برحيل علي الراعي الفاجع المفاجئ، رحلت قيمة أخلاقية ونقدية مهمة عن حياتنا الثقافية، يكاد المرء يجزم بأن أحداً سواه لن يستطيع أن يستعيدها هي بالذات. ذلك لأن علي الراعي لا يمكن أن يتكرر بقيمه الإنسانية وخصائص فهمه للأدب ونقده وتاريخه، وأقل ما يمكن قوله بهذا الصدد إنه عبر أعوامه الثمانية والسبعين قد ترك بصمته الخاصة الواضحة في الثقافة المصرية والعربية. ولد علي الراعي في القاهرة في السابع من آب أغسطس 1920 وتلقى تعليمه حتى حصل على الليسانس من قسم اللغة الإنكليزية في كلية الآداب - جامعة القاهرة سنة 1943، وعمل مذيعاً بالإذاعة المصرية وترقى حتى صار كبيراً للمذيعين قبل أن يقرر السفر الى برمنغهام لمواصلة دراسته. هناك حصل على درجة الدكتوراه عن مسرح برنارد شو سنة 1955 وعاد ليعمل في جامعة عين شمس بعض الوقت، قبل أن يتولى تحرير الصفحة الثقافية في جريدة "المساء" سنة 1956. وتولى رئاسة مؤسسة الموسيقى والمسرح في الفترة ما بين 1962 - 1969. وفي العام 1971 تولى لمدة شهرين رئاسة تحرير مجلة "الهلال" قبل أن يتركها ويترك المناصب ويعمل خلال السبعينات استاذاً في جامعة الكويت كرئيس لقسم الأدب الإنكليزي، وليؤسس هناك مؤسسة التمثيل، وحين عاد الى القاهرة اكتفى بكتابة المقالات النقدية في مجلة "المصور" ثم أخيراً في صحيفة "الأهرام" التي كان يكتب لها مقالاً أسبوعياً. وهكذا، ففي خلال خمسة وخمسين عاماً، أصبح علي الراعي، بجهد دؤوب لا يكل، واحداً من أهم النقاد العرب المعاصرين ومثقفاً واعياً ذا موقف تقدمي مبدئي لا يحيد ولا يتنازل، على رغم المناصب التي شغلها والمنابر التي تبوأها، ولا شك أن هذه المبدئية، بالإضافة الى نزاهته الشخصية وحيدته في نقده، وحبه للأعمال والنصوص التي عالجها، قد خلقت صلة حميمة بينه وبين المبدعين من ناحية وبينه وبين جمهور القراء من ناحية ثانية، بحيث أن المبدع الذي كان يتناول عمله، كان يشعر بفخر وثقة لأن علي الراعي كتب عنه دون مصلحة، وأنه قال الحقيقة. أما القراء فقد كانوا ينتظرون هذه المقالات ليستمتعوا بها كعمل فني وليتعرفوا على جديد الإبداع العربي من منظور قاض عادل ونزيه وواعٍ. ومع ذلك فقد كان علي الراعي دائماً في حالة من الصفاء الخاص والأدب الشديد والتواضع الجم. توزع عمل علي الراعي العلمي على نوعين أدبيين محددين هما المسرح والرواية، وإن كان قد تناول ما يتصل بهما من أنواع وفنون أخرى مثل خيال الظل والمقامة والقصة القصيرة. وفي كلا النوعين جمع علي الراعي بين الناقد ومؤرخ الأدب. ففي كتبه الخاصة بالمسرح مثلاً نجد ثلاثيته المهمة التي نشرت في الستينات "الكوميديا المرتجلة"، "فن الكوميديا من خيال الظل الى نجيب الريحاني" و"مسرح الدم والدموع" وهي الثلاثية التي نشرت مجتمعة بعد ذلك تحت عنوان "مسرح الشعب". بالإضافة الى دراسته عن برنارد شو، وكتابه الكبير "المسرح في الوطن العربي" وكتاب "توفيق الحكيم فنان الفكر وفنان الفرجة". أما كتبه في الرواية فقد بدأت بمجموعة من الدراسات التي كتبت فيما بين 1956 - 1962 ونشرت سنة 1964، فكانت أول كتاب جامع يتناول تاريخ الرواية المصرية "عنوانه دراسات في الرواية المصرية"، قبل كتاب عبدالمحسن طه بدر المؤسس "تطور الرواية العربية في مصر" ثم هناك كتاب الراعي المهم "الرواية في الوطن العربي" الذي كان هدفه أن يحاكي "المسرح في الوطن العربي" لكنه جاء مختلفاً، إذ أفرد فصولاً لأهم النصوص الروائية في كل منطقة من مناطق الوطن العربي، فجاء أقرب الى النقد المعمق منه الى التأريخ كما كان الحال في كتاب المسرح. وبالإضافة الى هذين الكتابين نرجو أن يصدر قريباً الكتاب الذي يجمع مقالاته التي نشرت في "الأهرام" في السنوات الأخيرة. في هذه الكتب يغلب الاهتمام بالمسرح، وهو اهتمام يعود الى الرحلة المبكرة من حياته كما هو واضح، فإن أول ما نشر كان كتابه عن مسرح "برنارد شو"، بحيث أنه حين نشر كتابه الثاني "دراسات في الرواية المصرية" قدم له بقوله: سألني كثيرون: لماذا وجهت اهتمامي، أول ما وجهت، الى الرواية المصرية، ولم أتجه فوراً الى دراسة المسرحية المصرية دراسة شاملة، على نحو ما فعلت في "مسرح برنارد شو"، وواضح من هذا التقديم أن اسم الراعي كان قد ارتبط في تلك الفترة في بالمسرح أكثر من الرواية، رغم أن دراسات في الرواية المصرية نفسه كان قد كتب بدءاً من 1956 أي بعد عودته من انكلترا بعام واحد، وربما كان سبب هذا الارتباط أن الناقد كان آنذاك رئيساً لمؤسسة الموسيقى والمسرح، ولأن مقالاته عن المسرح كانت تنشر في الصحف والمجلات بكثرة. المهم كان اهتمامه الأقدم - إذن - بالمسرح قد تطور تدريجياً لينصب على الرواية أكثر من المسرح كما هو الحال في المرحلة الأخيرة من حياته، وإن كان هذا - فيما يبدو - لا يعني الكثير بالنسبة لعلي الراعي، فهو يرى الصلة الوثيقة بين الاثنين حين يرد على السؤال السابق بقوله: "الجواب الواضح على هذا السؤال هو: إن أية دراسة للجهد العربي المعاصر في المسرح لا يمكن أن تكون عميقة بعيدة الجذور، ما لم تسبقها دراسة للرواية والقصة. ليس فقط لأن المسرح وثيق الصلة بفنون القصة، هو في الواقع الجماع الشامل لهذه الفنون هل يمكننا أن نفسر بذلك اهتمامه الأكبر به في المرحلة الأولى؟، بل لأن كثيراً من المشاكل الفنية والفلسفية والوجدانية التي واجهت كتاب الرواية قد واجهت كتاب المسرح فيما بعد". ومعنى ذلك أنه يعتبر أن النصوص الروائية أسبق الى اللغة العربية الحديثة من النصوص المسرحية، والدليل على ذلك أنه يشير - في المقدمة نفسها - إلى اسماء المسرحيين وأقدمهم توفيق الحكيم بالإضافة إلى كتاب الخمسينات نعمان عاشور ويوسف إدريس وسعد وهبة وألفريد فرج وغيرهم. أي أن تبريره لدراسة الرواية، قبل المسرح، يعود الى أن الرواية أقدم، كما أنها واجهت المشاكل نفسها التي واجهها كتاب المسرح فيما بعد. وهذه المشاكل كما يرصدها في الكتاب تتمثل في: - مصاعب الكتابة القصصية في أدب لم يعرف القصة والرواية من قبل، هذه المصاعب التي واجهت الرائدين الكبيرين محمد المويلحي ومحمد حسين هيكل. كان الاثنان يعتمدان في نضالهما لخلق اللون القصصي في أدبنا على احتكاك مباشر بآداب الغرب. وقد واجه كتّاب المسرح من بعد هذا الموقف نفسه، إذ تهيأوا ليضيفوا المسرحية الى أدب خلا من كل سابقة لهذا الفن المجيد. كذلك عرف كتّاب الرواية بعضاً من المشاكل العاطفية والفكرية التي واجهها من بعد كتّاب المسرحية، واجهوا جميعاً الموقف ذاته، كيف يعيشون في مجتمع يتغير، ويقطع في سرعة لا تزال تزداد الروابط التي تربطهم بمجتمع آخر زراعي متأخر، ظلوا حتى تلك اللحظة أسراه في الفكر والمادة معاً. ولو جاز لنا أن نبلور المشكلتين اللتين واجهتا كتاب الرواية والمسرحية بلغة نقاد جيل علي الراعي لقلنا إنهما مشكلتا الشكل والمضمون، وبصيغة أخرى، لم يشر إليها علي الراعي أيضاً مشكلة نشأة النوع ومشكلة علاقة الأعمال الأبطال أساساً بالواقع الاجتماعي المتناقض الذي هم ابناؤه الاشقياء. ويبدو لي أن هاتين المشكلتين قد مثلتا محور عمل علي الراعي طوال حياته من حيث مجال عمله، ومن حيث أصوله المنهجية أيضاً. فقد مثلت المشكلة الأولى محور عمله كمؤرخ للأدب رواية ومسرحاً. بينما مثلت المشكلة الثانية محور منهجه النقدي الذي اهتم في المقام الأول بما يمكن أن نسميه بالمضمون الاجتماعي المحايث في داخل النص الأدبي. أما المحور الأول، محور التأريخ فقد شغل في شأن الرواية نصف كتابه الأول "دراسات في الرواية المصرية"، في حين شغل أكثر من كتاب فيما يختص بالمسرح، وربما كان هذا راجعاً الى اهتمام الراعي بالمسرح في تلك الفترة كما قلنا، وربما أيضاً لأن مشكلة نشأة الرواية في نظر الراعي وجيله، لم تكن بالأهمية التي هي عليها الآن، في حين كانت معركة يوسف أدريس وغيره في الستينات حول تأصيل المسرح المصري والعربي في أوجها. ومن هنا، فعلى الرغم من أن الراعي قد تناول في "دراسات في الرواية المصرية" تأثير الأنواع الكتابية القديمة على النصوص الروائية الأولى "حديث عيسى بن هشام" للمويلحي بين المقامة والرواية، و"زينب" لهيكل بين الرواية والنثر الفني، و"دعاء الكروان" لطه حسين بين الفن والشعر والخطابة، رغم ذلك فلم يكن لدى الراعي مشكلة كبيرة في البحث في نشأة الرواية، لأنه - كما رأينا في النص السابق - كان مسلّماً منذ البداية بكونها وليدة الاحتكاك بالغرب، دون أن يعتبر في ذلك أي نوع من التبعية الضارة التي تبدت في الكتابات بعد ذلك منذ كتاب عبدالله العروي "الايديولوجية العربية المعاصرة". ومن ثم فإن بحثه عن الرواية العربية الناضجة كان بحثاً عن تحقق المعيار الجمالي الذي قدمته لنا الرواية الغربية. ورغم أن الراعي في النص نفسه المشار إليه يجمع بين الرواية والمسرحية، في شأن كونهما وليدتي الاحتكاك بالغرب، فإن بحث الراعي عن خصوصية مسرحية عربية أو مصرية في كتبه عن المسرح وخاصة "الكوميديا المرتجلة" و"فن الكوميديا من خيال الظل الى نجيب الريحاني"، يشير الى أنه، أي الراعي، لم يستسلم تماماً لهذه المقولة في شأن المسرح مثلما استسلم لها في شأن الرواية، وحاول أن يبحث عن أصول درامية في الأشكال الشعبية التي رأى أنها امتدت لدى المسرحيين المعاصرين وخاصة في فن الكوميديا. وأظن أنه - في هذا الصدد - قد أمسك بملامح شديدة الأهمية لأنها أكثر دقة من تلك التي أمسك بها يوسف أدريس على سبيل المثال. وهذا أمر يحتاج الى دراسة خاصة متأنية. أما المحور الثاني "محور الناقد"، فقد انطلق فيه علي الراعي من المنظور الاجتماعي المتأثر بالماركسية دون شك، وهذا واضح أيضاً في تأريخه. لكن ثمة خصائص ميزت علي الراعي عن جيله من المتأثرين بالماركسية أو الماركسيين، ولعل عدم اشتغال علي الراعي المباشر بالعمل السياسي، بالإضافة الى خصائصه الشخصية المتمثلة في الصفاء والرقة، والبعد الفني الكامن في حياته وكتابته، كل هذا جعله يبتعد عن الطابع الدوجماتي الذي طبع الكتابة النقدية في الخمسينات والستينات. وعلى الرغم من أن نقده للأعمال ظل قريباً من البحث عن المضمون عبر البناء العام للعمل، فإنه كان يفعل ذلك دائماً من داخل النص، دون أن يشعر هو أو القارئ أنه بحاجة ملحة للاحتكام الى المحيط الخارجي للنص، أو للمبدع، وكان هذا دون شك يجعل المتلقي قريباً من العمل ذاته الى أقصى درجة، الى درجة الحب، التي كان الراعي ينطلق منها دائماً في قراءته للعمل، دون أن يهمل أدواته النقدية في الإشارة الى هذه المهنة أو تلك بأسلوب لطيف أيضاً. وفي تقديري أن هذا المنهج في النقد الأدبي الذي نفتقده كثيراً، ولا أعتقد أن أحداً قادر على أن يعوضنا في شأنه عن علي الراعي، كان دوراًَ واضحاً أمام عيني علي الراعي، وخاصة مع تتابع مواقعه الصحافية، والمنابر التي كتب فيها، وأقصد هنا هذا الدور المهم الذي يتعالى عليه النقاد الاكاديميون، دور الوسيط بين النص والقارئ. لقد استفاد علي الراعي من مزايا الاكاديمية في الجانب التاريخي من عمله، من حيث البحث والتنقيب والتوثيق، وكذلك استفاد منه في الجانب النقدي وبصفة خاصة من طابع الموضوعية، ولكنه لم يستسلم لجفاف الاكاديمية ولغتها التي هيمنت على نقدنا العربي الاكاديمي منذ أواسط السبعينات، وحافظ على علاقته الخاصة بالنص، ونمّى مع الزمن لغة بسيطة نقية صافية واضحة وعميقة، تقود القارئ عبر دهاليز النص ومستوياته، وتساعد المبدع بذكاء غير معلن عنه بالضرورة الى الامساك بإيجابيات عمله وبالسلبيات التي يمكن أن يكون قد وقع فيها. وبهذا لا يكون علي الراعي قد مارس فقط دور الوسيط المهم بين النص والقارئ، بل أيضاً دور الوسيط الموجه ضمناً بين النص ومبدعه، وهما دوران شديدا الأهمية على الناقد - كمؤسسة - أن يقوم بهما. ولا شك أن غيابهما عن حياتنا الثقافية، هو أحد أسباب أزمة النقد، وهو أحد تجليات أزمة الثقافة والمثقفين بصفة عامة، في علاقتهم بأجهزة الإعلام من ناحية وبالأعمال الأدبية من ناحية ثانية، وبالمصادر النقدية الغربية من ناحية ثالثة. وإذا أضفنا الى هذين الدورين، دور علي الراعي في الكشف عن بعض خصائص الدراما المصرية والعربية، يكون علي الراعي قد قام على أكمل وجه بما يستطيع ناقد عربي حديث القيام به. غير أني هنا أحب أن أؤكد على دور مهم ربما يفوق - في أهميته - بقية الأدوار. هذا الدور، هو دور الناقد المثقف الوطني المبدئي، الذي اعتبر سلطته الثقافية والنقدية سلطة أعلى من أي سلطة، ولا ينبغي لها أن تخضع لأي سلطة كانت مالية أو سياسية بالمعنى الإداري للسياسة. ومن هنا اكتسبت سلطته موضوعيتها ومصداقيتها، واقتربت من أن تكون سلطة شعبية، نابعة في همومها من الشعب، ومتوجهة اليه في لغتها، وحائزة - في النهاية - على حب المبدعين والقراء. حب يأسى على فقدان علي الراعي الذي لا يستطيع النقاد الآخرون - مهما كانت قيمتهم العلمية - أن يعوضوه.. وربما لن يُسمح لهم. * ناقد وأكاديمي مصري