يساند الدكتور محمود حمدي زقزوق وزير الأوقاف المصري بشدة حوار الغرب والاسلام، ويولي في الوقت نفسه الحوار بين مذاهب الاسلام اهتماماً ملحوظاً. على تلك الأرضية حاورت "الحياة" وزير الأوقاف المصري الذي يحتل في الوقت نفسه منصب رئيس الجمعية الفلسفية المصرية، خصوصاً انه من طلائع الحوار الغربي الإسلامي، وله جولات في برشلونة وباريس ونابولي مع اقطاب الديانتين المسيحية واليهودية، احياناً بشخصه وفي احيان أخرى ممثلاً للأزهر. في البداية يحدد الدكتور زقزوق شروطاً للحوار لكي يكون مثمراً أبرزها الندية وعدم وجود نبرة استعلائية من جانب احد أطرافه تجاه الأطراف الأخرى، او محاولة فرض وجهة نظر معينة من جانب على الجانب الآخر، بمعنى ان تضم الطاولة أطرافاً متساوية، وإلا سيتحول الأمر الى ما يشبه "حوار الطرشان". ما تقويمك لنظرية صامويل هانتنغتون المنذرة بالصدام الحضاري؟ - أنا ضد هانتنغتون على طول الخط، ويرجع ذلك الى اقتناعي بأن العالم قرية كونية كبيرة، الحوار فيها اقرب من الصدام. وقبل ان أتولى منصب وزير الأوقاف في مصر حضرت ما لا يقل عن عشرين مؤتمراً للحوار بين الأديان والحضارات في معظم دول اوروبا، وكان آخرها في نابولي ايطاليا. وأحب ان ألفت النظر الى ان حرصي على الحوار مع الغرب يمثل ايضاً اتجاهاً عاماً للمؤسسات الاسلامية في مصر وغيرها وكذلك للمؤسسات الدينية في الغرب، فعندما أثيرت هذه القضية في مجمع البحوث الاسلامية أعلى هيئة في الازهر انتهى الى إقرار الاشتراك في مؤتمرات الحوار. ايضاً هناك لجنة مشتركة بين الازهر والفاتيكان تدير حوارات متصلة، وهناك حوارات بين الفاتيكان ورابطة العالم الإسلامي. الا يتناقض ذلك مع الحفاوة التي استقبل بها البعض في الغرب أطروحة هانتنغتون؟ - الاتجاه نحو الحوار يعبر عن نفسه في الغرب كل يوم، ولا بد من دعمه والتعاطي معه. أذكر مثلاً ان لولي عهد بريطانيا الامير تشارلز وجهة نظر جيدة تجاه العرب والإسلام، وهو احد دعاة الحوار بين الحضارتين الغربية والاسلامية. كما وأن وزير خارجية بريطانيا روبن كوك ألقى محاضرة جيدة في المركز الإسماعيلي في لندن في تشرين الاول اكتوبر 1998، وكان إيجابياً تماماً وعارض بشدة أفكار هانتنغتون، إذ قال: "نحن في حاجة الى الاسلام كصديق وليس كعدو". في تقديركم لماذا كل هذه الضجة حول طرح هانتنغتون الخاص بصدام الحضارات؟ - نعم أثار صامويل هانتنغتون بمقاله عن صدام الحضارات العام 1993 ضجة كبرى في الغرب وفي الشرق على السواء، كما كان لبحث المفكر الياباني فوكوياما حول نهاية التاريخ ردود فعل متباينة. ومن الطبيعي ان ينشغل كثير من المفكرين والباحثين في عالمنا الاسلامي بهذه القضية، وبخاصة ان هانتنغتون تحدث عن الإسلام، وتنبأ بأن بؤرة النزاع في المستقبل ستكون بين حضارة الغرب من جانب والحضارة الإسلامية والكونفوشية من جانب آخر، وقام هانتنغتون بتفصيل ما أجمله في مقاله من افكار في كتاب كبير صدر العام 1996. وما ذكره هانتنغتون ليس أمراً جديداً كل الجدة، ولكن توقيت هذا الطرح هو الذي هيأ المناخ لنشره على نطاق واسع، فقد جاءت هذه الأفكار بعد نهاية الحرب الباردة، وفي اعقاب ما تنبأ به الرئيس الاميركي الأسبق نيكسون من صراع حتمي بين الغرب والعالم الاسلامي، وما صرح به امين عام الحلف الاطلسي، حينذاك من ان الاسلام هو الخطر القادم او العدو البديل بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، على رغم ان الغرب كان يتعاون قبل هذا السقوط مع الإسلام لضرب الشيوعية. ولكن يبدو ان الوضع تغير في نظره بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وقد يحمل ذلك على الاعتقاد بأن مقال هانتنغتون كان تنظيراً لاتجاه أمني جديد في العالم الغربي اكثر من كونه بحثاً في العلاقات بين الحضارات. ولعل ذلك كله يعطي صورة قاتمة لعلاقة الغرب المستقبلية بالاسلام او علاقة الحضارة الاسلامية بالحضارة الغربية، وقد يعطي ايضاً دافعاً جديداً ومؤشراً واضحاً لبعض التيارات - في عالمنا الإسلامي - التي تنطلق في توجهاتها من فرضية ان هناك مؤامرة تدبر في الخفاء او في العلن لضرب الإسلام والمسلمين. وهناك بعض الشواهد التي قد تعزز ما يذهبون اليه. الى ماذا تستندون في القول بأن القرن المقبل لن يكون قرن صراع حضاري وإنما قرن حوار حضاري؟ - أولا: صراعات الماضي تختلف عن صراعات الحاضر اختلافاً اساسياً، فنحن في عصر ثورة المعلومات والاتصالات والثورة التكنولوجية وأصبحنا نعيش في عالم يمثل قرية كونية كبيرة، والأخطار التي تهدد عالمنا المعاصر اصبحت أخطاراً عالمية تهدد الجميع، وتتطلب جهوداً دولية لمواجهتها مثل قضايا البيئة والمخدرات والارهاب الدولي والجريمة المنظمة واسلحة الدمار الشامل وامراض العصر، وعلى رأسها أمراض نقص المناعة او الإيدز، وغيرها من القضايا التي تتطلب تكاتف الجهود الدولية. ولعل ذلك هو الذي شجع الاممالمتحدة على الإعداد لتنظيم منتدى للحوار بين الحضارات يعقد العام 2001 دعما للتفاهم بين الثقافات والحضارات المختلفة. ثانياً: اذا كانت الأصوات التي تروج لصدام الحضارات وجدت أصداء واسعة في الشرق وفي الغرب، فإن هناك جهوداً وأصواتاً مضادة في الغرب ترفض بشدة مقولة هانتنغتون حول صدام الحضارات، خصوصاً بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية. ومن الأمثلة على ذلك ما شهده العقد الأخير من القرن العشرين من رفض واضح في بعض الدوائر الغربية لنظرية صدام الحضارات، اذا جاز ان تسمى هذه الدعوة "نظرية". ومن بين تلك الأصوات العاقلة في الغرب الرئيس الألماني رومان هيرتسوغ الذي ذهب الى خطوة ابعد في هذا المجال بالدعوة الى عقد مؤتمر في برلين للحوار بين الحضارتين الاسلامية والغربية. ووجه هيرتسوغ الدعوة الى رؤساء خمس من الدول الإسلامية هي مصر والمغرب والاردن واندونيسيا وماليزيا، ورؤساء خمس من الدول الاوروبية هي ايطاليا واسبانيا والنمسا والنرويج وفنلندا، بالاضافة الى المانيا الدولة المضيفة. وتم اللقاء في 23 نيسان ابريل الماضي على مستوى المراكز البحثية المتخصصة، ومثّل مصر فيه الدكتور احمد كمال ابو المجد والسفير محمود فرغل مدير المعهد الديبلوماسي في القاهرة. واشترك في المؤتمر ايضاً ممثلون لدول اخرى مثل انكلترا وفرنسا وسويسرا والسويد ولبنان، وصدر عن المؤتمر "بيان برلين" الذي يمثل خطة للعمل المستقبلي، وتضمن العديد من التوصيات التي تدعم الحوار الحضاري بين الشرق والغرب، وتستشرف مستقبل العلاقات بين المجتمعات الاسلامية والعربية. وبالإضافة الى ذلك صدر في شهر آيار مايو الماضي كتاب للرئيس الألماني تحت عنوان "الحيلولة دون صدام الحضارات: استراتيجية السلام للقرن الحادي والعشرين"، وتضمن آراء هيرتسوغ التي اعلنها حول هذا الموضوع في الفترة من 1995 الى 1999، كما تضمن ايضاً تعقيبات لأربعة من المفكرين المعروفين. ويؤكد الرئيس الالماني رفضه المطلق للزعم بأن الشرق والغرب يستعدان لمواجهة مزعومة بين الإسلام والمسيحية. ويحذر من خطورة الترويج لمثل هذه الأفكار، ويؤكد ضرورة التركيز على القواسم المشتركة بين الحضارات. والأمر الجدير بالذكر في هذا المقام هو أن صامويل هانتنغتون الذي كان مقرراً أن يكون احد المعقبين على الأفكار المطروحة في الكتاب أبدى دعمه لاستراتيجية الرئيس الألماني المتمثلة في الحيلولة دون الصدام بين الحضارات عن طريق الاهتمام بالقواسم المشتركة بين تلك الحضارات. - هل يعني هذا ان ثمة تياراً اوروبياً يدعو للحوار الآن؟ - من خلال هذه التوجهات الصادرة في اوروبا من شخصيات لها وزنها يتضح لنا ان هناك تياراً اوروبياً قوياً رافضاً لفكرة صدام الحضارات، وهو تيار اقوى كثيراً من تيار صامويل هانتنغتون ومن يشايعه. ولكن الشيء المؤسف هو انه تم تسليط الضوء على نحو مريب على افكار هانتنغتون السلبية وتم تضخيمها إعلامياً، وفي الوقت نفسه غابت عن الساحة الإعلامية تلك الأفكار الإيجابية والأصوات العاقلة التي ترفض صدام الحضارات وتتبنى حوار الحضارات، الأمر الذي اصاب الكثيرين في عالمنا الإسلامي بشيء من الاحباط، وجعلهم ينظرون بتشاؤم الى مستقبل العلاقات بين الشرق والغرب، او بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية. واعتقد بأنه آن الأوان لأن نعطي لهذه الأصوات الأوروبية العاقلة فرصة لتأخذ مكانها في خضم المناقشات الجارية حول صراع الحضارات في عالمنا الإسلامي، وفي مصر خصوصاً، وأن نتجاوب معها بهدف تعبيد الطريق امام حوار حضاري بناء من اجل خير وسلام ابناء الحضارتين الإسلامية والغربية، الأمر الذي من شأنه ان يسهم بدوره في أمن واستقرار عالمنا المعاصر. وسوف تثبت الايام المقبلة اي الفريقين - من انصار الصراع او الحوار - أرسخ جذوراً وأبقى تأثيراً وأقوم سبيلاً. وأين موقع الحوار الديني ضمن حوار الحضارات؟ - الحوار الديني جزء لا يتجزأ من الحوار بين الحضارات. فالحضارات في كل مكان في العالم قامت اساساً - كما هو معروف - على قاعدة من الدين، ويُعد الدين حتى اليوم - في نظر كتاب معاصرين مرموقين في الغرب - احد المكونات الرئيسية لأي حضارة، بالإضافة الى اللغة والتاريخ والثقافة. ومن هنا يصف الغرب حضارته بأنها حضارة مسيحية، كما يصف المسلمون حضارتهم بأنها حضارة إسلامية. من ذلك يتضح لنا ان الحوار الديني لا يمكن عزله عن ألوان الحوارات الأخرى، لأنه يتشابك معها بشكل او بآخر تشابكاً ظاهراً او خفياً أردنا أم لم نرد. وأكد هذه الحقيقة احد علماء الأديان المعاصرين المستنيرين في المانيا وهو الاستاذ هانز كونغ بقوله: "إن تحقيق السلام في العالم يتوقف على تحقيق السلام بين الاديان ولن يتحقق ذلك إلا بإجراء حوار بين هذه الأديان". وما شروط الحوار من وجهة نظركم؟ - من شروط نجاح اي حوار على اي مستوى ان يكون كل من طرفيه نداً للآخر، ويقتضي الحوار ايضاً ان تكون هناك قضية محددة يتحاور الجانبان بشأنها، ولا بد في هذه الحالة ان تحدد بدقة عناصر هذه القضية حتى لا يدور الحوار في حلقة مفرغة، ويتطلب الامر كذلك تحديداً واضحاً لأهداف الحوار حتى لا يحيد عنها طرف من الأطراف. ويضاف الى ذلك امر مهم يتمثل في ضرورة توفر مناخ مناسب للحوار ينأى عن الأحكام المسبقة والمفاهيم المغلوطة، ويتحرر من العُقد النفسية، سواء كان ذلك يتمثل في عقدة التفوق في جانب او مركب النقص في جانب آخر. فالنعرات الإستعلائية خطرها في اي حوار لا يقل عن خطر الشعور بالدونية، وهكذا نجد ان اي حوار يراد له النجاح لا يجوز ان تكون غايته العمل على إلغاء الآخر او استبعاده او التقليل من شأنه. ويمكن القول ان الحوار الديني، بالمعنى الحقيقي لهذا المفهوم، لا بد ان ينطلق من الاحترام المتبادل، ومن نظرة انسانية شاملة تقوم على احترام الكرامة الانسانية، ووحدة الجنس البشري، وانتفاء الانانية، والفهم المتبادل لمعنى التسليم بحق كل طرف في ان يكون مفهوماً من الطرف الآخر من دون اي لون من ألوان التشويه او التزييف. لقد انطلقت المبادرة الى الحوار الديني اساساً في توجيه الى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك يقول القرآن الكريم: "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا أرباباً من دون الله". وقد أدار النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده في المدينة حواراً مع وفد نجران المسيحي الذي تكون من خمسة عشر رجلاً بقيادة اسقفهم ابي الحارث، وقبل هذا الحوار سمح لهم النبي ان يقيموا صلاتهم في احد اركان مسجده. ويمتاز موقف الإسلام في اي حوار ديني على اي مستوى عالمي بميزة فريدة لا تتوافر لغيره من الأديان، وهي إيمانه بكل الديانات السماوية السابقة، وهذه الميزة تجعله متحرراً من العقد والحساسيات التي قد تعكر صفو الحوار. ومن الضروري في مثل هذا الحوار ان يتجه المتحاورون الى البحث عن القواسم المشتركة بين الأديان التي يجري الحوار بشأنها، والبعد عن المسائل الشائكة في قضايا العقيدة، لأن الحوار حولها في المراحل الاولى غير مجدٍ على الاطلاق. وهناك ملاحظة أخيرة مهمة تتلخص في انه إذا أريد إجراء حوار مثمر بين الأديان، والوصول الى تعاون مشترك في ما بينها، فإنه لا يجوز للمتحاورين ان يستعيدوا دائماً في ذاكرتهم وحواراتهم عوامل الكراهية القديمة، والعقد الموروثة من ازمان غابرة ويحيوها من جديد، بل ينبغي بدلاً من ذلك ان يتبنى الجميع فكراً إيجابياً يسعى الى بناء مستقبل مشرق ينعم فيه العالم بالسلام. في ضوء خبرتك بالحوار الحضاري والديني، كيف يرى الفاتيكان الإسلام الآن؟ - صدر بيان عن الفاتيكان العام 1964 بشأن الإسلام كان ايجابياً جداً، وهو الذي مهد الطريق لأن تكون هناك في ما بعد هذه الحوارات، وأُدعي ان الوضع الآن يختلف عن السابق، فهناك ارضية مشتركة ومناسبة للحوار وتفهم من جانب كل طرف للآخر. وأذكر انه حضر الكاردينال كينيك، وكان اسقفاً للنمسا، الى الازهر اوائل الستينات وألقى محاضرة في قاعة الامام محمد عبده، حينما كان الشيخ محمد حسن الباقوري رئيساً لجامعة الازهر، وهذا يعني ان الحوار متصل. والكاردينال كينيك نفسه حضرت معه مؤتمراً للحوار في جامعة السوربون وكان ثالثنا الحاخام سيرات الممثل السابق للطائفة اليهودية في اسرائيل، وهو فرنسي الجنسية جزائري الأصل ومعروف عنه التعاطف الشديد مع القضايا العربية. وخلاصة تلك الحوارات ان هناك مبادرات إيجابية من جانب الفاتيكان، كما ان شيخ الازهر الدكتور محمد سيد طنطاوي يقف بشدة الى جانب الحوار مع الفاتيكان، وهناك لجان مشتركة وزيارات متبادلة ستكلل بالخير ان شاء الله. الحوار مع الفاتيكان يحاط بكل ترحيب من الشارع الاسلامي، ولكن الحوار مع حاخامات اليهود يشه حوارات العواصف، ونذكّر بأزمة الحوار بين الشيخ طنطاوي والحاخام اليهودي إسرائيل لاو قبل عامين؟ - هذا طبيعي في ظل القضايا العالقة بين الجانبين العربي والاسرائيلي. وأذكر انه منذ ثلاث سنوات حضر إلينا وزير الاديان الاسرائيلي، وعرض مسألة الحوار. وكان ردي عليه اننا نرحب بالحوار ولكن بعد حل القضية الفلسطينية والانسحاب من كل الأراضي العربية المحتلة. ولكنك حاورت الحاخام سيرات؟ - الحوار الذي تم في اوروبا مع الحاخام سيرات تم بصفته مواطناً اوروبياً يحمل الجنسية الفرنسية، كما انه جزائري المولد وليس بصفته مواطناً اسرائيلياً، وأشهد ان كلمته في المؤتمر الذي استمر لمدة يوم واحد كانت طيبة للغاية وتضمنت استشهادات كثيرة من القرآن الكريم.