يشهد الموسم السياحي التونسي هذا العام تدفقاً بأعداد قياسية لم يسبق ان عرف مثيلاً لها، فالطلب يفوق العرض بأكثر من 40 في المئة، ومن شبه المستحيل الحصول على حجز في الفنادق حتى نهاية ايلول سبتمبر المقبل. الأمر الذي دفع بالمسؤولين الى انشاء مرصد متخصص لمتابعة هذه الظاهرة واستيعاب سلبياتها منعاً لحدوث ارباكات وأخطاء يمكن ان تسيء لسمعة البلد السياحية. وفي حين يعزو بعض منظمي الرحلات العالميين سبب هذا التدفق الى عدول زبائنهم عن قضاء إجازاتهم في كل من تركيا واليونان نتيجة التخوف من حدوث أعمال ارهابية، يرى وزير السياحة التونسي السيد صلاح الدين معاوي ان هناك اسباباً اخرى اكثر موضوعية تقف وراء انتعاش السياحة في بلاده من بينها تحديث البنيات التحتية لهذا القطاع، وتنويع النشاطات واستخدام اليورو الذي زاد من القدرة التنافسية للمنتج السياحي المحلي مقارنة بالمناطق السياحية في جنوب اوروبا. توقعات وأضارت التوقعات الصادرة عن "المنظمة العالمية للسياحة" بأن الطلب السياحي الدولي سيتابع تطوره وفق أنماط منتظمة في السنوات القليلة القادمة. فمن المتوقع ان يتزايد مجمل الوافدين للحدود العالمية بمعدل 5.4 في المئة خلال الفترة الواقعة بين عامي 2000 و2010، أي بوتيرة أعلى من تلك المسجلة خلال العقد الأخير من القرن العشرين والتي جاورت عتبة ال 6.3 في المئة. في هذا الإطار سيصل عدد هؤلاء الى نحو 1046 مليون في العام 2010 في مقابل 672 مليون هو المتوقع وصوله في العام 2000. من ناحية اخرى، تؤكد التقارير المعدة في هذا الشأن بأن معدل الوافدين من السياح الى دول منطقة البحر الأبيض المتوسط سيرتفع بنسبة 5 في المئة، كما ان معدل النمو السياحي على مستوى التدفق نحو حدود القارة الافريقية سيكون الأعلى بزيادة مقدراها 7.5 في المئة للفترة نفسها. تنوع ومنافسة في هذا السياق، يبدو ان الطلب السياحي على تونس، كما يؤكد منظمو الرحلات الأوروبيون، سيكون اكثر أهمية من جهة توسعة رقعته وتنوعه، خصوصاً انه سيشمل العديد من الشرائح السياحية التقليدية والجديدة، كذلك الأهداف والخدمات المستحدثة التي باتت تشكل الرهان الأساسي للقطاع الاقتصادي الأول في هذا البلد. وتتركز الامكانات التي توفرها البيئة السياحية الدولية للسوق التونسية على السياحة الجماعية التقليدية وسياحة الأفراد "المستدرجين" بفعل الأسعار التنافسية المتدنية التي تقدمها شركات الطيران. ويستهدف هذا التوجه ايضاً نوعيات جديدة من الزبائن الذين تستهويهم السياحة المرتبطة بمجالات الصحة والرياضة والثقافة وكازينوهات القمار. يضاف الى ذلك نوعيات اخرى تحاول الاستفادة، في آن معاً، من حضور المؤتمرات والمعارض التجارية للقيام بجولات سياحية في أنحاء البلاد، وأخيراً، السياح القادمين من أسواق تعتبر بعيدة عن المحيط المتوسطي، كالأميركيين والآسيويين الذين بدأوا مؤخراً في التعرف على وجهة تونس السياحية. وجهة مقصودة واذا كانت تونس تعتبر وجهة سياحية مقصودة في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط، فان قدرتها الاستيعابية تبقى محدودة نسبياً سواء على صعيد تنويع أو حجم الخدمات التي تقدمها، ولا يجد المسؤولون في هذا البلد أي حرج في الاشارة الى ان القدرات المتاحة حتى الآن في هذا الميدان لا تزال دون التي تملكها الدول المنافسة، وبأنها لا تمثل في مجملها، على سبيل المثال، سوى 40 في المئة من قدرات الجزر الاسبانية. فجزيرة "مايوركا" تحوي بمفردها على أكثر من خمسة آلاف سرير. لذلك، فان الزيادة في القدرة الاستيعابية للفنادق التونسية باتت اكثر من ضرورة، خصوصاً ان الدول المنافسة مثل تركيا واليونان ويوغوسلافيا ومصر ولبنان دخلت سباقاً مع الوقت لتطوير نموها السياحي، في حين بدأت دول أخرى مثل الجزائر وموريتانيا والاردن وسوريا، بالتواجد ضمن لائحة الوجهات السياحية الحديثة بالنسبة لمنظمي الرحلات في العالم. في ظل هذه العوامل التنافسية، يبدو من الضرورة بمكان ان تدخل السوق السياحية التونسية هذا السباق بقوة لتعزيز مكانتها المتوسطية من جهة، والعمل على ان تكون على الدوام رافداً أساسياً في خدمة الاقتصاد الوطني، بمعنى آخر ادخال مفهوم "الاقتصاد السياحي" وتأثيراته في عقول المستثمرين التونسيين المنتمين للقطاع الخاص. وتشير الاحصاءات العائدة للعام 1998 بأن دخل تونس من السياحة بلغ حوالي بليون و700 مليون دولار! وان هذا الدخل سمح بتغطية 60 في المئة من عجز الميزان التجاري. كما ان هذا الدخل يأتي في المرتبة الأولى بالنسبة للمداخيل الصافية من العملة الصعبة، إذ بلغت هذه العائدات 5.17 في المئة من مجموع الصادرات التونسية. ويلعب جانب الخدمات الملحقة بهذا القطاع دوراً فاعلاً لناحية مستوى ناتج الدخل القومي والتأثير المباشر في نموه، علماً بأن قطاع السياحة قد تمكن من توفير 76 الف فرصة عمل دائمة و230 الف فرصة عمل موسمية. وتتوقع الأوساط المعنية بهذا الميدان نمو اعداد الزائرين والحجوزات الليلية والزيادة في حجم الشيكات السياحية بنسبة تزيد على 5.10 في المئة، وبناء على نتائج الأشهر الثلاثة الأولى من العام الجاري إذ ارتفع عدد السياح الأجانب الذين وصلوا الى تونس في الفترة نفسها من عام 1999 بمعدل 2.12 في المئة، أي ما مجموعه 874120 سائحاً، مقارنة ب 778830 للمدة عينها من العام المنصرم. كما ارتفع عدد الليالي التي أمضاها السياح في الفنادق التونسية بنسبة 3.10 في المئة الى 917.7 مليون ليلة مقارنة مع 177.7 مليون ليلة. أما فيما يتعلق بالانجازات التي تحققت في عامي 1997 و1998 والنتائج المنتظرة خلال السنوات الثلاث من الخطة الخمسية التاسعة، خصوصاً لناحية التوقعات بالنسبة للطلب السياحي في العالم، تشير الدراسات بأنه يمكن اعتماد معدل وسطي للطلب السياحي في تونس بحدود 6 في المئة. ويزيد هذا المعدل بنسبة ضئيلة على النمو المتوقع للقارة الافريقية 7.5 في المئة، مما سيسمح لتونس الحفاظ على حصتها في افريقيا والمغرب العربي. وتلعب الزيادة السنوية ل 13 ألف سرير اضافي خلال الخطة الخمسية العاشرة دوراً في تدعيم الاقتصاد الوطني، اذ انها ستساهم في خلق 5200 وظيفة مباشرة واكثر من 15 الف عمل موسمي، في حين ستدر عائدات إضافية تناهز 127 مليون دينار سنوياً. متطلبات الترويج انطلاقاً من القناعة الراسخة بأنه من غير الممكن وضع تونس على خارطة الوجهات السياحية في العالم من دون وجود صناعة سياحية فعلية مبنية على قاعدة اقتصاد وثقافة سياحية صحيحة، اعتمد القيمون على هذا القطاع استراتيجية تنموية متوازنة، طويلة الأمد. وقد تمحورت هذه الاستراتيجية حول نقاط خضعت بمجملها لشروط تمثلت في التشدد حيال ادارة المناطق السياحية مع تعزيز المشاريع الموجودة والمساهمة في تنويع الانتاج السياحي، آخذة في الحساب الانكعاسات البيئية والاجتماعية. مع ذلك، تبقى المسألة الأصعب كامنة في إدماج النشاط السياحي في النسيج الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والطبيعي للبلاد، وهو ما تعمل عليه الدراسات الجاري اعدادها حالياً بهدف توجيه الخيارات والأعمال التي ستتضمنها خطتا التنمية الخمسيتان، العاشرة والحادية عشرة. ومن خلال الاستنتاجات الأولية المنبثقة عن هذه الدراسات، يظهر ان المشاريع السياحية الساحلية لا تزال تشكل عصب الاقتصاد السياحي في تونس، علماً بأن السياحة الصحراوية المعروفة اليوم "بالشتوية"، والسياحة الثقافية "الاكتشافات"، وسياحتي التسلية والطبيعة، بدأت تأخذ حيزاً لا يستهان به ولا بمردوده المادي في المدى المتوسط؟ الأمر الذي يفرض ضرورة التنسيق بين مختلف المتعاطين في هذا الشأن سواء ان انتموا للقطاع العام ومؤسساته ام للقطاع الخاص. وتحاول الاستراتيجية الجديدة رفع القدرات الاستيعابية للفنادق كي تصل الى 102000 سرير بنهاية الخطة الخمسية الحادية عشرة وبالتالي مواجهة ضغط الطلب المتزايد والتصدي لضرورات المنافسة المحددة ضمن نطاق ال 91000 سرير، فالتأخير الذي حصل على مستوى خلق هذه القدرات في الخطة الخمسية التاسعة نتيجة مشاكل في التحويل بالنسبة لبعض المشاريع وعدم التطابق مع البرامج والمقاييس المطروحة بالنسبة للبعض الآخر، اضافة الى الكلفة المرتفعة للبنيات التحتية، دفعت السلطات التونسية الى اعادة النظر والحسابات في جملة من المعطيات المرتبطة بدراسات الجدوى المقدمة وتقييمها. في هذا السياق، عمدت الدولة الى تشجيع الترويج الاستثماري المحلي والأجنبي في القطاع السياحي من خلال تقديم تسهيلات ضريبية ومالية مهمة. ويأتي في طليعة هذه التسهيلات تحمل كامل كلفة البنيات التحتية من أعمال متصلة بالجوانب الحيوية للمشاريع، فعلى سبيل المثال، ساهمت الدولة في تخليص المستثمر السياحي من عبء كلفة تصل الى نحو الف دينار تونسي نحو مئة دولار اميركي لكل سرير؟ كما جهزت المدن والقرى المحيطة بهذه المشاريع بكل المستلزمات الضرورية ماء الشرب، وسائل الاتصالات، استصلاح المجاري، انشاء الطرق الفرعية، المساحات الخضراء المحيطة وجميع النواحي البيئية من دون تحميل المشروع المستفيد منها اي رسوم. وتبلغ القيمة المخصصة للبنيات التحتية السياحية في الخطتين الخمسيتين، العاشرة والحادية عشرة، نحو 408 ملايين دينار. وتترافق مع هذه التقديمات سلسلة من أشكال الدعم غير المباشر عن طريق سياسة الاقراض الجديدة التي ستسحب، حسب قول احد المسؤولين عن هذا القطاع، أية ذريعة لدى المتقاعسين عن انجاز المشاريع التي بدأوا بتنفيذها منذ سنوات واستفادوا من الخطوات التشيجيعية التي رافقت انطلاقتها في ذلك الحين. ويتعلق الأمر هنا بإعطاء التوجيهات لمصارف التنمية في أنحاء البلاد كي تعيد النظر في سياساتها الاقراضية المعتمدة في السابق والتي شكلت أعباء تمويلية وأعاقت تطور بعض المشاريع السياحية، قبل ان تتمكن من الدخول في دائرة الانتاج. وتتلخص اعادة النظر هذه في خفض نسبة الفوائد وإدخال معدلات فضلى عليها وتحصيل خدمة الدين لأجل، كما هو الحال مع المصارف التجارية. ومن بين أدوات الترويج الجديدة للاستثمار في القطاع السياحي لجوء الدولة للطلب من المؤسسات المالية العاملة في بورصة تونس للأوراق المالية ما عدا المصارف العمل على تشجيع أصحاب المشاريع السياحية التي تحمل افكاراً جديدة على الاقتراض منها وفق معايير تتماشى مع تجارب بلدان جنوب المتوسط السياحية. ويأتي القانون الذي أصدرته السلطات النقدية في تونس مؤخراً والقاضي بإعفاء عائدات الودائع والأوراق المالية للأجانب من الضرائب، مكملاً للترويج الاستثماري في البلاد، خصوصاً في القطاع السياحي. وتعطي الحكومة أهمية قصوى لزيادة الاستثمارات العربية في هذا المجال، خصوصاً الخليجية منها، التي تحتل منها المملكة العربية السعودية المرتبة الأولى. وفي الوقت الذي تتوقع تونس فيه ازدهاراً سياحياً لا سابق له تحاول السلطات المعنية توظيف كل المعطيات في الاتجاه الصحيح وتفادي الأخطاء التي يمكن ان تنجم عن التدفق الاستثنائي لموسم الاصطياف لعام 1999. كما تعمل مع منظمي الرحلات الاوروبيين منذ الآن على جعل الموسم الخريفي والشتوي مكملاً له عبر ترويج السياحة الثقافية والبيئية من خلال التركيز على الثروات المتمثلة ب 21 ألف نقطة أثرية وتاريخية في البلاد، تحد جديد يتطلب قدرات استيعابية اكبر واستثمارات أكثر. * اقتصادي لبناني