تلتزم في عالمنا المعاصر حوالى 118 دولة أنظمة ديموقراطية من أصل 193 مما يجعل تباشير الألفية الثالثة ربيعاً ديموقراطياً كونياً. وفي افريقيا تتسع دائرة الدمقرطة طردياً منذ عام 1990، اذ اتجهت افريقيا الفرنكفونية بكليتها الى التعددية الديموقراطية فنظمت الانتخابات في 16 دولة افريقية عام 1996، وفي حوالى 45 دولة افريقية منذ عام 1991. ان التوالي السياسي الذي يروج له الآن في السودان يبدو لي مثل "الطوطحانية" - أرجوحة - في المثال السوداني تهدف الى خداع الطفل عبر هدهدة، لكنها لا تحجب عنه الاحلام المزعجة أو حتى البكاء. وبالتالي فهو عاجز عن دفع العملية السياسية الجامدة في اتجاه التطور التعددي المبرأ من وصاية "السوبر - تنظيم" وهو تنزيل التمكين الجبهوي الآحادي وحمل الكافة طوعاً وكرها الى "تواليقراطية" تصبو الى تولي عن التعددية الحقة وتحاصرها قانونياً عند منحنى في اتجاه واحد. اذ المنتظر من الاحزاب اشهار يمين الولاء ومبايعة النظام حتى وهو يترنح مكباً على وجهه. وهو ينزع الى إقامة صلاة الغائب سياسياً بمنطق المثل السوداني - الحضر حضر والماحضر المال سدد - في توجه يهدف الى "البركة الاوتوقراطية" والاستمرار في حكم السودان بطريقة اللا - ليبرالية الديموقراطية السائدة في شرق آسيا ماليزيا واندونيسيا. وهي تلوح بشعار الديموقراطية ونقنن له بما يحفظ دورة التوازنات والصراعات داخل تركيبة حزب المؤتمر الوطني الحاكم أولاً، ثم اختطاف السلطة مجدداً على مثال ديموقراطيات لوردات الحروب الأفارقة الذين كانوا يوماً ما "ارهابيين". فكيف يمكن للعقلية السياسية الآحادية الناسخة للحقوق السياسية والحريات الاساسية ردحاً من الزمن والمسيدة بالدهري والديني ان تباشر وصايتها في تعليم الشعب السوداني كيف ينظم نفسه ديموقراطياً بعد ان ساووا في فكرهم بين الديموقراطية والالحاد. ان التوالي الراهن فاقد لديناميات الانتقال الخاصة بإعادة نمذجة النظام السياسي باتجاه الجماهير لأنه يشخصن هيمنته ويفرض اجتهاداته باعتبارها الحق. ويجتهد ليجعل من حزب المؤتمر الوطني الحاكم مثالاً أخاذاً يجب تقليده منتهياً الى اعاقة تامة لنقل العملية السياسية من حيز الارتهان الى تفكيكها واعادة بنائها جماعياً وفق رؤية واجتهاد جديد يوقف الحرب في الجنوب وينهي دولة الحزب الواحد المسيطر ويضع نهجاً سودانياً لبناء نظام ديموقراطي راسخ ومتين ويحدد الضوابط القانونية لانتخابات عامة تشارك فيها المعارضة تحت رقابة اقليمية ودولية ويقر اتفاقاً شاملاً للسلام في الشمال والجنوب وغيرها من الجهويات مع النظام، ويطور الوضع الراهن الى نظام قومي جامع وغير مانع للمختلفين مع الديموقراطية نفسها فضلاً عن عقد المؤتمر المتعلق بالقضايا الدستورية والشامل لكافة الأطراف السودانية. ولكن أراد النظام الحاكم تمرير التوالي على بقية الفصائل السياسية وعصائب المجتمع المدني وبهذا يصبح التوالي فراراً من التعددية. فالقانون أفرغ العملية السياسية من الدينامية والفعالية المطلوبة وجعل من المؤتمر الوطني - الجبهة الاسلامية - "ألْفه" يضع الحد الفاصل بين الفرقاء ويحدد السقف السياسي اللائق به وحده ليكرس اللا - ليبرالية بإلباسها لباساً برانياً يبدو في ظاهره ديموقراطياً. يمكننا تحليل ماهية التوالي السياسي وصدقيته بإثارة الأسئلة والمواقف الآتية: كيفية استجابة نظام "التواليقراطية" الجبهوية من الاحداث السياسية التي ابتدرتها القوى السياسية المعارضة في الداخل. أي رفض النظام لاستلام مذكرة سياسية هادئة رفعت في موكب جماهيري، بل وصف قادة النظام المذكرة بأنها التفاف حول الشرعية والتهديد بإعدام كل من يمارس السياسة خارج دائرة الولاء التي حددها القانون شرطاً سابقاً لممارسة السياسة. وفيما يعظ قانون التوالي الناس بالكف عن العنف السياسي والتفاعل بالحسنى من دون اللجوء الى العنف والبغي والجبروت نجد ان المعارضة الداخلية التي لا تحمل سلاحاً عدا سلاح الكلمات وصوت الحق تجابه بإشهار السلاح في وجهها، أي عندما اتجهت المعارضة الى حمل السلاح خونها النظام وعندما اتجهت في الداخل الى رفع المذكرات الاصلاحية غير الثورية جوبهت بالعنف وفرقت مواكبها بالقوة وفضت احتفالاتها بالاستقلال وتظاهراتها السلمية واجبرت على الاحتفال دخل منزل الرئيس السابق اسماعيل الأزهري. وكذلك يهجم طلاب الانقاذ الجبهويين بالمدى لطعن خصومهم من طلاب الجامعات كما حدث للطلبة الانصار في جامعة جوبا واعتقال الناشطين الوطنيين والإنصار الذين شاركوا في ندوة سياسية بعطيرة... بعد انفاذ قانون التوالي؟ كيفية تعثر التوالي بصورته المنبرية "الساداتية" عن أحداث الوفاق الوطني مما يعد فشلاً للاسلاميين في اجتذاب الدوائر ذات الثقل السياسي لأن النظام طلب منها الانخراط "أنبوبياً" على شاكلة ما اسماه الشعب السوداني - أحزاب الانابيب - أو التكوينات المئوية حتى لكأن التنظيم السياسي الحزبي حق لكل عشر أسر سودانية مما يلقي بظلال الشك والريبة حول غائية التوالي في واقع الدستورية التي خطها المؤتمر الوطني بمفرده، لأن العبرة ليست في التساهل الانشطاري الذي لحق التنظيم ولكنه في التأكد من ان التنظيم يعبر عن رؤية عدد كبير من القاعدة ذات بعد شعبي حتى تكون للتمثيل قيمة. وفيما يبدو انه ترخص قانوني لحق التنظيم نجد ان مسجل تنظيمات التوالي غير المحايد يبيح "الاستنساخ" التنظيمي عبر تمكينه لأفراد أو تكوين مئوي لتسجيل حزبهم وان تطابق اسمه مع حزب معارض رافض للانخراط الانبوبي حتى وان كان الحزب المعني بوسعه ان يسجل قائمة مليونية؟ إن سماح موظف التوالي بازدواج المعايير هو موقف سياسي صريح قصد منه احداث النزاعات في بنية احزاب المعارضة عبر تمكن اشخاص من تسجيل الحزب واستخدام اسمه أنبوبياً، فيما يسكت القانون عن أي شيء حيال التنظيمات الديموقراطية التي كانت حاكمة ومنتخبة وازيحت من السلطة انقلابياً وكانت مسجلة بقانون منذ عام 1945؟ وعملياً تمنع الاحزاب المذكورة عن ممارسة الحقوق التي يدعي التوالي بأنه أبدعها مكتفياً بحصر العملية السياسية في "القوى السياسية المتوالية من اجل السلطان" على حد تعبير الشيخ حسن الترابي، معيقة بذلك الشفافية السياسية المطلوبة لتجاوز المنعطف السوداني الخطير. ويبيح قانون التوالي لمسجل تنظيمات التوالي حل التنظيم إذا أدين اغلب قيادته القومية العليا أفراداً أو اشتراكاً. هذه المادة 16 ليست الا موقف سياسي باعتبار ان قيادة الحزب المسجل لا يمكنها ان تصبح "قومية عليا عبر المدى القصير قبل ان تدخل السجون وتقاوم الجبروت"، وعليه القوصد بها قادة الاحزاب القومية المعروفة. وحل الحزب لكي لا نعود الى دائرة الصراع الماضوي ليس حقاً ادارياً ولا تقريراً بل حق يمارسه جهاز القضاء باعتباره الفيصل بين الفرقاء في النظام الديموقراطي فكيف ينظم القانون حق التسجيل ولا يحدد الكيفية القانونية والدستورية لحل الحزب المعني. وكيف يملك هذا الحق الخطير لفرد مهما كانت نزاهته بل هو تابع للجهاز التنفيذي ومعين بقرار رئاسي، وليس ببعيد عن "بطريركية" المؤتمر الوطني الحاكم. ما هي الانعكاسات الايجابية للتوالي على وضع حقوق الانسان السوداني والمنظمات النقابية والطلابية وغير الحكومية؟ ان المؤتمر الوطني يسابق الريح ليشيع ويسوق "التواليقراطية" المنبرية في أوروبا في اعتبارها انفتاحاً شاملاً نحو الديموقراطية ونرصد أمن الجبهة ومحاولاته لاختراق معسكرات اللاجئين السودانيين وتجمعاتهم في هولندا وبريطانيا حتى لاذ هؤلاء الأفراد بالفرار حينما كشفت هويتهم. فكيف يمكن قبول منطق المؤتمر الوطني بعد الذي ذكرناه من انتهاكات صريحة لحقوق الانسان لا سيما الحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية ايضاً. فما هي الحقوق الاقتصادية التي ظفرت بها تنظيمات التوالي بعد تسجيلها هل اقتسمت مصادر الثروة مع الحزب الحاكم لأنه يحتكر كل ذلك لأفراده؟ واننا حين ننتقد المتوالية الانبوبية لا نقصد تبخيس رأى الآخر الذي قبل جدلية التوالي ولكن نفعل ذلك تحذيراً من مغبة إفراز واقع سياسي لا يملك المؤهلات لإحداث الوفاق وحل القضايا المصيرية الشائكة، بل يمكن تخريجه باعتباره ازدهاراً لسوق استثمارات المؤتمر الوطني السياسية. لأن الائتلاف الانبوبي الجديد يفرغ بوضعه الراهن تطلعات الشعب السوداني في معادلة صفرية، لا طائل من ورائها. ويمكن ملاحظة تولي جماعات السلام من الداخل بقيادة رياك مشار من ساحة التوالي الجبهوي واتجاههم نحو تسجيل تنظيمات خاصة بهم ومستقلة عن أبوة المؤتمر الوطني، وبالتالي وفاة السلام من الداخل جملة واستعداد النظام لفصل الجنوب باعتباره مصيراً ينتظر الائتلاف الانبوبي لأنه خارج دائرة الثقل الجماهيري، لا سيما ان عد الأمر في خاتمة مطافه التزاماً بالديموقراطية. ومما ينهض دليلاً على ان الجبهة الاسلامية أو مؤتمرها الوطني ما زال متأثراً بالأحادية كثقافة سياسية هو استخدامها للترهيب والوعيد بالمحاكمات والاعدامات لشل نشاط الجبهة الداخلية المعارضة وبالتالي الالتفاف حول مساحة الحرية التي انجزها الشعب السوداني بنضاله وتريد ان تحتكرها بقانون؟ ولا يزال النظام مشدوداً الى نفسه معجباً بكونها فروعاً باهرة للمؤتمر الوطني. ونلاحظ ان الدستور جعل حقوق التنظيم لأغراض اجتماعية واقتصادية وثقافية حقوقاً دستورية. بينما اكتفى بجعل حق التنظيم السياسي حقاً قانونياً فقط. وبموجب قانون التوالي بمكن الطعن في شرعية المؤتمر الوطني الحاكم لأن قانون التوالي منشئ لاحزاب والمؤتمر الوطني الحاكم يمارس سلطة منذ نشأته عام 1995. ويختلف رسميو النظام والمؤتمر الوطني في تفسير مواد القانون، مما ينهض دليلاً على الصراع القائم داخل الجبهة بين رافضة ترفض التوجه "التواليقراطي" الراهن وبين آخرين يرون انه الحد الأقصى الذي يمكن ان تبلغه الجبهة. ويرى آخرون من قادة المؤتمر الوطني انهم ما زالوا رافضين للحزبية وان الانقاذ جاءت اساساً "للقضاء على الحزبية" وسوف لن تقبلها، بل مضى هؤلاء الى وصف التوالي السياسي باعتباره "كميناً سياسياً رمت الجبهة من ورائه عودة الاحزاب السياسية من الخارج". واحتراقها بالفشل في الداخل. وبالتالي طالما ظل خطاب قادة المؤتمر الوطني مشوهاً بالكمون، ونصب الشراك وفرض منطق الغلبة التملينية وتسويقه خطاباً ديموقراطياً يجب الانخراط فيه ويعلن آخرون اقتصار العملية السياسية على الائتلاف الانبوبي فإن مسيرة التوالي السياسي الراهنة لا شك عاثرة في ضوء القراءة الحالية المعتمدة على رصد سلوك النظام السياسي وجس نبضه من احتمال الآخر المنافس. ولن تفضي متوالية التوالي الى الديموقراطية الرابعة لأن الديموقراطيات السودانية السابقة ومنها الشعب السوداني. وان المؤتمر الوطني يريد ان يفصل وفق هواه الآحادي ديموقراطية أو بالأصح لا - ليبرالية اسلامية على النمط الآسيوي المعاصر. والفارق بين السودان وآسيا معلوم من حيث التطور التاريخي والثقافي فهو مثل الفارق بين الجلباب السوداني المفصل في الصين وذلك المفصل في سوق أم درمان! * ديبلوماسي سوداني سابق.