يفاجئنا القاص العُماني ىحيى بن سلام المنذري بثلاث قصص قصيرة دفعة واحدة. المفاجأة لا تكمن في عدد القصص، ولا في نشرها معاً مجلة "نزوى"، العدد 13، بل ذلك المضمون الذي يجب إضاءته كي يميز المتلقّي ما كان وما هو كائن وما لا يكون. يبدو لي أنّ القاصّ أرادها قصة واحدة ذات ثلاثة أجيال، يستهلّها بالفرح الذي ينتاب طالب مدرسة حصل على حقيبة كبيرة في القصة الأولى، وينهيها بالحلم الخدران في القصة الثالثة، معرجاً على الطموح المتصاعد على رغم العناء. وما بين الفرحة والعناء والحلم تختلط الأشياء فلا تسهل قراءة ما وراء السطور. لذا فثمّة مستويات عدة لاعادة قراءة هذه النصوص الثلاثة بحسب مدى العمق الذي يمكن أن يصل اليه السبر في أعماق القصص الثلاث. هذه المستويات يمكن أن تكون صحيحة كلّها، ويمكن أن تكون مضلّلة، كما يمكن أن تجمع بين هذا وذاك. صورة تقريبية لذلك أن يقف شاعر ورسام وجغرافي ومؤرخ أمام أية قلعة من قلاع التاريخ... فما الذي سوف يحدث؟ الشاعر ربّما ألهمته القلعة قصيدة، وربما كانت تلك القصيدة عن أمجاد الماضي والأمل باستعادتها، أو ربما اليأس من تلك الاستعادة. الرسام قد يمسك ريشته ليرسم لوحة عن القلعة، وقد تسمو به همّته أن يبثّها مشاعره وانطباعاته التي يستوحيها من تكوّنه الفكري أولاً، ومن إلهامات لا يحسّها غيره. أما الجغرافي فلا يعنى إلا بما يراه أمامه من أبعاد مادية: طول وعرض وارتفاع ومناخ. والمؤرخ لا تهمّه الأبعاد المكانيّة بمقدار ما تعنيه الأبعاد الزمانيّة. فاذا ما رافقهم انسان لا تستثير الآثار اهتمامه، فسينظر اليها نظرة سطحية ثم يتمنى لو كان في بيته يتابع هذا المسلسل أو تلك المسرحية على شاشةٍ تلفزيونية تؤنسه. قد ينظر ناقد الى قصة "الحقيبة" فيراها حادثة ساذجة لا تشتمل على مغزى، فطالب يحصل على حقيبة كبيرة يحاول أن يصعد بها الى الحافلة التي تنقله الى المدرسة مع الطلاب الآخرين، وبعد أن يجد له موضعاً فيها، ينتهره السائق طالباً منه النزول فليس في الحافلة مكان للحقائب الكبيرة. وقد ينظر ناقد الى القصة الثانية "قمة البرج" فلا يرى فيها إلا صورة رجل أتعبه الزمان يحاول أن يرتقي درجات برج عال، حتى إذا وصل الى هناك تراخى وسقط إعياء. وقد يقرأ ناقد القصة الثالثة "كيف يبدو صباح اليوم؟" فيراها مجرد أحلام يقظة يمارسها كسول لا يريد أن يتعب نفسه. هذه القراءات للأدب عموماً، ولهذه القصص خصوصاً، قراءة ساذجة على رغم أن ممارسيها قد يكونون من أساتذة الجامعات. لا يمكن لمستوى الاستبيان الأول أن يعبّر عن الحقيقة، ففي القصص المعروضة للتحليل هنا إشارات حاذقة الى ما وراء السطور، تخلّصاً من التقريرية والأحكام الجاهزة. القاصّ هنا يضع متلقّي قصصه أمام الفضاء، يتركه حراً في تلمّس المقاصد. ولا أشكّ في أن الفضاء المفتوح في سلطنة عُمان ما بين البحر والصحراء المترامية الأطراف، وشوارع المدن الفسيحة ذاتها التي تمنع عن العين التلوّث البصري، من عوامل الفسحة الرحبة التي يتميّز بها الأدب العُماني، قديمه وحديثه، ولكنّ هذا له موضوع آخر. في القصة الأولى التي عنونها المنذري ب"الحقيبة" طالب مدرسة لا نعرف اسمه ولا وصفه ولا مدينته ولا أيّ شيء عنه، فهو صالح للانطباق على ما لا عد له من الحالات في كل بلاد العرب. "فرح انتابه حينما اشترى له أبوه حقيبة كبيرة.. فرح كثيرا.. أعجبه لونها البني.. لها رائحة غريبة تشبه رائحة الدفاتر الجديدة...". منذ البدء يضعنا المنذري أمام حالة لها تضاريسها، الفرح الذي ينتابه حين يشتري له أبوه الحقيبة. لون الحقيبة البني له دلالته أيضاً، من كان في سنّه يفرح بالألوان الزاهية الصارخة لا باللون البنّي، لون له دلالته. لم يجد الصبي مقعداً شاغراً، وقف مع الواقفين، غير ان سائق الباص يطرده لأنّ شنطته كانت كبيرة. ترى ماذا أراد المنذري أن يقول؟ أليس ثمة مكان لحقيبة مليئة بكتب العلم ؟ لكن من أين للسائق أن يعرف محتويات الحقيبة؟ أم أراد أن يرمز بالحقيبة الكبيرة الى الأحلام الكبيرة وأن هذه الأحلام لم يعد لها مكان في زحام الخلائق وتدافعهم نحو "المقاعد"؟ القصة الثانية من هذه الثلاثية هي "قمة البرج". بائع يقفل دكانه، ويحاول أن يغير من عادته، فلا يرغب أن يذهب الى بيته، تقوده قدماه الى السوق، يرتقي البرج، يصل الى أعلاه باعياء. هذا الاستبيان يخالف رموزاً عدة وردت في القصة التي بناها المنذري بشكل مغاير لقصته الأولى، هناك رموز مقتطعة من واقعة تحدث وستحدث سواء تمّ توظيفها رمزياً أم لا. أما هنا فللمسألة وجه آخر. بطل القصة أيضاً ليس له اسم ولا وجه مثل آلاف أو ملايين تمرّ بهم ولا تلتفت اليهم. يعيش في مكان ما، في مدينة ما هي أيضاً بلا اسم ولا حدود. يتداخل الواقعي بالخيال والخيال بالأوهام، على رغم انّ بطل القصة لا يحمل حقيبة، هو إنسان بسيط له دكان يقيم أوده وأود عائلته التي لا نعرف عنها شيئاً. "وقت الغروب يُدخل صناديق الفاكهة والخضرة والزعتر والهيل والعدس، يغلق دكانه الخشبي ويربطه بقفل كبير. هذه الليلة انتابه هاجس من نوع غريب فهو لا يريد أن يذهب للمسجد لصلاة المغرب، ولا يريد أن يرجع الى البيت كي يتناول عشاءه، ويسمع أحاديث زوجته وأولاده. لن يضع مفتاح الدكان في حزام خصره، بل يخبّئه هذه المرة تحت صخرة صغيرة أمام الدكان". المنذري قاصّ يمتلك قابلية الرمز، يستغني عن شيء بما يوازيه أو يدلّ عليه. لقد جمع في أسماء المواد التي ذكرها أبرز ما يتعامل به الباعة في الأسواق العُمانية، فكأنّه أراد بذلك زيادة في تعميم صورة الرجل الذي يرسم ملامحه، وأراد أن يقول أن هذه الحالة ليست شاذّة ولا فريدة... فثمة آخرون يعيشون في خضمّ التطلعات والآمال، ويسعون الى تحقيقها حتى لو بلغ العناء منهم مبلغاً مؤذياً. القصة كلها "مقفلة". ثمة قفل على باب الدكان موضع المفتاح لا يعرفه الا هو، حيث وضعه تحت صخرة. السوق لها سقف، وأزقتها ملتوية مظلمة، وهو لا يريد الا فضاء الرحمة. ينظر الى سقف السوق، فتتراءى له آفاق أخرى: "سقف السوق سماء غائمة معلّق عليه قمر صغير". وبعد أن يصف القاصّ المنذري رحلة العناء والعذاب التي يتكبّدها هذا العائش في الزحام، يوصله الى غايته، يرتقي سلالم البرج، حتى يصل الى أعلاه. وهناك، هل ينتهي؟ أم يبدأ من جديد؟ هذه قصة عنوانها مصوغ على هيئة سؤال "كيف يبدو صباح اليوم؟" حيث الصباح الجميل في حلم واحد أيضاً لا نعرف عنه شيئاً، ولكن كل ذلك الجمال كان من أوهام الرافض أن يذهب الى عمله، مفضلاً أحلام اليقظة. هذا الاستبيان يهمل جزءاً مهماً من الرمز الوارد في القصة، فلننظر في استبيان آخر. تساؤل تستهل به القصة: "أليس هذا الصباح جميلاً؟" ثم انّ المتسائل، غير المحدد المعالم والصفات والحركات والسكنات، لا يفعل شيئاً. نعم، من الجميل أن يجلس المزارع في مقهى الحارة وهو يحلم بأن الأرض ستحرث نفسها بنفسها، وأن البذور ستبذر نفسها بنفسها، وأن الماء سيدور في السواقي برغبته، وأن السماء ستحصد الزرع وتذهب به الى السوق، وأنه - وهو في جلسته تلك - يحلم بالثراء! ولكن هذا شيء لا يحدث في واقع الحياة، للأسف الشديد! صاحبنا يحلم بجمال الصباح وما يوحيه ذلك الجمال في نفسه: "أقف عند باب الغرفة، أتطلّع ناحية زوجتي التي ما زالت نائمة... تقوم زوجتي ضاحكة بغنج وتضربني على يدي ضربات ليّنة مثل نسمة هواء باردة تلاطف خدي... وهذا لا يحدث في بقية الصباحات". أما لماذا لا يحدث في بقية الصباحات فلأن صاحبنا لا يحلم فيها بهذا الحلم، فهو لا زوجة له، وحنفية بيته لا ماء فيها. مفارقة بين حلم وبين واقع. غير انّ صاحبنا لا يريد أن يشارك في تغيير الواقع، فيقع هو في حالة شبيهة بحالة المزارع المغروس في المقهى بانتظار المعجزة. تلتقي القصص الثلاث في حدث يقع للمرة الأولى في حياة أبطالها: حقيبة الطالب في الأولى، تغيير روتين حياة الرجل في الثانية، الحلم الجديد في الثالثة. القاص يحيى بن سلام المنذري رسم بقصصه القصار الثلاث هذه ثلاثة أجيال، ما بين طفولة يجب أن يتعامل معها المجتمع بكل احترام وشفافية، ورجولة تهفو الى استعادة ما خسرته المدن من المودة والآمال الكبيرة، وشباب لا يعاني كثيراً فيظلّ حبيس ذاتيته من غير نفع لمجتمع سيتقدّم حتماً أكثر فأكثر من غير أن ينتظر الكسالى العائشين في الأوهام لا في الأحلام فحسب. * الأمين العام لرابطة الكتاب العرب في المملكة المتحدة.