"محرم فؤاد" فنان عاش بين الجيل الذهبي للاغنية المصرية في زمن الفن الجميل، واستطاع ان يجد لنفسه مكاناً بينهم عبر قدراته المتميزة. لكن محرّم ينتمي الى جيل من الفنانين الذين يحترمون فنهم ويرفضون التنازلات ويقاومون السقوط في الفن التجاري. ولذلك كسرت أغانيه حاجز الزمن وعاشت مديداً. وفؤاد هو الوحيد "الصامد" من جيله على الساحة الغنائية الآن ويحرص على تقديم الطرب الشرقي الأصيل بعيداً من الاسفاف الذي يعرفه اليوم الشارع الغنائي. "الحياة" التقته لتتعرف على بداية مشواره الفني، وعلى جوانب مضيئة من حياته وأحلامه وإنكساراته، وهو عاد في الفترة الاخيرة الى قديمه ليعيد توزيعه. عرفك الجمهور من خلال فيلم "حسن ونعيمة" ومن أدائك اغنيتي "رمش عينه" و"الحلوه داير شباكها" هل كانت هذه الاغاني اغانيك الاولى؟ - لا .. هذه الاغاني مثلت الإنتشار العريض الناجح وبداية الشهرة، ولكن قبل هذا الفيلم وهذه الاغاني كان هناك مرحلة الدراسة في المعهد ومقابلتي للملحن محمد الموجي وتعاوني معه، واشتغالي بالمسرح وغنائي في الاذاعة. كل هذه التجارب لم تكن منتشرة لانها كانت ضيقة الحدود، ولم تكن معروضة على الملأ إلى أن جاءت السينما وحدث الانفجار الكبير، والسينما هي عالمي وأنا مغنٍ وممثل سينمائي .. ولا أخفيك أنني في البداية كنت احفظ كل ما يذاع في الراديو سواء كان لأصوات رجال او نساء، وفي الثامنة لحنت اول اغنية لي كان اسمها على ما اعتقد ياأحلى البنات كلهم يابنت شيخ البلد ويبدو انني ولدت في قلب عصر الفن الغنائي، وعندما بدأت الغناء كان مثلي الاعلى محمد عبدالوهاب، وموسيقى سيد درويش، وبعد تخرجي من معهد الموسيقى، لم أكن أغني لأي أحد.. كنت أغني أغاني الخاصة والتي لحنها لي محمد الموجي وعبدالعظيم محمد، وطوال حياتي الفنية لم أغن اغنية أدّاها مطرب قبلي، واحترم جداً فنون الآخرين ولا اقترب اليها ولا ألمسها ومن يغني لمطرب سواه يغني أثناء الدراسة في معهد الموسيقى، ولكن ان يظهر في الاذاعة والتلفزيون ويغني لمطرب آخر فهذا خطأ كبير والظاهرة منتشرة الآن، لان معظم المطربين حاليا هواة .. وإذا رأى أحد منهم أنه صاحب فكر موسيقى وغنائي أو أنه محترف ومجتهد وله اداء مميز فهو لن يفكر ان يغني لأحد .. ومن وقف بجوارك في بداية طريق الفن؟ - لم يساندني احد إطلاقا. الموهوب والمجتهد يسانده عمله وكفاحه ووعيه ودراسته وإنما الذين كانوا شاعرين بي وإنني سيكون لي شأن في المستقبل كانوا كثيرين كالمنتج والمخرج حسن رمزي، والموسيقار محمد عبدالوهاب وكثير من المخرجين مثل بركات وحلمي رفله. معروف أن اسمك "محرم حسين" من الذي اختار لك اسمك الفني؟ - أنا الذي اخترته من بين اسماء كثيرة جداً وهي تعدّ ب30 اسماً، ومن ضمن الاسماء التي طرحت ان يكون اسمي "محرم عبدالوهاب" نسبة للموسيقار محمد عبدالوهاب منتج الفيلم وأيضا "محرم بركات" نسبة للمخرج بركات، لكنني اخترت ان يكون اسمي "محرم فؤاد" والذي شجعني اكثر على اختياره أن اسم فؤاد جليل جداً وعظيم، وفؤاد يعني القلب، وايضا اسم الملك فؤاد ومن لا يفتخر بالملك فؤاد؟!!. افلامك السينمائية التي تلت فيلم "حسن ونعيمة" لماذا لم تكن في مثل هذه القوة؟ - من قال هذا، بالعكس كل الافلام التي قدمتها لها لمسات فنية وجمالية، لكن كل فيلم حسب القصة والسيناريو، وعندما تقدم روميو وجولييت فأنت لست تقدم بهية وياسين. أما فيلم "حسن ونعيمة" فكان مكتوب في شكل هايل وتعبت جداً في هذا الدور وحفظته عن ظهر قلب ولعبته جيداً. وكل أفلامي في المستوى نفسه سواء تلك التي قدمتها في مصر او بيروت. كلها تعالج مواضيع انسانية واجتماعية تمس الاسرة العربية. كثير من المطربين قدموا قصة "حسن ونعيمة" في الاذاعة والمسرح والتلفزيون إلا إن هذه القصة ظلّت محفورة في ذاكرة الجماهير باسم محرم فؤاد وسعاد حسني لماذا؟ - لانني اعتقد أن كل الذين قدموا "حسن" بعد محرم فؤاد مجرد هواة، ويقدمون محاولات ولا بد أن تكون موجودة وأنا ارحب بالهواة دائماً، وبكل من يغني ويقدم اعمالاً فنية لانني اسعد جداً عندما أرى الموسيقيين يعملون. والاشياء تتميز بتناقضها، وأي شخص يغني لعبدالوهاب تجد الناس تقول الله ياعبدالوهاب أو الله يا عبدالحليم أو الله يامحرم.. خضت تجربة المسرح في مسرحيتين هما "القشاط" و"دنيا البيانولا" فما هو تقييمك لهاتين التجربتين وهل استطعت ان تترك بصمة في المسرح؟ - مسرحية "القشاط" كانت في الصيف، ومسارح الصيف ممكن ان تجد مسرحيات كثيرة لمجرد الموسم وهذه المسرحية ينطبق عليها هذا الكلام. فكانت عملاً بسيطاً وخفيفاً، ولكني اعتذر بمسرحية "دنيا البيانولا"والتي قدمتها مع عفاف راضي وكانت من ألحان محمد الموجي وكان لها ثقل فني وضمّت ممثلين جيدين جداً مثل جميل راتب ومحمود القلعاوي ورشدي المهدي. وتقييمي لهاتين التجربتين أنهما من التجارب المفيدة والناجحة واستطعت ان اترك بصمة من خلالهما لأنني مسرحي قبل أن أكون سينمائياً، وقد عملت في بدايتي في المسرح لمدة 4 سنوات متصلة صيفاً وشتاءً وكنت أغني واقدم اسكتشات مسرحية اكثر من مرة في اليوم الواحد. وهذه السنوات الاربع اثقلتني مهنياً وحرفياً، ولكن على رغم هذا لم يستطع احد من المخرجين ان يفجر طاقاتي الكامنة ويستغل وجودي في تقديم عمل مسرحي غنائي ضخم، لان الاهتمامات بالمسرح غير موجودة، وهناك اهتمامات كثيرة في السينما بسبب "التأميم" الذي حدث للمسرح والسينما والاستديوهات وشركات الانتاج والتوزيع. كل هذا اضر بالبلد وبالفن في مصر، ولا سيما بعد أن ألغيت النقابات الفنية عام 1958، وأعدنا بناءها من جديد عام 1978. كان ذلك رهيباً جداً، وكنت أول مؤسسي نقابة المهن الموسيقية بعد إعادة بنائها، واختيار مجلس ادارتها، واختيار نقيبها الراحل احمد فؤاد حسن. كل هذه السنين اضرت بالفن في كل انواعه، وأبسط مثال كان لدينا قبل 1951 - 1952 قرابة 450 دار سينما في مصر، بعد التأميم لم يعد لدينا أكثر من 100 دار سينما على رغم ازدياد عددنا 3 اضعاف يعني المفروض ان يكون لدينا 1500 دار سينما، و300 مسرح، و45 استديو سينمائياً حتى تواكب جميعها الحياة الإجتماعية والفنية في مصر. قدمت في الاذاعة مسلسلين ماذا تتذكر عنهما؟ - الإذاعة مجالها جميل ومؤثراتها ظريفة للمستمع وتأثير الاذاعة كان ومازال ممتازاً جداً وما زال انتشارها كبير، وأنا مثلت في لبنان فيلما وأنتجته اسمه "ولدت من جديد" عن مطرب يفقد صوته وتكثر الاشاعات من حوله. هذا الفيلم مأخوذ عن ظروف مشابهة حدثت لي في عام 1964 عندما فقدت صوتي. وجمعت احداث الفيلم الصحافي "جورج ابراهيم الخوري" وبعد عودتي للقاهرة اقترح الممثل والمخرج "محمود اسماعيل" أن يقدم الفيلم نفسه "ولدت من جديد" كمسلسل اذاعي. وفعلاً نجح المسلسل جداً ونجحت اغنياته العشر التي لحنها بليغ حمدي، وطلب محمود اسماعيل ان نحوله الى فيلم سينمائي ولكني رفضت لانه ليس من المعقول أن امثل قصة فيلم مرتين. والمسؤولون في الاذاعة لا يعرفون ان يستغلوا الفنانين الشاملين استغلالاً كاملاً. فعلى رغم نجاح هذا المسلسل فهم لم يطلبوني إلا في مسلسل ثان هو "كامل الخلعي" وكان من المفروض ان اقدم بعد هذا النجاح مجموعة كبيرة من المسلسلات من هذا النوع، لان هذه النوعية تثري الحياة الفنية وتمتع المجتمع والمستمع. يلاحظ في اغانيك أن نسبة الشجن فيها كبيرة جداً، هل يرجع هذا الى المناخ الذي عشت فيه في طفولتك؟ - أنا لا اعرف إذا كان هذا أثر عليّ أم لا، ولكني عشت في مناخ طبيعي، وكل ما أقوله في اغنياتي موجود في الحياة وأنا لا اضيف او اخترع شيئاً للناس. على أي اساس تختار اغانيك؟ - اختار اغانيّ بتأنٍ وأناقشها بيني وبين نفسي، وابحث عن الحروف والكلمات والمعاني، وايضا من تنقيبي في الماضي وإلمامي بما يدور من حولي، وهذا يجعلني أعرف وأحدد العمل الذي اختاره، لانني اختار القليل جداً وارفض الكثير جداً. على أي أساس تختار اغانيك التي تقوم بتوزيعها حالياً، هل لشهرتها أم لجودتها؟ - لجودتها وشهرتها معاً، وأنا لم أغن اغنية ذات يوم "هايفة" او "تافهة" او "تخل بالكرامة" وأنا من ضمن مبادئي ألاّ أسخف من محبوبتي وألاّ اقول لها كلمة تسيء إليها. فلا يمكن ان اقول لها مثلا "مغرور حبيبي" وبالفعل انا رفضت هذه الاغنية التي غناها عبدالحليم حافظ وارفض ايضا ان اقول "وبلدنا على الترعة بتغسل شعرها" لانها تقول انه بلدي وبالعياذ بالله ليست نظيفة، وأنا دائماً ارفض الاغاني التي تقلل من شأن الفنان وكرامته ومجتمعه. وأيضا لا أقول "جبار" لانها لفظ من اسماء الله الحسنى، وانا لا اعترض على ما يدور، ولكن هذه هي ميولي الفنية، والمفروض ان امشي في موكب خاص بي ولا اهتم بالآخرين، والفنان السليم هو الذي يلغي من حياته كلمة المنافسة خصوصاً في الفن، لان التنافس يكون على مستوى الملاكمين والمصارعين ... والناس الذين يتحدثون عن المنافسة يتحدثون وهم في المقاهي، ولا علاقة لهم بالحياة الفنية. فكلام كهذا مرفوض، والفنان يجب ان ينظر الى نفسه وأحاسيسه ومشاعره، وأنا إذا بحثت في نفسي تجد انني اناجي ربنا عند غنائي، ولا اتصور فينوس واغني لها لذلك تجد عندي لمحة الاحساس الرباني، وأرى الكمال كما يجب ان يكون أكمل في كل اعمالي الفنية والغنائية. ولكن هذا الكلام الجميل عن الاغاني يجعلني اتوقف معك عند اغنية قدمتها بعنوان "هراس جاي" لماذا قدمت هذه الاغنية؟ - هذه وجهة نظر اضيفت الى المعاني ولم يفهمها احد، وستفهم فيما بعد، رغم انها حازت على المركز الاول في الاردن عندما قدمتها، وجاءتني فكرة هذه الاغنية من مسلسل "المعدية" إذ وجدت أن حبيبة تنتظر زوجها 15 سنة وتظل تناجيه وتقول "هراس جاي" الى ان يخرج من المعتقل. لم أقرأ قصة مثلها من قبل، ففي كل قصص الحب إما يلتقي المحبون بسرعة او يموتون بسرعة مثل روميو وجولييت، وشمشون ودليلة. انا لم اقدم هذه الاغنية كعمل غنائي وحدي ولكن قدمتها المجموعة "كورال" وأنا غنيت معها، وهذه كانت المرة الأولى أنفّذ فكرة مثل هذه، وقدمت عملاً جديداً يضاف الى رصيدي الفني. هل غياب الفيلم السينمائي هو الذي قلّل من افكار الاغاني مما جعل البعض من المؤلفين يقتبس افكار الاغاني القديمة ليقدمها بصورة جديدة؟ - هؤلاء الذين تتحدث عنهم عندهم فقر دم، ناس ولدوا وعندهم "أنيميا" بسبب مبيدات الحشرات التي اضرّت بالزراعة وبسبب الكيماوي الموجود في الزراعة لم تبقَ الخضار والفاكهة سليمة، بل فسدت، وهذا الكيماوي وصل إلى دم الناس، وأنا اشبّه هؤلاء الذين يعتدون على التراث الغنائي القديم بالناس الذين يذهبون الى سوق "الكنتو" ويشترون بدلة ويغيرون من ملامحها، وهؤلاء ليسوا فنانين كاملين ولكنهم هواة متغطرسون، وليسوا على علم او دراية بما يجب ان يكون الفنان عليه او المبدع. استاذ "محرم" كيف تفسّر نجاحهم وانتشارهم؟ - والله "الفرقعة" و"الانتشار" شيء والنجاح شيء آخر، ويمكن ان تقتل شخصاً فتكتب عنك الجرائد وتصبح مشهوراً. وهكذا حال مطربي اليوم، انهم منتشرون مثل الوباء وكالجراثيم. هل تستطيع منع انتشار تلوث السيارات؟ وهل هذا نجاح؟ "لا" ده انتشار، والانتشار مثل فقاقيع الصابون يصعد ثم يختفي. لكن النجاح محسوب عليك ويسجل لمصلحتك مدى الحياة ويكون له تاريخ، وطول عمر الفن في مصر موجود فيه مثل هؤلاء المنتشرين وفيه الناجحون وياما طلع فيه تقاليع وانتشرت كلمات غريبة، والناس احيانا ترددها بسخرية او بملل.. كنت أول من وزع اغانيه القديمة في السبعينات، فما الفرق بين التوزيع الذي اجريته على اغانيك والتوزيع حاليا؟ وايضا كنت اول من قدم الاغنية الخفيفة المنتشرة حالياً؟ - انا قدمت هذه الاشكال من الغناء بدم مصري ووجدان مصري ومشاعر مصرية لها كيانها وعالمها الموسيقي مثل ألحان العباقرة كلهم الموجي وبليغ والقصبحي. وكثير من المبدعين يقدمون من تراثنا ويضيفون تراثاً جديداً من فنونهم، تراثاً له معنى. ولكن كل ما هو موجود الآن ليس له معنى، ولكن لا بد ان يكون موجوداً حتى تعمل الفرق الموسيقية ويعمل الموسيقيون وعددهم يفوق المليون. لا بد ان يرزق هؤلاء، ونقابة المهن الموسيقية تريد خمسة ملايين جنيه كل عام لصرف المعاشات والاعانات وسواها. لماذا ابتعدت عن جيلك من الملحنين امثال حلمي بكر وخالد الامير ومحمد سلطان وغيرهم من الملحنين؟ - ابتعدت عنهم فترة نظراً لظروفي الصحية، التي استمرت اكثر من خمس سنوات، منها أربع لم افكر ان امسك عوداً نظرا لتعبي الشديد، وأنا لا اعمل الا اذا كانت حالتي الصحية جيدة، حتى استطيع ان افكر جيداً لأن العقل السليم في الجسم السليم وفي الفترة الحالية سأغني لحلمي بكر اغنية اسمها "سرقتنا الأيام" وأيضاً لعبدالعظيم محمد وخالد الامير وبعض المبدعين. لماذا ابتعدت عن اضواء المدينة وليالي التلفزيون هل هو ابتعاد من محرم فؤاد أم من المسؤولين عن هذه الحفلات؟ - لا يوجد ابتعاد ولا اقتراب، انا على الحياد!! عندما يأتيني عرض بصورة جيدة ومناسبة اوافق وانا على اتم استعداد وجاهز. ولكن حتى الآن لم يأتني عرض يرضيني، وارفض دائماً العروض التي تأتي بصورة مستعجلة. أنا احب ان آخذ وقتي للظهور امام الجمهور وحين تأتي العروض يقولون لي استعد للحفلة قبل اسبوع. هذا لا يصح، العرض يجب ان يأتيني شاملاً وكاملاً. لماذا اختفت الاغنية الطويلة من حياتنا الغنائية؟ - لاختفاء المؤلفين الذين يمكنهم كتابة الاغنية الطويلة، وآخر العباقرة مؤلف او اثنان، ونحن في عصر يريد السرعة ونوعيات من الاغاني تخاطب الناس سريعاً ويجب ان تدور الحياة مرة اخرى، ويولد مؤلفون قادرون على كتابة الاغاني في القرن المقبل. من اطلق عليك لقب "صوت النيل"؟ - اصبحت مقرونا بالنيل لانني مولود على ضفافه في بولاق وعاشق للنيل بشكل كبير. وهذا الاسم اطلق على الشركة التي اسستها اولاً وكانت الثالثة بعد "صوت القاهرة" و"صوت الفن"، وكان الصحافيون والجمهور يطلقون عليّ اسماء عدة مثل "فتى النيل" و"صوت النيل".