هل الأدب حرفة في الأصل، وهل يجلب الفقر على صاحبها، أم أن الأديب نفسه شخص مترفع عن المال؟ وبعيداً عن الوهم الشائع بأن الإبداع لا يكون إلا من فقير ومحروم فإن عمل الأديب لكسب المال ظل محكوما بالمشقة والتقطع والغبن. وطوال حياته يقف الأديب قاب قوسين أو أدنى من حافة الإفلاس، هو الذي يقدر في أعماقه كم هو مضطر لأن يقوم بعملين في آن: عمله اللامرئي الذي يستغرق جل وقته وجهده كأديب، وعمله الآخر الذي لا يليق به كأديب أيضاً. ضمن سياق هذه العلاقة المرة وأجوائها يضعنا يكتاب حسين بافقيه "الجوائز الأدبية.. الحدود والأقنعة" الصادر أخيراً عن نادي أبها الأدبي. فعنوان الكتاب يرسم الحدود بين الوجوه الحقيقية المتداخلة للجوائز الأدبية ويزيل أقنعتها، ولو كانت "وسط هذا الضجيج، الذي يسيل لعاب كل مثقف وأديب حينما يمني نفسه بذلك الحلم اللذيذ" حلم أن يتحول بين يوم وليلة، من إنسان حاف، إلى ثري متريش". أما مضمونه فرصد ودرس للآثار والظروف الناتجة من جدلية المنح والاستحقاق في الجوائز الأدبية والثقافية. إنه محاولة للبحث "عن منطق هذه الجوائز، وتحويلها من مادة رقمية تغازل أعيننا، إلى مذبحة يختصم حولها المتحزبون". ومع أن الجوائز الأدبية، كموضوع، مهجور، في الغالب، من قبل الأوساط الأدبية، باعتباره مادة أرشيفية تجميعية، إلا أنها لدى حسين بافقيه تأخذ موقعاً محورياً عند إثارة قضايا الأدب ومعضلاته، كونها "خلاصة الواقع بكل تناقضاته وتياراته المتناحرة". فما أن يحوز أديب جائزة حتى يبدأ الاختصام حولها ولا ينتهي "جدلاً دينياً وسياسياً وثقافياً وأيديولوجياً". وفي حال كانت جائزة كبرى يتجاوز الجدل "فرديتها" ليصبح "خلاصة للصراعات السياسية والأيديولوجية بين كتلة وأخرى، وبين تيار وآخر". يعتبر الكاتب بافقيه ظاهرة الجوائز الأدبية علامة سيميائية من علامات العصر الحديث، مثلها مثل كرة القدم والكوكا كولا والهامبرغر، وغيرها...". لقد تحولت الجائزة على الرغم من جذورها العميقة في التاريخ إلى "صناعة دولية، بالمفهوم الاقتصادي" تحقق النجومية لمن يحوزها والرواج والربح لصانعيها: الناشرين، وتشغل بال الكتاب والصحف والقراء قبل إعلان الفائز بها وبعده، كونها غدت "مبنية على التخرصات والتوقعات وتلك الطقوس التنبؤية التي تشبه في بعض وجوهها قراءة الكف: ترى من سيفوز - بدل يحوز" وفي هذا تماثل الجوائز الأدبية الأولمبياد الكروي. ارتباط الجوائز الأدبية بالمجتمعات الحديثة يرده الكاتب إلى "نمو الطبقة الوسطى المثقفة، التي كانت مهمشة في العصور القديمة والوسيطة" نتيجة لشيوع الكتاب بين الطبقات الاجتماعية بعد اختراع المطبعة، وهو كسر حق طبقة معينة في احتكار المعرفة كما كان سائداً في عهود الكتب المخطوطة. ولذلك انتقلت الجوائز الأدبية من مرحلة "الفردانية" المتمثلة في بلاط السلطان وما يمنحه من مال وخلع، إلى مرحلة "المؤسسية" التي "تعكس انتقال المجتمعات الحديثة، من شكل أحادية السلطة إلى شكل الدولة المدنية الحديثة، دولة المؤسسات". ولكن هل تخلصت الجائزة من كل موروثها الفردي أم لا تزال كما كانت منذ القدم مسألة تحدد "العلاقة الشائكة بين المثقف والسلطة"؟ وإن حسمت المسألة فإن هذا الحسم أدى ليس فقط إلى تشجيع السلطة للفنون والآداب وازدهارهما وإنما إلى فرض قيم أدبية وفكرية على الشعراء والفلاسفة، بحيث صار البلاط هو الميزان النقدي الذي يحتكم إلى ذوقه الشعراء. وعلاقة المال بالثقافة أدت إلى الارتباط العضوي بين المادح والممدوح وهو ارتباط جعل من الاقتصاد أساساً للعمل الإبداعي والفكري. ويستعرض بافقيه الأرضية التاريخية التي قام عليها ذلك الارتباط، ففي تراثنا العربي الإسلامي تعددت أشكال الجائزة وكان لها أثرها في ذيوع الشعراء منذ القصائد التي كانت تختارتها ندوة قريش لتعلقها على جدران الكعبة، والهبات السخية للشعراء في أسواق عكاظ وذي المجنة وذي المجاز ثم في المدينةالمنورة. وفي العصر العباسي تنوعت الجوائز فكان منها إجراء الرواتب وإسناد المناصب والولايات إلى الشعراء المداحين. وطالما "أهدى المؤلفون كتبهم للخلفاء والولاة فقوبلت هداياهم بالمنح التي تكفل لهم حياة مستقرة". بيد أن لتلك البلاطات مع وجهها الحسن وجهاً آخر قاسياً، إذ لفظت مبدعين آخرين وأحدث حرمانهم من الجوائز السنية إحباطاً نفسياً قاتلاً كما في حال أبى حيان التوحيدي. من هنا يرى الكاتب إلى أن الجائزة وما يدور في فلكها من العطايا والمنح يرتبط في التراث العربي الإسلامي بطبيعة البناء الاقتصادي والاجتماعي، وصورة السلطة السياسية التي كانت تجمع في شخص واحد مؤسسات الدولة مجتمعة، ووضع المثقف الطبقي والاقتصادي وعلاقته بالمجتمع والسلطة. الانتقال من مرحلة الفردية إلى المؤسساتية لا يعني حياد الجائزة ف"كل الجوائز غير محايدة" كما يقرر بافقيه في فصل عنوانه "منطق الجائزة". فجائزة نوبل أصبحت منذ الحرب العالمية الأولى "جائزة سياسية بالقوة لا بالفعل، ويبدو أنها تعد قارئة جيدة لخارطة النزاعات الدولية والاقليمية التي تجعل من قاعدة المنح أو الحجب مرتبطة بخطوط بيانية" ترفع وتخفض هذا المرشح أو ذاك. وهي ليست سوى صناعة من صناعات الغرب تمثل طابع الهيمنة في القيم والمعايير الفنية والأدبية، على العالم الثالث، وتمارس معه من خلالها ثنائية المركز والهامش. وفي مبررات وحيثيات منح كل جائزة تكمن لا حياديتها، أي منطقها. فنوبل للأدب تمنح للشخص الذي ينتج أبرز عمل في مجال الأدب يتجه الى المثالية والترشيح لها يكون من قبل الأكاديمية واللجان المماثلة لها فقط. أما جائزة فيصل العالمية للأدب فتمنح لمن قام بعمل مبدع أو دراسة أصيلة في المجال الذي يتقرر فيه منح الجائزة، وينتج عن عمله هذا خدمة واضحة واثراء للغة العربية وآدابها بصفتها لغة القرآن الكريم، ويكون الترشيح لها من قبل الجامعات ومراكز البحوث. أما الترشيحات الشخصية أو من الأحزاب السياسية فلا تقبل. كذلك تختلف جائزة الغونكور الفرنسية بكونها مقصورة على الأعمال الروائية التي من شأنها الخروج على القيم الأدبية الكلاسيكية للأعمال الروائية المكتوبة باللغة الفرنسية. وجائزة البابطين مقصورة على الشعر العربي ونقده، ولكنها تقبل الترشيحات الشخصية. وأما جائزة العويس التي تقدم في مجال الشعر والرواية والقصة والنقد والدراسات الانسانية، فتقوم على الانفتاح على مختلف التجارب الأدبية والفكرية والتوجهات الايديولوجية المصاحبة لها. كما أن جائزة شومان تشترط أن يكون الباحث عربي الجنسية ويعمل داخل الوطن العربي، وأن يكون في مرحلة الشباب. وعندما يقارن الكاتب هذه الجوائز العربية بنوبل يصل إلى أنها جميعا أقرب ما تكون الى المسابقات الأدبية منها الى مفهوم الجائزة المبني على التكريم لأنها تعلن الموضوع الذي ستمنح فيه الجائزة، وعلى الكاتب أن يتقدم بنفسه أو من خلال ترشحه، ما يوحي بأنه ليس لديها مستشارون ينتخبون أفضل الأعمال الصادرة في السنة نفسها. هذا بالإضافة إلى ضآلة عددها في كل العالم العربي. ففي فرنسا تقدم 300 جائزة أدبية سنوياً، 10 منها من ذوات الصدارة، وفي أسبانيا أكثر من 300، والولايات المتحدة 250، وتقدم الأكاديمية السويدية 50 جائزة أدبية غير جائزة نوبل. ويمضي الكاتب الى ما هو أبعد من نيل الجائزة فيبحث في مصطلح "النوبليين" الذي يطلق على من تقدموا للترشيح لجائزة نوبل ولم يفوزوا بها مشبها إياهم بمرشحي الانتخابات الذين لم يفوزوا "المرشح الدائم لجائزة نوبل" "أول مرشح عربي للجائزة أفريقي مسلم". ويجعل بافقيه من هذه الجائزة أداة للكشف عن الذهنية العربية، ف"الجائزة نص قابل لكل التأويلات" و"خلاصة لكل التناقضات" الفكرية والايديولوجية". وقصة العرب مع نويل تشكل أيضاً "مناخاً رائعاً للبحث السيكولوجي الذي من همه الكشف عن الأعماق غير الواعية التي تهيمن على العقل العربي تجاه الآخر الغربي" بحيث ينكشف كيف يتساوى في ذهن الجماهير الحصول على حقها المروع فى الاراضي العربية المحتلة والفوز بجائزة نوبل، وأيضاً كيف تتساوي العداوة المعلنة ضد الجائزة والغزل الخفي لها من قبل المثقفين مع الموقف من التطبيع مع إسرائيل. وهذان التناقض والتساوي يفضيان بالكاتب الى فصل بعنوان "المقدس والمدنس" حيث الجائزة طعم والكاتب فريسة، وعليه أن يحدد موقفه وهو يته حين تعرض عليه جائزة من مجتمع آخر، فإما "الانتماء لنا أو لهم". فالطاهر بن جلون وإميل حبيبي ونجيب محفوظ وروجيه غارودي قبلوا جوائز من الآخر المختلف عنا. وقبول الجوائز هو قبول بالهيمنة الأيديولوجية وقبول بالنظام الذي منحها ورفضها رفض له، لأن الجائزة "معادل رمزي للمكان المقدس والمكان المدنس" إما أن يجلب الطهارة أو يجلب الدنس ويوجب التطهر كما في جوائز صدام حسين لبعض المثقفين العرب التي أمست شتيمة وتهمة لهم حين تبدلت الأحوال. أخيراً، فإن من ثمرات الكتاب الذي يستحق التقدير لجدة رؤيته وتحليله لموضوعه، أن نادي أبها الأدبي الذي كان استضاف المؤلف ليحاضر عن الجوائز الأدبية العام الفائت، تبنى مقترحاته، في ما يتعلق بجائزة أبها الثقافية التي يشرف النادي عليها، وأيضاً أصدر المحاضرة في كتاب وزعه في الاجتماع الخامس عشر للأندية الأدبية الذي عقد أخيراً في مدينة أبها.