لعل الاتجاه الغالب في تحليل العلاقات الدولية، هو ذلك الذي ينزع إلى بحث اشكالية "القوة" أكثر مما - هو يبحث في إشكالية "المعنى". ولعل أسباب ذلك واضحة. إلى حد ما: فهذا التحليل، إذ يغلب عليه تصورات المؤرخين وفقهاء القانون، يتلاءم، بسهولة، مع لعبة القياس الكمي للقوة المادية ترسانة الأسلحة، الناتج القومي الاجمالي، في إطار مؤسسي الدولة القومية. إلا أن الحاجة إلى التغيير تبدو ضرورية - حتى - في هذا المجال، وذلك في ما يتعلق بمسألة تحليل العلاقات الدولية "المعاصرة"، إذ تتبدى ضرورة أن تتجاوز هذه المسألة - مجرد - البحث في إشكاليتي المعنى والقوة، لتطال قضية العلاقة بينمها، أي: قضية العلاقة بين الهياكل التنظيمية والقيم. صحيح ، أن البحث في إشكالية المعنى تثير صعوبات مفاهيمية، تدعو إلى الحذر بدرجة أكبر من مقياس القوة .. إلا أنه يبقى من الصحيح، أيضاً، أن العلاقة - الجدلية - بين "المعنى والقوة"، التي كانت قد دُرست من قِبل عالم الانثروبولوجيا الفرنسي جورج بالاندييه، وذلك في كتاب يحمل الاسم نفسه، تمتد لتشمل كل مستويات الجدلية "الاجتماعية - السياسية"، أياً يكن حجم الجماعة أو الفئة التي تلعب دورها فيها. وهكذا، عندما نزحزح اهتمامنا التحليلي من الدائرة الكمية للقوة إلى الفضاء "الاجتماعي - السياسي" الكلي، الذي تنتشر فيه إرادات الهيمنة أي: إرادات جعل السيطرة مشروعة باستخدام وسائل أخرى غير القمع، والمعاني المرغوبة المقنّعة أو الممسرحة ايديولوجياً ..عندئذ، نمتلك الامكانات المعرفية التي نتكمن بها من دراسة لعبة العوامل الحاسمة للحظة التاريخية، أو التي تحسم حركة التاريخ في هذه اللحظة أو تلك. أقصد بالعوامل الحاسمة، هنا: العامل الاقتصادي، والعامل السياسي، والعامل الايديولوجي، والعامل الجغرافي، وحينئذ، يمكننا أن نرتب هذه العوامل تدريجياً بحسب الأهمية: سواء داخل كل مجتمع في مرحلة تاريخية معينة، أو داخل كل سياق تاريخي "اجتماعي - سياسي". فما هو حاسم في هذا السياق، قد يكون أقل حسماً في سياق آخر، وهكذا. منطقياً: يفيض "مفهوم المعنى" في النظام الدولي عن أكثر من معنى، بيد أننا، على نحو متشدد بالضرورة، سوف نعطي له معنى محدداً - مبدئياً، على الأقل - تتقاطع عنده اتجاهات عدة: "صورة شاملة للعالم تستند إلى المطابقة بين قيمه الخاصة وبعض القيم العالمية"، والسعي بذلك إلى "تضخيم الذات"، أو إلى "حق إدارة العالم"، ولعل هذين الاتجاهين يمكن الجمع بينهما، بطبيعة الحال، من وجهة نظر لاعب واحد في النظام الدولي. إلا أن الاتجاه الأول يميل إلى الاستناد على آليات "الهيمنة"، في حين يسعى الثاني إلى فرض نفسه على أي اعتبار آخر. واقعياً: ينقلنا هذا مباشرة إلى سياق اللحظة التاريخية الحالية، أو قل: سياق المرحلة التي يعيشها العالم راهناً، الموسومة "عولمة"، والتي تعبر - في حقيقتها - عن "مناخ عالمي جديد"، ارتسمت ملامحه منذ أن بات "النظام الدولي"، الذي أرسته نتائج الحرب الأوروبية الانية 1939 - 1945، عاجزاً تماماً عن انتاج نفسه ضمن المدى الذي تحرك فيه أربعة عقود ماضية ويزيد، بعد أن أصاب حركة هذا "النظام" تصدعاً وشرخاً هائلين، عدّلا - تعديلاً عظيم الحجم والتأثير - في أنماط اشتعاله كنسق، وفي توازنات القوى داخله. في هذا السياق، سياق "المناخ العالمي الجديد"، يمكن التأكيد، بصورة اجمالية، على أن التعقيد الذي يتسم به فك رموز الحقيقة الدولية، يرتكن إلى التغير الحاصل بشكل انقلابي في منحنى العلاقة بين "المعنى والقوة". التغير، الناتج عن تزامن عجيب في ما بين تطورين، يكمل أحدهما الآخر رغم الاختلاف الواضح بينهما: انتهاء الصراع الايديولوجي بين الشرق والغرب عبر الانهيار السوفياتي، فعلياً في العام 1989، ورسمياً في العام 1991، والتحول الملموس في قواعد اللعبة الدولية عبر حرب الخليج الثانية، في العام 1991. كان الهيكل القائم على قطبين، في زمن الحرب الباردة، استند إلى وجود ترابط، نسبي، بين القدرة على صنع المعنى تقديم رسالة عالمية من جهة، وخلق القوة على الصعيدين الاقتصادي والعسكري من جهة أخرى. واضطلع القطبان، بوضوح، بدور "صناع المعنى" خارج نطاق حدودهما، إذ كانا ينسبان إلى نفسيهما القدرة على إيجاد حل شامل ومترابط لما يسمى "اللغز العالمي" بحسب تعبير زكي العايدي، وتسخير الموارد الرمزية والمادية لحل هذه المعضلة الآن، يبدو أن ثمة أمثلة، عديدة، تشير الى "التغير الحاصل"، أي: فض الارتباط بين المعنى تنظيم العالم حول مجموعة من القيم السائدة ذات الاتجاه العالمي، والقوة المادية. بعبارة أخرى يبدو أن ثمة فجوة تتزايد، الآن، بين معدل الانتاج المادي ومعدل صنع المعنى. هذه الفجوة يمكن أن نلامسها عبر ملاحظة أن التغير، إياه، لم يؤد في الواقع إلا إلى التوسع، السلبي، لنطاق "إمكان نقل العوامل الفاعلة" بمعنى: تضاؤل إمكان نقل المكاسب التي تحقق لدى أحد اللاعبين في مجال معين المجال الديبلوماسي - الاستراتيجي، مثلاً إلى مجال آخر اقتصادي أو تجاري. وربما هذا ما يفسر نزوع القوة الاقتصادية والقوة السياسية إلى السير في اتجاهين يزداد التباعد بينهما. ضمن أمثلة عديدة، تفيض عن حاجتنا في الاستدلال، نكتفي بذكر اثنين: الأول، التناقض الصارخ بين الدراية التقنية الدولية للولايات المتحدة الاميركية على الصعيد "الديبلوماسي - الاستراتيجي" والتي دعمها الانهيار السوفياتي، وبين التراجع المتزايد لمصادر رخائها الاقتصادي الداخلي زيادة الاستهلاك، قلة الاستثمارات، انعدام وجود سياسة صناعية من أي نوع خارج البحوث العسكرية والفضائية ولعل هذا التناقض يكتسب اهمية متزايدة، من حيث كونه لا يتعلق بممارسة الإرادة فحسب، وإنما يطال مدى الصعوبة البالغة التي تكتنف خلق "الهيمنة" الهيمنة من دون قسر، فالولاياتالمتحدة لم تنجح، إلى الآن - خارج نطاق المجال "السياسي - العسكري" لحلف الأطلنطي، إذ كان "النجاح" أمراً متوقعاً - في تحويل ألمانياواليابان عن سياستهما النقدية، أو في فرض تنازلات جديدة على أوروبا واليابان، أو زيادة حجم التنازلات القائمة. وأياً كان الأمر، فإن هذا التناقض يبدو صارخاً أكبر، وإن كان معكوساً لجهة "العجز في المعنى" في حال اليابان، كمثال آخر. إذ يتضح عدم التناسب بين النموذج الثقافي الوطني، وتعميمه على النطاق العالمي. فاليابان، لا تبدو عاجزة فحسب عن تأمل العالم ما يجعلها مستوردة للمعنى بالأحرى، ولكن: ربما تأبى القيام بذلك من أجل الحفاظ على تميزها، وربما تعجز عنه لافتقار النموذج الاجتماعي الياباني إلى "الجاذبية" وعدم قابليته للتصدير إلى الخارج. وفي الحالين، فإن التناقض إياه يعد تعبيراً عن "وجود قوة من دون رسالة". التساؤل الذي يفرض نفسه، هنا، بناءً على الفجوة التي يشير إليها المثالان السابقان، الفجوة التي تتزايد، الآن، بين معدل صنع الإنتاج المادي ومعدل صنع المعنى، هو التالي: هل يمكننا على هذا النحو أن نتصور ظهور واستمرار نظام دولي متصدع بين القوى السياسية - العسكرية والقوى الاقتصادية، أو بين من يتكفلون بالحماية ومن يتبعونهم، أو بين صناع المعنى وصناع القوة؟! لعل ملامسة الإجابة على هذا التساؤل، تقتضي النظر بعين الاعتبار إلى التشابك بين إرادات اللاعبين كما لو كانت لغزاً للكلمات المتقاطعة، وثقل الضغوط التي تمثلها المنافسة العالمية، فضلاً عن تأثير الظروف، ذلك التأثير الذي يكون حاسما في بعض الأحيان. وفي الوقت نفسه، تقتضي، ملامسة الإجابة، أن نزيح عن كاهلنا التأثير السلبي الذي مارسه، وما زال، الاستهلاك الواسع لمقولات، من جنس: أن النظام الدولي يتجه إلى "التعددية" القطبية، أو: أن المرحلة الحالية تعبر عن حال من "التسيب" في النظام العالمي. فمن جهة، لا يعني القول في عصرنا الحالي بأن النظام العالمي أصبح في حال "تسيب"، أن تحيق به الفوضى المطلقة، أو يكتنفه خطر التحلل من القيود كافة، إذ، على العكس، يتجه النظام العالمي بصورة مطردة إلى "الإلتزام" في مجالات عدة، على نحو ما تشهد به القوة البالغة لظاهرة "العالمية" الاقتصادية والثقافية ظاهرة العولمة. بل يكفي أن نلاحظ كيف يبذل اللاعبون في النظام الدولي جهوداً غير عادية، وعلى نحو غير مسبوق، من أجل انتهاج نهج جماعي، يتجاوز العلاقات بين الدول إلى حد كبير، ويشهد بذلك انتشار القواعد القانونية في حقل العلاقات الاجتماعية على وجه الإجمال. أما في مجال الاقتصاديات - فإن القيود تتمتع بثقل أكبر. هذا، ناهيك عن ثقل القيود الذي يتزايد بشدة علي محور "شمال- جنوب"، حيث يظهر عدم التناظر بوضوح. فكيف يتسنى لنا، بناءً على ذلك، الاعتقاد ب "تسيب" النظام الدولي؟ إننا إذا ما نظرنا إلى الأمور عن كثب، لأدركنا أن معالم اللحظة العالمية أكثر تداخلاً مما تبدو، وأن "الصفاء العالمي" يكون في بعض الأحيان ظاهرياً أكثر منه حقيقياً، استعراضياً أكثر منه فعليا "ازدواجياً أكثر منه مشتركا". من جهة اخرى، جاء انتهاء النظام القائم على قطبين ليعيد الى روح العصر فرضية تعددية الاقطاب بصورة تكاد تكون بديهية، وهي الفرضية التي سلم بصحتها عدد كبير للغاية من المشتغلين على ساحة العمل الصحافي العربي والعالمي. وعلينا في هذا الصدد اتخاذ التدابير الوقائية في مواجهة ما يطلق عليه هيرشيمان اسم "خطر الارتداد الى الماضي". إذ أن مفهوم تعددية الأقطاب يرجع إلى الفكرة التقليدية التي ترى أن النظام الدولي يمكن تحليله إلى دول فحسب، حيث تتمتع هذه الدول في داخله بقوة متقاربة، وتسعى إلى تحقيق "الأهداف ذاتها" إلا أن التوزيع الدولي الحالي، يثير التساؤل من جديد مدى صحة هذا النهج. يكفي أن نلاحظ كيف يستحوذ اللاعبون المسيطرون، من الدول أو من غيرها، على مسؤوليات واسعة على نحو مطرد، وإن كان يتم تقاسمها بصورة متزايدة أيضاً. يعني ذلك أن "التعددية القطبية" التي يتعين علينا مواجهتها، هي مفهوم غير مسبوق، فضلاً عن ما يشوبه من نقص وعدم تجانس. غير مسبوق لأنه لا يستند إلى تمييز قاطع بين الوظائف، أو إلى تقاسم متكافئ للقوة العالمية. ثم هو ناقص وعديم التجانس لأنه يجمع بين كيانات سياسية ذات طبيعة مختلفة الاتحاد الاروروبي أو الولاياتالمتحدة، مثلا. وهكذا ففي سياق اللحظة العالمية الراهنة، أو بالأصح: سياق "المناخ العالمي الجديد" الذي نعاصر ملامحه الآن، وبما يتضمنه من نزوع إلى فض الارتباط بين المعنى والقوة، يمكننا القول: إننا إذا ما تناولنا فرضية "النظام الدولي في وضع التحول"، فإن علينا أن نسلم بأن المستوى الملائم للتحليل لا يقع في مجال التوزيع الاستاتيكي للقوة العالمية، بقدر ما هو في التفاعلات التي تربط اللاعبين في ما بينهم. ايضا.. علينا أن نسلم بأن صنع المعنى على الصعيد العالمي، إذا ما ظل هو مسؤولية المسيطرين أو "راغبي الهيمنة" فإن أمر تفسير ذلك المعنى ديموقراطية السوق، مثلا يفلت على نحو مطرد من أيدي من ينشرونه. ولذا، فإن "تصدير المعنى"، في ما يبدو، هو أمر يتسم بالتقلب والازدواجية في ما نعاصره من "مناخ عالمي جديد".