تلقي مواضيع الحوار الحضاري والديني بظلالها على مجالات التعاون الدولي، كما أنها تغطي مساحات واسعة من الاهتمامات والمصالح المتشابكة بصورة مباشرة أو كخلفية لتطورات دولية عدة. ولا شك ان انتهاء عصر الحرب الباردة وما صاحبه من متغيرات، وكذلك التوجه نحو العالمية، دفع الى السطح بموقع الثقافات والحضارات وتأثيرها في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها. ومن ثم فإن الاتجاه الى العالمية يواجه تساؤلات مشروعة حول عولمة الثقافات والحضارات ودلالة ذلك وعلاقته بموازين القوى، وما إذا كان محاولة لفرض الهيمنة والنفوذ باتباع أنماط حضارية ودينية لا تنفصل عن هوية وكيانات شعوب ومجتمعات عدة على مستوى العالم. وأثارت هذه التطورات بطبيعة الحال تساؤلات عما اذا كان الترويج لحتمية الصراع بين الحضارات والثقافات، كما ينادي البعض، يتناسب مع خصائص كامنة في الثقافات والحضارات ترشحها لصدام حتمي، أم أن الموضوع يطرح نفسه ساتراً لمصالح أخرى سياسية وتجارية وثقافية أيضاً للمروجين لهذه النظريات في الدائرة الغربية؟ ففضلاً عما تحققه هذه النظرة من تصعيد وتمييز للمنتج الغربي الحضاري والثقافي بضرورة تكاد أن تكون مطلقة ولا ترقى إليها منافسات أخرى فإنها تعتبر كاشفة لمكون مهم في بناء المستقبل، والعالم على وشك أن يدخل الألفية الثالثة. والمتوقع أن تتصاعد أهمية الموضوع وان يسلط عليه مزيد من الأضواء. ولعل أحد المؤشرات لذلك، القرار الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 4 تشرين الثاني نوفمبر 1998 الذي يقضي باعتبار سنة 2001 عاماً للحوار والتأهب لمرحلة جديدة تستقطب مشاركة وجهداً دولياً مطلوبين. ومما يزيد من إلحاح الموضوع مساسه بمصالح مباشرة في المستوى العالمي وتأثيره في صناعة القرار وتغلغله في مستوى تشكيل الرأي العام وما يعنيه ذلك في عالم تتقارب فيه المسافات ويمر بعصر ثورة التكنولوجيا والمعلومات، فضلاً عن أن الموقف العالمي الحالي يتميز بسيولة واضحة، على رغم عصر القطبية الواحدة وربما إرهاصات قيام نظام متعدد الأقطاب. ويعتبر العامل الحضاري والثقافي وسيلة لتعزيز النظم وترسيخ القيم واكتساب مواقع مناسبة في ساحة التنافس، ثم ما تطرحه هذه الرؤية من أسلوب إدارة المنافسة وموقع الحوار منها وأطره الفاعلة ونقاط الالتقاء والاختلاف باعتبار ذلك مؤثراً وذا دلالة بالنسبة الى مسارات المستقبل. ومن المفيد عند تناول هذا الموضوع متابعة علامات مهمة مصاحبة لنهاية حقبة الثمانينات والتسعينات تناولت تنظير موضوع صدام الحضارات. وعلى رغم الشهرة التي حققتها مقالات هنتنغتون، فإن متابعة الموضوع تشير إلى ما سبقها من احتمالات الصدام بما يعتبر مؤشراً على استخدام العنصر الثقافي والحضاري والديني على نحو جديد ومحاولات لتأسيس القاعدة الفكرية التي يقوم عليها تحالف غربي حضاري. وكان ظهر المنحنى الفكري للموضوع في كتابات سابقة لم تحقق الشهرة نفسها، إذ كتب Buzan مقالاً سنة 1991 حاول فيه أن يرسم صورة لملامح النظام العالمي الجديد بعد نهاية الحرب الباردة، وبشّر بظهور نظام متعدد الأقطاب من أربع دول صناعية عظمى تتضاءل بينها الخلافات الايديولوجية وتخف حدة المنافسة الحضارية وأنها ستكون قادرة على الهيمنة عالمياً، وان هذا التطور بطبيعته سيؤدي إلى احتمالات التصادم مع الدول التي تقع خارج هذه المنظومة وان التناقض أكثر وضوحاً بين الغرب والاسلام. كما توقع Fuler صداماً بين الحضارات التي لا تأخذ بالقيم الغربية وغيرها، مشيراً خصوصاً إلى أن ثمة دولاً لها تاريخها الحضاري العريق وخبرتها السياسية والايديولوجية ترشحها للقيام بأدوار بارزة في توجهات "صدامية" مع الغرب مستندة الى دورها التاريخي الحضاري ووزنها. ويذكر أن من بين هذه الدول الصين والهند وايران ومصر وروسيا، كما أشار أيضاً إلى البرازيل واندونيسيا كأمثلة ضمن قائمة ذكر انها أكبر من ذلك. إن استقراء هذه العناصر واضح الدلالة في التعبير عن معطيات مؤثرة في سياق الأحداث، فالقدر المتيقن من استعراض السياق التصادمي هو الترويج لسمو الحضارة الغربية وتفردها بمنظومة قيمية رفيعة لا يستطيع الغير أن يصل إليها إذا اقتصر على خصوصياته الثقافية والحضارية، والأمر الثاني أنه خلف هذا التوجه السعي الى تحقيق مصالح في إطار إعادة ترتيب العالم في ظل القطبية الواحدة أو إرهاصات ظهور أكثر من قطب عالمي. وتغطي هذه الاحتمالات جميعها الرؤية التي تروج أيضاً لمصلحة الغرب في أن يسعى الى دعم علاقاته بتأكيد وحدته وتفرده الحضاري، وأن يمضي في ذلك مُحملاً عامل مصالحه المتشابكة والمتنوعة على الصراع الحضاري وتصادم الحضارات لا تفاعلها. ونلاحظ أنه، فضلاً عن الأخطاء التاريخية والواقعية ضمن هذا المنظور، فالخشية هو تأثيرها على الرأي العام وعملية صناعة القرار. وليس بعيداً التصريح الذي سبق أن صدر عن فيلي كلاوس السكرتير العام السابق لحلف الاطلسي عندما ذكر أن الهدف الرئيسي من حوار الحلف مع دول متوسطية هو التصدي "للأصولية الاسلامية"، ثم أشار بعد ذلك إلى عدم قصده الاساءة وكيف يعكس مثل هذا التصريح الخلفية السياسية والفكرية. الصراحة تقتضي ان نذكر أنه ما أسهم في ذلك أخطاء وقعت من بعض المنتسبين للإسلام أو رسالات سلبية من بعض نظم تحمل تصرفاتها على هذا الدين، ففضلاً عن ضرورة فهم الحقائق الاسلامية، هناك ظروف وتطورات تاريخية يمر بها العديد من دول العالم وبينها بطبيعة الحال الدول الاسلامية. إننا نمر ونحن على مشارف الألفية الثالثة من التاريخ البشري بظروف يتعين معها التحديد الواضح للمبادئ والأهداف التي نتعامل بها مع مقتضيات الحوار الذي هو أمر لا غنى عنه، وكذلك تحديد اللبس الذي يحيط بعناصر أو دوائر الحركة التي يتطرق اليها الحوار الحضاري أو الديني، لأن القصد في المقام الأول هو توفير المعرفة الأفضل والاحترام المتبادل والقبول بالآخر، وقيام مناخ صحي يعيش فيه الجميع. أما الاختلافات بين الحضارات والثقافات والأديان فهي أمور طبيعية كانت وستستمر، والموازييك الحضاري يحتمل كثيراً من الظلال والألوان. وفي رأينا أن الصدام الحقيقي يأتي تعبيراً عن اختلاف المصالح على الساحة الدولية الامر الذي تتوافر أسبابه فضلاً عن المتغيرات الواقعة على الخريطة الدولية في مرحلة تتشكل فيها معالم النظام العالمي. ويدور ذلك في ظل تفاوت كبير للقوى النسبية لدول العالم وتكتلاته، الأمر الذي يزيد التناقض ويتيح في الوقت نفسه مناخاً مناسباً تستثمر فيه تراكمات التاريخ وما يرتبط بها من تفسيرات وتأويلات، بحيث يسمح ذلك لمن ينادون بالصراع ان يوظفوا عامل التفاوت الحضاري او الاختلافات بين الأديان لخدمة مصالح طرف او تكتل ما وتحقيقاً لأهدافه، بينما الوجه المقابل والطبيعي لذلك هو أن التمايز والاختلاف والخصوصية تستدعي عملاً مشتركاً وتعزيزاً لجسور قائمة عبر التاريخ من التعامل والتفاعل. ولا يجوز التراجع الى فترات مظلمة في التاريخ واجترارها، واختيار أسوأ النماذج ومحاولة تنظيرها والتأسيس عليها باسم صراع الحضارات والثقافات والأديان لخدمة أهداف أخرى... فماذا نحن فاعلون؟ * مستشار وزير الخارجية المصري.