تعيش الولاياتالمتحدة الاميركية اليوم فترة ازدهار اقتصادي كبير بدأت قبل نحو 9 أعوام، ويرتفع اجمالي الناتج المحلي بشكل ملحوظ ويفوق متوسطه التاريخي بنسبة لا يُستهان بها، ونسبة البطالة ضئيلة جداً والتضخم الذي يرافق عادة هكذا نمو يكاد يكون معدوماً. أذهلت هذه الظاهرة خبراء الاقتصاد في العالم الذين كانوا يتوقعون تباطؤاً في حركة العجلة الاقتصادية بعد فترة طويلة كهذه، او ارتفاعاً في اسعار السلع والخدمات مما يجبر "بنك الاحتياط الفيديرالي" المصرف المركزي على رفع نسبة الفائدة للتخفيف من الغليان السائد، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، ما جعل الاقتصاديين والباحثين يطلقون على هذا الوضع اسم "الظاهرة الجديدة" ومن ثم دأبوا على تفسيره. في الوقت نفسه تعاني بقية مناطق العالم من الركود او النمو الاقتصادي البطيء، فجنوب شرقي آسيا لا تزال تتخبط بمشاكلها التي بدأت مع انهيار قيمة صرف العملات عام 1997، على رغم بعض الأدلة الايجابية التي ظهرت اخيراً. واليابان ثاني اقتصادات العالم لا تزال في غرفة العناية الفائقة، واميركا الجنوبية ليست في وضع افضل منذ انهيار البرازيل، وتشهد اوروبا نمواً ضعيفاً ايضاً. هذا التباين بين اميركا وبقية العالم دفع بعض الخبراء الى اعتناق الاستراتيجية الاميركية ودعوة باقي البلدان الى الاحتذاء بها. لكن ما هي هذه "الظاهرة الجديدة"؟ وهل غيّرت علم الاقتصاد بشكل هيكلي بحيث انه اصبح في الامكان القضاء على الكساد نهائياً باتباع السياسة الاقتصادية المناسبة، ام انها ظاهرة مرحلة استفادت من بعض العوامل الموقتة التي اذا زالت قد ينتج عنها ازمة اقتصادية كالتي حدثت في اليابان بعد فترة الغليان في الثمانينات؟ ان ميزان قوة اي اقتصاد يُقاس بواسطة "مرآة" هي سوق اسهمه المحلية. وارتفع مؤشر "وول ستريت" بما يقارب ثلاثة اضعاف قيمته في بداية عام 1994، والسبب الاساسي هو النمو المرتفع الذي تحدثنا عنه من دون وجود اي اثر للتضخم. ويقول المدافعون عن نظرية الظاهرة الجديدة ان استعمال الحاسوب بشكل شامل ودخول شبكة الانترنت في حقول العمل مع سرعة انتقال المعلومات من المستهلك الى المنتج ادت الى خفض كلفة الانتاج من ناحية، وتلبية طلبات السوق بشكل سريع من دون تثقيل كاهل الشركات بالبضائع المخزنة من ناحية اخرى، ما مكّن هذه الشركات من زيادة انتاجيتها وارباحها من دون اللجوء الى زيادة اسعارها. ويعتقد المشككون ان تأثير تحسين الانتاجية لا يزيد عن 25 في المئة من ارتفاع سوق الاسهم، بل ان هناك عناصر اخرى تدخل في المعادلة وهي: اولاً الهبوط الحقيقي لاسعار النفط والمواد الاولية خصوصاً ما حدث بسبب الازمة الآسيوية وانحسار الطلب عليها. وثانياً: قوة الدولار الاميركي وتراجع اسعار المواد المصنّعة المستوردة مما ضغط على الاسعار نزولاً. لكن كل هذا لا يفسّر الارتفاع الصاروخي للاسهم في "وول ستريت" لا سيما ان ارباح الشركات منذ عاصفة 1997 الاقتصادية تدنت كثيراً مقارنة مع الاعوام السابقة. وتحليل الظاهرة هو ان قوة الاقتصاد الاميركي بدل ان تكون السبب في ارتفاع مؤشرات البورصة هي اليوم نتيجته، وقد تبدلت المقاييس واصبحت "ردة الفعل" مكان "الفعل". وقد تكون الاصلاحات التي اجريت في اوائل التسعينات مسؤولة عن جزء من هذه الزيادة 25 في المئة كما يُقدّر بعض الباحثين. لكن سرعان ما دخل المستثمرون في حال من الحماس الجماعي لشراء الاسهم بصرف النظر عن ارباحها الحالية او المستقبلية. وصارت السيولة المالية التي تضخ في الاسواق تُولد سيولة جديدة، واخذت الفقاعة تكبر وسادت نظرية "الشخص الاكثر بلاهة" اي ان المضاربين يشترون الاسهم ولو بأسعار خيالية لأن هناك مضاربين آخرين "أشد بلاهة" يريدون شراء هذه الاسهم ولو بأسعار أعلى. ويرشد التاريخ الى ان حلقات مفرغة كهذه انتهت بانهيار عظيم عند انتقال تضخم الاصول الاسهم والعقارات الى السلع والخدمات، لكن الازمتين الآسيوية والروسية أخّرتا ذلك لأنهما مارستا ضغطاً على الاسعار خصوصاً المواد الاولية والسلع المستوردة، ومنعتاها من الارتفاع، وفي الوقت نفسه خفض الاحتياط الفيديرالي نسبة الفائدة لإزالة آثار الصدمة التي تلقاها الاقتصاد الدولي، وكان الهدف غير المقصود اعادة انتفاخ "الفقاعة المالية" ووصول المؤشرات الاميركية الى ارقام قياسية جديدة اشد خطورة. وكانت النتيجة المباشرة لكل ذلك هي شعور المستهلك الاميركي بالغنى 50 في المئة من الاميركيين يملكون اسهماً والاسراف بالصرف والشراء، محدثاً نمواً سريعاً وجاذباً استيرادات قياسية من الخارج. وحتى وقت قريب كانت ظاهرة التضخم معدومة لكن ارتفاع اسعار بعض المواد الاولية خصوصاً النفط اكثر من 60 في المئة وعودة الحيوية الى بعض الاقتصادات الآسيوية وغيرها ازالت بعض العوامل الموقتة التي أبقت الاسعار ثابتة. وجاء مؤشر الاستهلاك الاخير مرتفعاً ما جعل المركزي الاميركي يدقّ ناقوس الخطر وينذر برفع الفائدة، ما سيؤدي الى خفض السيولة المالية مما يقلل المال المتوافر للاستثمار في اسواق الاسهم وبالتالي الى انخفاضها. من ناحية اخرى، يعني الخلل القياسي والمستمر في ميزان المدفوعات الاميركية خروج كميات كبيرة من الدولارات من السوق الاميركية ومن ثم ارتفاع الفوائد الطويلة الأمد لجذب هذه الاموال ودفعها الى العودة، واثر ذلك سلبي ايضاً على الاسهم. ان السوق الاميركية بديناميكيتها وقوة مستهلكيها انتشلت قسماً كبيراً من العالم من الازمة التي عصفت به الصيف الماضي. لكن كما رأينا، فإن كل هذا مبني على سوق اسهم اسعارها مبالغة وتحدق بها الاخطار من جوانب عدة. وبذلك نكاد نكون في سباق مع الزمن بين اقتصاد عالمي تأخرت عودته الى العافية واقتصاد اميركي بدأت تبدو عليه مظاهر الارهاق والتعب. * مدير قسم الاستثمار في شركة "برايم كورب" للاستثمار في لندن.