قدمت صالة "أجيال" أعمالاً للفنانة سامية حلبي، اتسمت بأهمية خاصة تتجاوز خروجها عن نمطية التجريد الغنائي العربي. فهي تطرح اشكالاً جوهرياً يتناول ظاهرة تشتّْت خصائص اللوحة الحديثة سواء في المحترف الفلسطيني أم المحترف العربي المغترب عموماً. والفنانة من مواليد القدس عام 1936، حملتها النكبة الى بيروت عام 1947، لتستقر بعد سنوات في الولاياتالمتحدة. وعلى رغم توزّع نشاطها الفني بين نيويورك وواشنطن فقد عادت الى العرض في الصالات العربية ابتداء من العام 1995 دارة / الفنون - عمان ثم 1997 صالة أتاسي - دمشق. تبدو تجربة سامية أمينة على المسار الذي تعرفنا عليه منذ خطواتها التجريدية الأولى، من خلال استمرارها في رؤية العالم وسطح اللوحة على أساس ذرّي، وهذه النظرة تتناسخ من عقائد التجزيئية التنقيطية التوليفية التي أسسها كل من الفنانين سورا وسينياك. وبلغت بعض من اختباراتها "الفن البصري". وتعود سامية بهذا المسار الى نقطة البدء، الى تصوّر برميندس والأشعري حول الجواهر والذرات والجزيئات واكتشاف إنشتاين للماهية النورانية في مادة الطاقة التي سيّرت الأحداث الفلكية، ثم تطبيقاتها الرياضية في الفيزياء البصرية وخصوصاً الحديثة منها كالتي أسسها بروكلي الفيزياء الموجبة وسواها. لا تنفصل "ديكارتيه" إنشاء سامية اللوني عن رواسب هذا المختبر العلمي. تعرض لوحاتها مشكاة من المرايا المتعاكسة تنشطر فيها شظايا لمسات الفرشاة المصبوغة بالألوان الأساسية، توهم بالضوء من دون أن تملكه، شأنها شأن "دائرة نيوتن" اللونية التي تنقلب الى نور أبيض عند تدويرها، وكما هو شأن المواشير التي تحيل أشعة قوس قزح الى شعاع نوراني أبيض، تسعى أسراب هذه الوحدات الى التحليق في فضاء فلكي، تسيطر عليها حركة ارتعاشيّة فتبدو وكأنها ذرات من برادة حديد ملونة تموج حول مغناطيس يتحرك في اتجاهات حلزونية متعارضة. وتقترب حساسية هذا الرفيق من تواتر "الموسيقى الإلكترونية". تندرج تجربة سامية في تيار "ما بعد الحداثي" المناهض لمفهوم التراكم الثقافي في المحترف الفلسطيني. وتأسس هذا المفهوم انطلاقاً من خصائص الحلاج ونعواش منذ الستينات واستمر مع تجارب المرحوم الشاب عصام أبو شقرا في التسعينات مروراً بمنصور وعناني، بركات وقماري وسواهم. وقد سيطرت هذه الموجة عموماً على أبرز تجارب "فناني الشتات" خاصة في أوروبا، كما هو حال منى حاطوم في لندن، وناصر السومي وامال عبدالنور في باريس، وكما هو حال الديجاني في بيروت ورنا بشارة في رام الله. ولا تتعدّى رموز الخصائص الثقافية والنضالية لدى هؤلاء حدود الأختام النظرية على غرار استخدام لون النيله الكنعاني أو عنصر الصبّار، رمزاً الى تدمير القرى، وصندوق الفرجة الشعبي إلخ... تماماً كما كان بعض فناني البداية يصرون على استخدام ألوان العلم الفلسطيني في التوزيعات اللونية. تحاول سامية مع هؤلاء الخروج من عباءة الذاكرة الكنعانية وشتى أنماط الذاكرة "الأطلالية" التراثية، مؤمنة بتفاؤلية التقدم التقني، وعولمة التشكيل، مستبدلة ترسّبات اللاوعي الجماعي والفردي برقابة العقل والرياضيات والمعلوماتية. ولكن ما هو موقع تجارب سامية حلبي من زملاء هذه الحداثة المستقبلية؟ الواقع أنه لم تستطع برودة الأدوات أن تخنق رهافتها اللونية - الموسيقية الباقية، والتي ترجعها منى السعودي في نص المقدمة الى ذاكرة رسم الإيقونات وثقافة الرقش العربي والإسلامي. ولكن تبدو هوامش نزواتها "الذاكراتية" المذكورة أشد تواضعاً من مساحة الالتباس، تلك التي تربط بحثها جدياً بنظام المعلوماتية الصورة الرقمية والتوليفية بل انها لم تقصّر في تضمين المعرض بعضاً منها. في هذه المحطة تتجلى اختلافاتها مع تجريد نبيل شحادة سويسرا الذي يعتمد في فيضه وفيضاناته الصباغية على الحدس وليس على ذكاء الحساب والحاسوب، كما نعثر على الفرق النوعي بين ثقافتها الرياضية وحساسية منى حاطوم البيولوجية ونعثر كذلك في واحد من أعمال هذه الأخيرة على سياحة مبضع جرّاح داخل ذاكرة الشرايين والأوعية، والجهاز الهضمي. سيزداد مع شبحية الجسد - الأنا الذي تسجل حالاته الوجودية امال عبدالنور عن طريق الآلة الناسخة الفوتوكوبي والتي تدعوها ب"الكوبي غراف". لا ندري إذا مثّل المنفى التشكيلي درجةً من الاستقالة الطوعية على مستوى التواصل مع اللاشعور الجمعي أو الفردي! أم أنه فرصة للبحث عن "طوباوية" شمولية فلكية تقع خارج الخرائط الإتفاقية التي تشرّح أوطان كوكبنا الأرضي! أو خارج أوطان الخصائص الثقافية! لا ندري! وربما علينا ان نبحث عن جواب في أعمال الرسامة نفسها.