علي الجرباوي. البنية القانونية والتحول الديموقراطي في فلسطين. المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديموقراطية مواطن، رام الله. 1999. 113 صفحة. تميزت كتابات الدكتور علي الجرباوي بالصراحة في التشخيص والتحليل والجرأة في نقده الموضوعي الهادىء للواقع الفلسطيني وآفاق تطوره، وقد بلغت هذه الصراحة والجرأة مداها في كتابه الجديد عن البنية القانونية والتحول الديموقراطي في فلسطين حين أخذ على عاتقه مهمة تبديد الأوهام والادعاءات عن وجود ديموقراطية فلسطينية وتسمية الكوابح التي تحول دون وجودها ورسم بعض المعالم على الطريق نحو الوصول الى الديموقراطية الحقة وليس المزيفة. في مقدمة كتابه يفند المغالطات الخمس عن وجود ديموقراطية فلسطينية وهي: 1 - وجود تعددية في الحياة السياسية الفلسطينية. ويقول ان التعددية السياسية شرط ضروري لتحقق وجود نظام سياسي ديموقراطي ولكنها لا تشكل بمفردها شرطاً كافياً لهذا التحقق. والتعددية يمكن أن تكون تعبيراً عن التسامح السياسي بقدر ما تكون آلية لتغطية التفرد السياسي. 2 - انتشار ظاهرة الانتخابات في الحياة السياسية الفلسطينية. ويؤكد بهذا الصدد أن الانتخابات مع حيويتها وضروريتها وأهمية اجرائها تبقى آلية لا تنتج بالضرورة نظاماً سياسياً ديموقراطياً وإنما تعبر عنه وتعزز من وجوده. فالانتخابات قد تجري بانتظام ولكن ليس كآلية لتغيير القيادات الثابتة وإنما لتثبيت استمرارية وجودها. 3 - فاعلية المجتمع المدني الفلسطيني. وهو يرى أن المقومات لانبثاق حالة المجتمع المدني الفلسطيني لم تتيسر بعد. ويقول إن توفر بعض عناصر المجتمع المدني في بيئة سياسية معينة لا تنتج بالضرورة حالة ديموقراطية، بل ان البيئة الديموقراطية هي التي تنتج حالة المجتمع المدني وتسند استمراريته وفاعليته. 4 - توفر مظاهر حريات فردية في التراث والتجربة الفلسطينية. ويقول ان توفر مظاهر كهذه لا يعني بالضرورة تأصل هذه الحريات داخل المنظومة السياسية فيه. فقد يكون هناك ليبيرالية في مجال السماح بالتعبير عن الرأي ولكن من دون ضمان أي علاقة بين ذلك وكيفية اتخاذ القرار السياسي وفقاً للمبدأ القائل: قل ما تشاء والسلطة تفعل ما تشاء. 5 - وجود بنية قانونية في المجتمع الفلسطيني. ولكن وجود القانون لا يعتد به إلا إذا تم الالتزام بتطبيقه، والتجربة الفلسطينية غنية بوضع القوانين والمؤسسات في خدمة الزعامة القائمة. ويؤكد المؤلف أن من أهم الإشكاليات التي تعاني منها موضوعة الديموقراطية في فلسطين وأماكن أخرى كثيرة انها تقتصر على الجانب السياسي دون غيره ولا يمكن أن يوجد نظام سياسي ديموقراطي فاعل ومستمر من دون حاضنة مجتمعية مساندة وداعمة. فالديموقراطية علاقة جدلية بين عناصر وعوامل متعددة تؤثر في بعضها لتنتج نظاماً مجتمعياً يقوم على نسبية الحقيقة والتسامح وتقدير الفردية، ويؤدي الى ايجاد واستمرارية وصيانة الحقوق والحريات العامة والفردية. خصص المؤلف الفصل الأول للحديث عن الديموقراطية والواقع الفلسطيني الراهن مؤكداً في البداية ان الوضع الفلسطيني يعاني من ضعف واضح في القدرة على انتاج النظام السياسي الديموقراطي. ورغم كل المظاهر التي توحي بوجود الديموقراطية السياسية فإن النظام السياسي الفلسطيني ما يزال في بنيته وتوجهاته شديد التقليدية والبطركية والتوارثية. بعدها ينتقل الى تحليل بيئة المجتمع السياسية وبنية النظام السياسي. وفي تحليله لبيئة المجتمع السياسية يتناول: 1 - الوضع السياسي الحالي كون فلسطين ليست دولة ذات سيادة والشعب الفلسطيني مشتت داخل فلسطين وخارجها وبالتالي لا يصمد حديث الديموقراطية السياسية. 2 - الإرث السياسي الفلسطيني. ويقول ان الحياة السياسية الفلسطينية ومعها مجرى التجربة الديموقراطية عانت من شخصانية العملية السياسية وارتباطاتها تاريخياً بشخصية قيادية مركزية وكرزمية وذات استئثار كامل ومطبق على عملية اتخاذ القرار السياسي. وحتى نشوء فصائل المقاومة جاء مرتبطاً بمحاور شخصانية مركزية وأصبح كل فصيل يعرف بزعيمه الذي بقي متربعاً على العرش رغم كل المتغيرات والصراعات، ولا يمكن لنموذج السلطة القائم على الزعامة الكرزمية أن يتلاقى مع ديموقراطية العملية السياسية أو أن ينتج نظاماً سياسياً ديموقراطياً. ولا يمكن لهكذا سلطة أو نظام أن يطور سبلاً للشفافية وأسساً حقيقية للمساءلة والمحاسبة. ويؤكد الكاتب أن الإغراق في تسييس المجتمع وهيمنة السياسة على مختلف مجالات الحياة الفلسطينية كان أحد العوامل الإضافية لضعف إمكانية تطور العملية الديموقراطية. وأدت الفصائلية الى ترعرع النزعة السلطوية في السياسة وفي مجالات الحياة الأخرى. فتحت غطاء ديموقراطية الفصائل نصبت الفصائل نفسها حكماً على مسيرة الشعب. وقد نمت في الجيل الذي نشأ وترعرع في أجواء الفصائلية أرضية خصبة للتصلب الفكري والعقائدية على حساب تطور عقلية متفتحة تؤمن بأساسية الحوار وشرعية وجود الرأي الآخر. 3 - الثقافة السياسية السائدة، ويشير هنا الى أن الديموقراطية تقوم على توفر ثلاثة مقومات قيمية داخل المجتمع أهمها: - ان تؤمن أغلبية المجتمع بعدم وجود حقيقة مطلقة ثابتة ونهائية. - ان يقوم المجتمع على أساس توفير قيمة التسامح فيه وأن يرعاها. - ان يعترف المجتمع ويحترم فردية أفراده وقدرتهم على تحديد مصائرهم. ويرى المؤلف أن المجتمع العربي ومنه المجتمع الفلسطيني لا يوفر هذه المقومات القيمية لتطور الديموقراطية. في حديثه عن بنية النظام السياسي يؤكد أن قيام السلطة الفلسطينية جاء مكبلاً بتقييدات موضوعية تعيق مسار عملية التحول الديموقراطي وتحول دونه. وقد أدت هذه العوامل الموضوعية والتي فرضتها اسرائيل في الاتفاقات الى تحفيز انتاج عوامل ذاتية فلسطينية منبثقة عنها أدت الى إحكام الطوق حول عملية تبلور بنية النظام السياسي الفلسطيني لذلك جاءت بنية النظام المرتكز على الاتفاقيات مع اسرائيل لتكون عائقاً بنيوياً أمام تحقق عملية التحول. بعدها يستعرض المؤلف تقييدات الاتفاقات الفلسطينية - الإسرائيلية وانعكاساتها في قانون الانتخابات الفلسطيني والحياة الحزبية والعلاقة بين السلطات الثلاث. ويقول لقد تم تنظيم هيكلية السلطة بحيث يتم الاحتفاظ بالصلاحيات الأساسية عند رئيسها الذي يمنح بدوره من يشاء الصلاحيات التي يريد وفقاً للنموذج البطركي. ويخلص في ختام هذا الفصل الى القول: لقد رأى الفلسطينيون كيف يموت الحلم الفلسطيني ليس فقط لأسباب اسرائيلية وخارجية وإنما أيضاً لأسباب فلسطينية الأمر الذي ولد الإحباط والعبثية السياسية في الشارع الفلسطيني. وجاء الفصل الثاني والأخير تحت عنوان "المدخل القانوني للتحول الديموقراطي" وأكد في مقدمته ان العوامل المشار اليها سابقاً تشكل حالة عامة كابحة لإمكانية التدفق والانسياب التلقائي للعملية الديموقراطية. ويتحدث بعدها عن مأزق عملية صناعة القوانين والإصلاح القانوني عبر المجلس التشريعي الفلسطيني مؤكداً أن السلطة التنفيذية لم تتعاون في عملية صناعة القوانين مع المجلس المنتخب ولذلك بقي السواد الأعظم من مشاريع القوانين الصادرة عن المجلس بحاجة الى تصديق رئيس السلطة التنفيذية بما في ذلك القانون الأساسي الذي يعتبر دستور المرحلة الانتقالية. ويستعرض بعدها ما جاء في قانون المطبوعات والنشر وقانون الهيئات المحلية الفلسطينية ومشروع القانون بشأن الأحزاب السياسية ومشروع قانون الجمعيات الخيرية والهيئات الأهلية ومشروع القانون الأساسي. ويخلص في خاتمة الكتاب الى القول أن التجربة الفلسطينية تعاني حتى الآن من انفصامية في موضوع الديموقراطية: انسياب لدرجة التسيب في الحديث فيها وعنها والتبشير بها وشح في الالتزام بمضامينها وضعف في تأصيل تطبيقاتها، وذلك على صعيدي السلطة والمجتمع. وعلى النخبة الفلسطينية أن تجد وتجتهد في عمل الكثير في مجال التغيير الذاتي.