يبدو الفنان التشكيلي العراقي جبر علوان في معرضه الاخير في لييج، عاصمة الاقليم الفرنسي من بلجيكا، والذي يقام دورياً في غاليري ليهرمان كل عامين، وكأنه استراح اخيراً الى نداء داخلي خاص، والتقط حجر "الغواية" الكريم الذي انار مصادره ومرجعياته البصرية بعد سنوات طويلة من التهويم والتجريب الفني. في اعماله الاخيرة يجد المشاهد طمأنينة من نوع فريد، كتلك التي يحس بها من عثر على مينائه ومرساته بعد ملاحات كونية لا يعلم اسرارها الا هو. جبر الذي كرّس موقعه كناشط حائز على شروط مهنته كرسام معاصر، عرف كيف يسيطر على انجذابه للمغامرة، وكيف يتجاوز غوايتها ليرسم بيقين واضح. في عمله الجديد ثمة حكمة تبعد ما يترسخ عن صورته في الذهن، وهي صورة ارتبطت بنشوة طاغية تقودنا اليها الألوان والمساحات والتكوينات. انما هذه المرة يتجه عمله بجرأة الى منطقة اكثر صعوبة تفترض عالماً موازياً من التركيبات المنطقية والعملية - الفنية، بما في ذلك من توابع وتطلبات: تطلبات تلقي اسئلة وتجيب على اخرى في آنٍ واحد، ومن دون ان تكون من خارج التجربة. انها اكثر من حكمة المكان والزمان، حكمة الرؤية وتلخيصها البصري. على المستوى العياني قد لا يكون ثمة تغيير فاقع في الثيمات او المواد او التقنيات المستعملة، او ان التغيير لا يخرج عن الاطار الواسع للعمل. فالمادة المستعملة في اعماله لا تزال هي ذاتها، اي الأكليريك - وهي مادة ساحرة لمستعملها الغربي وقد لا يكون الفنان العربي محيطاً بكل سحرها المتجدد بعد لأسباب مالية - والمواضيع ايضاً ذاتها، انما الجديد هو طريقة التعاطي مع الموضوع والتقنية. هذه المرة نجد ان مساحة الارتجال - الحس افسحت في المجال لبروز نزعة انسجام وتناسق تقترح مقتربات وتشي بمنطق ينطوي على نظام من الرموز المتجاذبة والمتكاملة بما يشكل صورة أرقى، من الناحيتين الموضوعية والفكرية. جديد جبر، بهذا المعنى، يكاد يدشن خيارات لا تبعد عن هوى قلبه وتيار حواسه، بقدر ما تقترب من همه العميق ووعيه الوجودي. اي انها صورة من صور التشبع بالثقة بالنفس وبالاستعداد لإلتقاط وإستيعاب خيارات جديدة ومشاكسة للمنطق السائد، وبالضد من سهولة التلبية التلقائية او الإمتثال. انه لم يكف عن التجربة طبعاً، ولكن تجربته الآن اكثر توجهاً نحو إيقاعه الخاص منها لتلك المتطلبات. لذا يجد المشاهد لأعماله الاخيرة اكثر من التشابه والإمتداد والتعميق لأسلوبه، يجد تطويراً لأبعاد تلك العناصر بما يوسع من فضائه البصري وخياراته الموضوعية. بوسعنا القول ان حرصه البالغ على معاصرته لم يعد هو الهم الأساسي للوحته الجديدة، بقدر تعلق الأمر بالنوايا المنهجية، ذلك انه غادر هذا الموقع وبدأ يتنفس على نحو جديد، ومع هذا التحول بدأت لوحته ايضا تتنفس عبر مفردات التشكيل والتقنية والتلبية المطواعة للحاسة التشكيلية التي بدت في افضل مراحل نضجها الآن. يأخذ جبر علوان الكثير من واقعه الحسي والملموس كفنان تأسس في العراق وورث منه ذاكرته التي حفلت بانجاز ثلاثة اجيال عراقية متعاقبة لها امتيازاتها وتواصلها، ولكن لها تعارضاتها المنهجية ايضا. غير انه في النهاية، وحتى قبل عرضه الاخير، يخرج من كليشيهات الذاكرة العراقية بمعناها السلبي. انه لا يتمسك بتفاصيل بصرية او بمواضيع او مضامين، بل انه يمسك بروحها وغنائية صوتها العميق الذي تحفظه الذاكرة. وهو، لإنجاز لوحته الجديدة، انما يعيد تركيبة العناصر البصرية والشخصية ليجعل منها أداة تنفيذ قابلة للتجسد وللإقتفاء في اللوحة التي لا تحتفظ من كل تلك المزائج المعجمية سوى بظلال وامضة. وبالتالي فنتاجه خرج عن قياسات المجايلة التي تكرست بقوة في السياق التشكيلي والثقافي العراقي، وانطلق الى رحاب حريته البنائية وخلاصه الوجودي عبر الفن، وبالطريقة التي يراها. ان جبر في آخر تجاربه يبدو اكثر مغامرة من اي وقت مضى، الا انه مع ذلك لم يدخل في مغامرته البعد الكلاسيكي الكامن في لوحته الحديثة. هذه الحداثة الكلاسيكية التي تتيح لعمله توازنات ذهبية نادرة، تبدو سمة مميزة في مجمل تجربته، وتمتد آثارها عبر عقود من عمله المتواصل. وترتكز هذه الكلاسيكية الى قيم مشاهدة خاصة، قيم، ربما وفي قياس ليس بعيداً عن الزمن الذي نعيشه، تعد محافظة لجهة صلتها بمنهج رؤية واستقبال اللوحة. فعلى سبيل المثال يبدو التوازن كأحد عناصر التشكيل الكلاسيكي، حاضراً بصورة ما من دون ان يطغى على اللوحة. انه هنا يعمل كمرجع مريح يقدم شكل العمل بيسر الى المشاهد. ولكن التوازن عند جبر ليس هدفاً بحد ذاته، وهو لا يعمل بمعزل عن العناصر الاخرى للوحة بقدر ما يساهم معها لخلق انسجام خاص. ويبقى تمثل جبر للعلاقات الحضارية تمثلاً فيه الكثير من البطء والروية والتوقف عند اعتاب آمنة بالقدر الذي يسمح له بالابقاء على إلفته الكلاسيكية تلك، وتوليفها مع المقتربات الأكثر حداثة وثورية لفنون نهاية القرن العشرين. بهذا السياق يمكن القول ان ذاكرته لا تزال ذاكرة فلاح صبور يواري او يعالج قناعته بحذقه المعتاد، ويترك لنفسه ان تكون ما تريد من دون قلق وجودي مفرط. العرض الجديد لجبر علوان اشار الى اهتمام اكثر من السابق باللعب على بعض العناصر الشكلية في العمل، ولا سيما محاولة استخدام الخط بوضوح اكبر في التكوينات الجديدة. ومع هذه المحاولات نجد انزياحاً نحو موضوعات راهنة ومشهدية تنطوي على سرد، او لوحة تحكي او تقترح حكاية. الأحجام التي اتسعت في بعض الاعمال بدت وكأنها تكمل المشهد العام للمعرض، بما فيه من محالات للحضور في عالم اليوم، وبالاحرى احضار العالم الى المشاهد. البشر ذاتهم، متأملون او منشغلون بعالمهم، محاصرون او منفلتون من أسر علاقاتهم وإشكالاتهم، يقعون، كما في غالب اعمال جبر، في قلب اللوحة او بؤرتها. وفي النهاية بوسعنا القول ان لوحة جبر تعطي للتشخيص، او للوحة المسكونة بالكائنات، قوة او بعداً مألوفاً ومتجدداً من دون التضحية بمعاصرتها او حداثتها.