجميد تطبيق مذكرة "واي ريفر"، بينما الساعة تقترب من 4 أيار مايو، الموعد المحدد في اوسلو لاختتام مفاوضات الوضع النهائي التي لم تكن قد بدأت بعد. وبينما صار احتمال اعلان دولة فلسطينية في ذلك الموعد حديث الساعة وموضع الاهتمام والتفاوض مع الكتلة الأوروبية والولاياتالمتحدة، لجأ الفلسطينيون الى احياء ميثاق جنيف كتكتيك بديل في حال تعثر اعلان الدولة الفلسطينية او غياب التأييد الدولي لها. اي ان الاستراتيجية الفلسطينية في تلك الاشهر الصعبة كانت تقول للعالم واسرائيل: اذا صح فعلاً ان المفاوضات لفظت انفاسها، اعطونا دولة مستقلة على رغم انف اسرائيل او فلنعد الى نقطة الصفر ما قبل اوسلو، حيث احتلال عسكري يخضع قانوناً وقبل كل شيء لشروط ميثاق جنيف، لا للاتفاقات مع اسرائيل التي اصبحت خالية من الصلاحية بشهادة اسرائيل ذاتها. وليس في هذا الموقف تناقض، اذ لو تم اعلان الدولة الفلسطينية ولقيت اعترافاً دولياً، فانها حينئذ تستطيع التوجه الى جنيف والمطالبة بتطبيق القانون الدولي لحماية سكان الأراضي المحتلة على اساس ان الدولة الفلسطينية لا تقتصر سيادتها، نظرياً، على الأراضي التي تسيطر عليها السلطة الفلسطينية وفق ما تم من تنفيذ لأوسلو، وتظل هذه الدولة هي صاحبة اللقب القانوني على بقية الأراضي التي تحتلها دولة اخرى هي اسرائيل. وبهذا المنطق تم الاتفاق على موعد المؤتمر في 15/7/1999، علماً بأن الموعد الاصلي المقترح للمؤتمر كان في آذار مارس الماضي. ثم جاءت الانتخابات الاسرائيلية وكسبت اسرائيل متنفساً جديداً وفسحة من الوقت، وملاطفة من دول كثيرة تأمل في ان يكون ايهود باراك افضل من سلفه، وتفضل عدم الضغط على اسرائيل حتى يتسنى لرئيس الوزراء المنتخب تشكيل حكومة. وكثفت الولاياتالمتحدة جهودها لعرقلة المؤتمر، بالضغط على سويسرا اولاً للامتناع عن استضافة المؤتمر. ومع تذبذب سويسرا الا انها لا تستطيع الغاء المؤتمر الدولي. اما الضغوط على كتلة عدم الانحياز فقد فشلت بدورها حتى الآن نتيجة موقف رئيس الكتلة نلسون مانديلا لصالح المؤتمر حتى نهاية حكمه. لكن حجر الزاوية هو الكتلة الأوروبية، التي بدأت بدورها تهتز في تأييدها للمؤتمر، باستثناء فرنسا. يظل الموقف الفلسطيني حتى الآن ثابتاً في اصراره على المؤتمر. لكن المفاوض الفلسطيني يدرك ولا شك دقة الموقف ويتفهم ضرورة عدم احراج باراك في الأسبوع الأول من حكمه. وربما كان الموقف اكثر صعوبة لو ان قرار توسيع مستوطنة هار حوما جبل ابو غنيم والحاقها بالقدس تم بعد الانتخابات وبموافقة، ولو عن طريق الصمت، من باراك، ولولا التصعيد الاسرائيلي ضد لبنان، الذي يتحمل باراك مسؤوليته مثل نتانياهو تماماً، ولولا ان الحرارة الجديدة التي دبت في المسار السوري - الاسرائيلي تثير خوف الفلسطينيين من ان يلجأ باراك الى التركيز على ذلك المسار على حساب المسار الفلسطيني وتأجيل البت في موضوع القدس، بينما تواصل اسرائيل خلق وقائع جديدة على الأرض. وقد بادر الطرف الفلسطيني غداة انتخاب باراك الى اظهار بعض الليونة بشأن مؤتمر جنيف، بالاصرار على عقده وتفعيله من جهة، وتجديد المطالب الفلسطينية الأساسية من جهة اخرى، التي يمكن ان تخفف من حدة المؤتمر او القرارات الصادرة عنه. وتتلخص المطالب الفلسطينية في اربع مسائل مطلوبة من باراك لاثبات حسن نواياه وضمان التقدم في مفاوضات السلام، وهي: تأكيد الالتزام بالاتفاقات الموقعة مع الفلسطينيين، التجميد التام لنشاطات الاستيطان، بدء التنفيذ الفوري لمذكرة واي ريفر، والدخول في مفاوضات الوضع النهائي على اساس العزم على انهائها خلال ستة اشهر الى سنة. وهذه المطالب، المتواضعة، التي تطال الاجراءات الموقتة ولا تمس النتائج المتوقعة من المفاوضات، تشكل الحد الادنى الفلسطيني وهي غير بعيدة اطلاقاً عن الموقف الاميركي بذاته، ناهيك عن الموقف الأوروبي. لكن المأزق ان باراك يرفض الخوض علناً في هذه التفاصيل قبل استلام الحكم، ولم يستلم السلطة الا قبل ايام قليلة من انعقاد المؤتمر. وهو في تلك الاثناء يتسلح بحجة ان المفاوضات مع بقية الاحزاب الاسرائيلية على تشكيل هذه الحكومة لا تتيح الفرصة لاعلان اي موقف محدد من المفاوضات مع الفلسطينيين، وهي حجة تتعاطف معها واشنطن وعدد غير قليل من الدول الأوروبية. لذلك صار الضغط الآن على الفلسطينيين للتراجع عن جنيف وتحويل المؤتمر الى لقاء غير رسمي لا صلاحية محددة له في اتخاذ قرارات ولا وزن قانوني له. ويرد المفاوض الفلسطيني، مزيداً في الليونة، بأن انعقاد المؤتمر لا ينفي استئناف المفاوضات ولا يتناقض معها، بل ان المفاوضات الثنائية والمتعددة الاطراف يمكن ان تنعقد على أساس قرارات المؤتمر وامتداداً لها. واشنطن واسرائيل ترفضان هذا المنطق اطلاقاً، اذ ان فيه، من وجهة نظرهما، استمراراً للمحاولة الفلسطينية لتوسيع المرجعية القانونية للمفاوضات. وتصر اسرائيل، ومعها واشنطن، على ان المرجعية الوحيدة هي القراران 242 و338، ومؤتمر مدريد، ومعاهدة اوسلو وما نجم عنها من اتفاقات بما في ذلك واي ريفر. ولا مكان في هذا التفسير لأي جوانب اخرى من القانون الدولي، سواء ميثاق جنيف او القرار رقم 181. بل ان واشنطن واسرائيل واجهتا بغضب شديد محاولة الفلسطينيين المتكررة في الأشهر الاخيرة الرجوع الى القرار 181 الذي يمكن الاعتماد عليه كمرجعية لاعلان الدولة الفلسطينية، وكاطار لمعالجة وضع مدينة القدس التي ينص القرار على فصلها عن الدولتين العربية واليهودية ووضعها تحت ادارة دولية. لا شك في ان من الخطأ ان يتراجع الفلسطينيون الآن عن المكسب الذي تحقق بالاتفاق على عقد مؤتمر جنيف، على رغم كل الصعوبات التي تكتنفه وعلى رغم انه لن يزيد عن كونه اجراء شكلياً. ان هامش المناورة امام الفلسطينيين ضيق جداً والكرة الآن في ملعب اسرائيل وايهود باراك، وليست مهمة الفلسطينيين تسهيل حياة باراك السياسية بعد التعاون الملحوظ الذي أبدوه بضبط اعمال العنف اثناء الانتخابات والتعاون القوي مع جهود "ضبط الارهاب" بشهادة واشنطن نفسها، وعلى لسان مارتن انديك مساعد وزيرة الخارجية الاميركية لشؤون الشرق الأوسط في شهادته امام لجنة العلاقات الدولية لمجلس النواب الاميركي في 8/6/1999. فاذا كانت النوايا الحسنة متوفرة لدى باراك فلن يعيقها مؤتمر جنيف، بخاصة اذا رافق ذلك استعداد جدي من الطرف الاسرائيلي لاستئناف المفاوضات مع الفلسطينيين وتطبيق اتفاق اوسلو. ولا يضير الفلسطينيين اطلاقاً اغضاب واشنطن موقتاً وتسجيل نقطة جديدة لصالحهم بعد كل التنازلات التي قدموها. ذلك ان المفاوضات، في نهاية الأمر، ستكون مع الفلسطينيين وليس لذلك بديل مهما استاءت اسرائيل. * كاتبة فلسطينية.