كاتب هذه السطور لم يؤمن يوماً بفكرة المؤامرة. لم أصدق وجود مؤامرة عندما اغتيل جون كنيدي، في بدء عملي الصحافي سنة 1963، ولم أصدق وجودها عندما توفيت الأميرة ديانا في حادث سيارة قبل سنتين. وبين هذا وذاك لم أصدق ان جماعة بلدربرغ يحكمون العالم، كما لا أصدق ما قال دوايت ايزنهاور قبل هذا كله عن تآمر التكتل العسكري - الصناعي. كانت هذه مقدمة لا بد منها لأخلص الى القول ان هناك مؤامرة، وان بنيامين نتانياهو هو هذه المؤامرة. وعندي البراهين التالية: حلم السلام اصطدم بصخرة الواقع بعد اتفاقات اوسلو سنة 1993، ثم المصافحة المشهورة، ومع ان اسحق رابين، وبعده شمعون بيريز، أرادا السلام، إلا أنهما طلبا سلاماً اسرائيلياً تفصله عن السلام الذي يريده العرب هوة واسعة، لم يستطع الطرفان ردمها. وتوقفت العملية السلمية مع الفلسطينيين، ثم تعطلت المفاوضات مع السوريين. وكان الاميركيون يقولون في تلك الأثناء للمفاوضين العرب انهم إذا لم يستطيعوا الاتفاق مع ذلك العجوز الطيب بيريز الذي يريد بناء جسور من التجارة بين شعوب المنطقة، فإنهم لن يستطيعوا الاتفاق مع أحد آخر. العرب رفضوا هذا الكلام، والفلسطينيون اختاروا التفجيرات الانتحارية، أما السوريون فعادوا الى الصمود والتصدي، واتهام الآخرين بالخيانة. وأتوقف هنا لأذكر انه مضت تلك الايام عندما كان المسؤولون عن الشرق الأوسط في وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي من أمثال ادوارد دجرجيان وروبرت بيللترو وقبلهما وليام كوانت، أمثال هؤلاء خلفهم دنيس روس وتابعه أرون ميلر، ومعهما مارتن انديك، الذي أصبح اميركياً بين عشية وضحاها، فترك جنسيته الاسترالية مع مركز الأبحاث الذي أسسه لخدمة اسرائيل، وأصبح مسؤولاً عن الشرق الأوسط في وزارة الخارجية، مع خلفيته في الحياد المطلق بين اسرائيل وكل بلد آخر. وعندما أخذ العرب يضيقون بتعثر عملية السلام رغم نوايا الثنائي رابين - بيريز، وبحاخامات وزارة الخارجية، كان لا بد من حل جذري، فطلع طرف ما بفكرة مؤامرة جهنمية هي بنيامين نتانياهو. وانتخب نتانياهو رئيساً لوزراء اسرائيل بغالبية أعشار من واحد في المئة، وأصبح كل اميركي أو اسرائيلي آخر الأم تريزا بالمقارنة. وقضى العرب مع نتانياهو ثلاث سنوات عجاف أين منها سنوات القحط التوراتية عندما أكلت البقرات السبع الهزيلة البقرات السبع السمان، من دون ان يزيد وزنها. مع وجود نتانياهو قام بين العرب من تغزل بأخلاق مجرم الحرب اريل شارون، فكلاهما مجرم، الا ان شارون لا يكذب بقدر نتانياهو. وأصبح وزير الدفاع اسحق موردخاي من أبطال السلام، لمجرد انه يختلف علناً مع رئيس وزرائه، وهو خلاف حقيقي انتهى بالطلاق وبدور مهم لهذا العراقي اليهودي الكردي في سقوط المستوطن القادم من بروكلن، سقوطاً لا قيام بعده. ولم يتوقف تأثير نتانياهو عند حدود اسرائيل التي لا نعرف حدوداً لها بعد، وانما توقف العرب عن الشكوى من أركان وزارة الخارجية المسؤولين عن الشرق الأوسط، فهم ايضاً اصبحوا أعضاء في جماعة "السلام الآن" بالمقارنة مع نتانياهو وعصابته من المتطرفين العنصريين. وخشية ان يفوت العرب الدرس، لأن فهمهم بطيء. فقد ترك نتانياهو في الحكم ثلاث سنوات حتى أصبح شعار العرب: أي شيء ما عدا نتانياهو. وأخيراً، جاء ايهود باراك الى الحكم فأقبل عليه العرب بقضهم وقضيضهم يطلبون سلام الشجعان، أو أي سلام ممكن قبل ان يعود أمثال نتانياهو الى الحكم. باراك أفضل من نتانياهو ولا جدال، غير ان ياغو أفضل من نتانياهو، والمهم ان يكون باراك فاضلاً في طلب السلام. ولا نعود اليوم الى ماضي باراك العسكري، والى طبيعة المرات التي احتك فيها بالعرب، وانما نغلّب حسن الظن أو نمنحه "فائدة الشك" كما تقول العبارة الانكليزية، وننتظر ان يكمل المسيرة التي بدأها رابين قبل ان يقتله أنصار الفكر السياسي المنحرف لنتانياهو. هذه هي المؤامرة التي وضعت يدي، أو قلمي اذا شئنا الدقة، على خيوطها، مع اصراري على رفض فكرة المؤامرة من أساسها. وتبقى ملاحظة لا بد منها، فهناك اسرائيليون كثيرون يريدون السلام مع العرب فعلاً، وقد اثبتت الانتخابات الأخيرة أنهم غالبية كبيرة في المجتمع الاسرائيلي، وهناك يهود اميركيون أكثر منهم يريدون السلام، لذلك فالحديث عن بعض الليكوديين في الإدارة، أو الصحافة، ليس لا سامية البتة، خصوصاً مع وجود أمثال ساندي بيرغر، رئيس مجلس الأمن القومي وأحد دعاة السلام البارزين في اميركا، وكثيرين غيره. في هذا السياق لا يهمني البتة ان يصبح ريتشارد هولبروك السفير الاميركي الجديد لدى الاممالمتحدة، فالحكم عليه يكون من خلال أعماله. وكل ما أتمنى هو ان يكون بعيداً عن أفكار زوجته كاتي مارتون مؤلفة كتاب "موت في القدس"، فهي روت قصة اغتيال الكونت برنادوت، مبعوث الاممالمتحدة، وشعرتُ بأنها عاملت اسحق شامير والارهابيين أمثاله كأبطال. ولا نتصور ان هولبروك يرى قتلة مبعوث للامم المتحدة في مثل هذا الضوء وينبهر بهم. وكان ترشيح هولبروك يواجه تحفظاً من اعضاء جمهوريين في مجلس الشيوخ، الا ان السبب مطالبة الإدارة بتعيين مرشحهم المحافظ في اللجنة الانتخابية. أما مواقفه من قضايا محددة، بما فيها الشرق الأوسط، فكانت آخر همومهم، لأن السفير لن يخرج عن السياسة المرسومة، كائناً من كان.