ربما يأمل الدكتور مارتي أولغا كالفي اهتيساري - بحسب بطاقته الشخصية - ان يكون اتفاق السلام الخاص بكوسوفا قد تم اخراجه وتظهيره قانونياً عبر مجلس الأمن الدولي واكتملت فصوله وملحقاته العسكرية مع حلول الثالث والعشرين من الشهر الجاري حزيران يونيو الذي يصادف عيد ميلاده الثاني والستين، لأن ذلك سيكون بمثابة هدية من السماء، ومصدر للتفاؤل، والتشجيع، وهو الرجل الذي أعطى من عمره وعرقه للعالم أكثر بكثير مما أعطى للدولة التي يرأسها وللشعب الذي ينتمي اليه. اهتيساري مواطن عالمي، ناشط كوني بامتياز بدأت حياته المهنية قبل أربعين سنة تماماً 1959 خارج بلاده. وها تستولي الرغبة عليه لكي ينهيها حيث بدأت. رئاسة فنلندا لا تقنع هذا الرجل الذي يظنه الرائي مريضاً، شبه معاق. رغم انها مريحة ومرفهة ولذيذة أشبه بجلوس الملك على العرش اذ ان فنلندا، دولة غنية، مستقرة، والحياة فيها رغيدة خمسة ملايين نسمة يبلغ اجمالي قيمة صادراتها، مجموع ما تصدره الدول العربية غير النفط!. لكن فنلندا من ناحية أخرى منعزلة ونائية وبعيدة عن مشاكل العالم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فحتى مشكلة الهجرة لا تعاني منها ولا تعرفها. وتشكل سيرة مارتي مفارقة حادة مقارنة مع تلك السمات. فهو منغمس الى أذنيه في بحار المشاكل الدولية. ولذلك يغدو طبيعياً ان يعزف عن منصب الرئاسة في بلده، مفضلاً عليها المواطنية الكونية ومتابعة جهوده في سبيل السلام هنا أو هناك، وفي سبيل تعزيز دور الأممالمتحدة. وتؤكد المعلومات انه يتطلع للعودة الى المنظمة الدولية كي يتفرغ لها ما بقي من عمره، ولذلك فقد أبلغ الحزب الذي ينتمي اليه وأوصله للرئاسة الحزب الاشتراكي الديموقراطي في وقت تزامن مع تكليفه من قبل الاتحاد الأوروبي بمهمة السعي الى السلام في البلقان انه يعتذر عن عدم قبوله الترشيح للرئاسة دورة ثانية، نظراً لأن ولايته تنتهي في مطلع العام المقبل. وحاول أن يؤكد اعتذاره عملياً من خلال قبوله للمهمة المعروضة عليه وانصرافه عن الساحة الداخلية حيث تستعد الأحزاب للمعركة الرئاسية في الخريف المقبل. وبذا سيكون اهتيساري واحداً من قلة قليلة جداً من الرؤساء في تاريخ فنلندا المعاصر الذي يبدأ مع الاستقلال عن روسيا عام 1917. فالرئيس الأشهر في هذا العصر كاكونين رأس فنلندا ثلاث دورات متتالية أي لمدة ثمانية عشر عاماً امتدت من أواخر الستينات الى نهاية الثمانينات والحرب الباردة. اهتيساري الذي يتندر العالم كله الآن على مشيته، مثلما يفعل الفنلنديون منذ سنوات طويلة، سار على قدميه الواهنتين هاتين الى أقاصي العالم خلال الثلاثين سنة السابقة. حل العديد من المشاكل، وذلل الكثير من العقبات، واستطاع دائماً كسب ثقة الأطراف التي يعمل معها أو يتعامل وإياها في مهامه، وذلك بفضل مزاياه وسجاياه الممتازة. فهو جدي، رصين، عملي، متواضع الى أبعد الحدود، مخلص لفكرة السلام. لا يبحث مطلقاً عن الشهرة أو المجد الشخصي. روحه الانسانية طيبة وفياضة. ولعل المراقبين لاحظوا منذ أن بدأ مساعيه في الأزمة الحالية قلة تصريحاته الصحافية وعزوفه التام عن الكلام في العلن، وتجنبه للوقوف أمام العدسات، اذ بالكاد تظهر صورته مقترنة بتعليقات أو تقارير تشرح ما يقوم به في بلغراد أو موسكو أو بروكسيل... الخ، وهو بفضل هذه المزايا نجح في الكثير من المهام التي تكلف بها في افريقيا أو في البلقان أو في أميركا اللاتينية أو آسيا. وحاز على تقدير الجميع الى حد ان ناميبيا منحته جنسيتها واعتبرته مواطناً من مواطنيها جراء دوره الكبير في خدمة قضية استقلالها وتحررها. ولد الدكتور اهتيساري في مدينة فيبورغ عام 1937، ودرس علم التربية، وعمل معلماً، ولم يكن في سيرته حتى 1959 ما يوحي بأنه شخص غير عادي. في 1960 التحق بالمعهد السويدي للتكنولوجيا في كراتشي - باكستان. وعمل فيه لثلاث سنوات، أتاحت له التعرف على معاناة الشعوب الفقيرة، هو القادم من أكثر بلدان الشمال الأوروبي رخاء، وعندما عاد من باكستان عين مسؤولاً عن قسم التعاون الدولي في منتدى الدراسات الدولية والمعونات الخارجية بهلسنكي. وفي 1965 انضم الى وزارة الخارجية وتدرج فيها بين مناصب عديدة كانت متخصصة دائماً بمجال التعاون والمساعدات الخارجية. وفي مطلع السبعينات عين سفيراً، وخدم في عدة بلدان افريقية تانزانيا - زامبيا - الصومال - موزامبيق وفي 1991 أصبح وزيراً للشؤون الخارجية بوزارة الخارجية الفنلندية، لكنه لم يستمر سوى عام واحد. في 1977 التحق اهتيساري بالأممالمتحدة كمندوب للسكرتير العام كورت فالدهايم في ناميبيا. وفي 1982 أصبح مساعداً له، وفي عام 1987 اختاره السكرتير العام خافيير بيريز ديكويار مساعداً له للشؤون الادارية والاقتصادية والمالية. وفي عام 1989 أصبح مفوضاً وممثلاً للأمين العام في ناميبيا. وفي عام 1992 اختاره المؤتمر الدولي حول يوغوسلافيا، رئيساً للجنة العمل الدولي التي انبثقت عنه وكان مقرها في جنيف. وفي هذه المهمة بالذات دخل معمعة الصراعات العرقية في البلقان ومع انه لم يستطع آنذاك انجاز شيء ذي أهمية، بيد أنه لعب دوراً جيداً في معالجة بعض المشاكل الانسانية المتفرعة عن الحرب، ونال ثقة الأطراف المتصارعة، وثقة الأطراف الدولية على حد سواء. في 1993 رشحه حزبه للرئاسة الفنلندية. ويومها تفاوتت تقييمات الساسة والاعلاميين له بين مؤيد بشدة نظراً لخبراته وصفاته، ومعارض بشدة ولنفس الأسباب ! اذ ركز المعارضون له على أنه خبير عالمي بالقضايا الدولية، ولكنه محدود الخبرة جداً بمشاكل وظروف فنلندا الى الحد الذي يجعله غير مؤهل لرئاستها. بل ان البعض اعتبره "مواطناً أجنبياً"! أو ممثلاً للأمم المتحدة في فنلندا! لكن اهتيساري فاز بالانتخابات واستلم الرئاسة في مطلع آذار مارس 1994 لمدة ستة أعوام وهو لم يواجه مصاعب تذكر خلال سنواته الخمس الماضية، بل اعتبر على نطاق واسع رئيساً محبوباً من الجميع. خصوصاً وأن منصب الرئاسة في فنلندا قليل الصلاحيات، وقد حكم بالتفاهم مع حكومة اشتراكية تستند الى غالبية برلمانية مريحة، تجددت للمرة الثانية خلال ولايته بالانتخابات التي جرت في الربيع الماضي. لكن المشكلة في رئاسته، انه لا يبدو منسجماً معها، ولذلك يقال بين الدوائر الصحافية في فنلندا انه يريد العودة للعمل الدولي بأي وسيلة وكان ينتظر فرصة فحانت مع عرض زملائه الأوروبيين عليه بالعودة للبلقان. نظراً لخبرته السابقة وعلاقاته مع الرئيس الصربي سلوبودان ميلوشيفيتش اضافة لعلاقاته الجيدة مع الرئيس الروسي بوريس يلتسن، وكذلك الرئيس الأميركي بيل كلينتون اللذين استضافهما في قمة ثنائية عام 1997، وبدا كأنه يحاول يومها استعادة دور بلاده بين الشرق والغرب طوال حقبة الحرب الباردة. يذكر ان اهتيساري حاصل على درجة الدكتوراه في علم التربية من جامعة أوليدبورغ الفنلندية. وحاصل على ست شهادات دكتوراه فخرية من جامعات في الولاياتالمتحدة والارجنتين وتايلند وفنلندا. وحاصل على جائزة السلام الفنلندية. وهو أيضاً عضو في الكثير جداً من الهيئات والمنظمات والمعاهد الفنلندية والدولية. ولا زال مستشاراً لمؤسسات كبيرة جداً خيرية واقتصادية وعلمية في بلاده وغير بلاده. لاهتيساري سجل حافل، يليق بلا شك برجل مثله تفانى في خدمة السلام العالمي دائماً. ويليق بهذا السجل أيضاً ان يختتم بالنجاح في وضع حد لإراقة الدماء في الأزمة اليوغوسلافية الحالية. ويذكر ايضاً ان اهتيساري متزوج من السيدة ايفا إرملي هيغيرينن 68 سنة. ولهما ولد واحد يدعى ماركو مولود عام 1969.