بعد صيف لم يخل من قسوة، يستعد لبنان لاستقبال الشتاء وأمطاره الغزيرة التي تثير منذ عقود، سؤالاً مريراً عن مصيرها وهدرها. في هذا الإطار، يرد في البال فوراً نهر الليطاني الذي لا يكتفي بأنه الأطول في بلاد الأرز (170 كيلومتراً)، بل أنه يمتلك الحوض الأضخم ل «الذهب الأبيض» كما تتجاوز مساحته 20 في المئة من مساحة لبنان. ويتلقى هذا الحوض الكمية الأكبر من الأمطار، بين الأحواض المائية على سطح لبنان. مياه للجنوبوبيروت في مقابلة مع «الحياة»، أوضح النائب السابق ناصر نصر الله، وهو رئيس «جمعية أصدقاء إبراهيم عبد العال» أن التلوّث بات المشكلة الأبرز التي تهدد الليطاني. ويجيء قسم كبير من هذا التلوّث من مياه الصرف الصحي الآتية من بلدات وقرى على ضفاف النهر. وتساهم في التلوّث أيضاً النفايات الصلبة والصناعية، ومخلفات المستشفيات، والبقايا الكيماوية للمواد الزراعية المستخدمة في الأراضي المحيطة بالنهر. وبيّن نصر الله أن بحيرة القرعون (أُنشِئت في 1959 على سد القرعون الواقع على مجرى الليطاني)، يمرّ فيها قرابة 450 مليون متر مكعب من المياه سنوياً، بل يصل تدفّق مياهها إلى قرابة 700 مليون متر مكعب عند المصب. وأشار إلى أن هذه الأرقام توجب اهتماماً وطنياً أعمق غوراً من الاكتفاء بدور «المصلحة الوطنية لنهر الليطاني» التي تعنى بإدارة النهر حاضراً. وأكّد نصر الله أن هناك مشاريع مهمة تنفذ على النهر، أهمها «مشروع إنماء جنوب لبنان» على مستوى 800 متر على سطح البحر وهو مشروع ينفذ على نهر الليطاني من بحيرة القرعون، تنفّذه «مؤسسة الإعمار» بقروض من «الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي» و»الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية». واعتبره من أهم المشاريع التي تنفذ في لبنان من ناحية الجدوى الاقتصادية والاجتماعية والبيئية لجنوب لبنان. وأوضح أن المشروع يؤمّن المياه لقرى الجنوب من بحيرة القرعون تصل كميتها إلى قرابة 110 مليون متر مكعب، تنساب من ارتفاع 800 متر عن سطح البحر، لتروي قرابة 150 ألف دونم (يساوي الدونم ما يزيد على 1300 متر مربع) من الأراضي بالري بالجاذبية. وأوضح نصر الله أن بحيرة القرعون يفترض أن تساهم أيضاً في مشروع «الأولي بيروت» الذي يتوقع أن يؤمن المياه لمدينة بيروت وضواحيها، ويعتبر من أبرز المشاريع الإنمائية في لبنان، وهو مُموّل من «البنك الدولي». وبناء على هذه المعطيات، طالبت «جمعية أصدقاء إبراهيم عبد العال» المؤسسات المعنية التي تملك صلاحية رفع المُلوّثات عن الأحواض والأنهار اللبنانية، بأن تنهض بمهمة رفع التلوّث عن نهر الليطاني، وتعطيها الأولوية المطلقة، لأن مصدر مياه هذه المشاريع المهمة هو «بحيرة القرعون» التي تتزوّد بالمياه من نهر الليطاني. وطالبت جمعية «أصدقاء إبراهيم عبد العال» أيضاً، بحسب ما أوضح نصر الله، بوضع استراتيجية للصرف الصحي تضمن حماية البيئة، ومخططاً توجيهياً عاماً للمشاريع اللبنانية تجعل من البيئة مرتكزها استراتيجياً. وحضّت هذه المؤسسات على جعل الخلاص من مُلوّثات الصرف الصحي، في رأس أولوياتها. وقالت: «يجب أن تكون هناك محطات معالجة لمياه الصرف الصحي في البلدات والقرى الواقعة على حوض الليطاني، مع البحث عن صيغة للخلاص من نواتج هذه المعالجة أيضاً، بمعنى عدم التخلّص منها عبر رميها في مياه النهر! كذلك يجب على وزارتي الصناعة والصحة أن تفرضا على المؤسسات الصناعية والمستشفيات والمؤسسات التي تنتج مُلوّثات، أن تكون لديها مُعالجة ذاتية لهذه المُلوّثات. لم تُغفِل هذه الجمعية أيضاً الحديث عن المواد الزراعية، بل أشارت أيضاً إلى وجوب وضع نظام لإرشاد المزارعين، وكذلك التعاون معهم، من أجل منع رمي المواد الزراعية المُلوثة للمياه والتربة في الوقت نفسه. وطالبت أيضاً بأن يكون هناك تنسيق وتعاون بين بلديات قرى نهر الليطاني، من أجل بناء مطامر صحيّة للنفايات الصلبة، بالتعاون بين اتحاد هذه البلديات ووزارة الداخلية، والعمل على إصدار توجيهات من أجل فرز النفايات، مع التشديد على أهمية الفرز من المصدر (المنازل) أولاً، ثم معالجة النفايات في القرى والبلدات بواسطة مطامر صحية ومعامل للنفايات. وتساهم هذه الإجراءات في حماية مياه الليطاني التي تعتبر من الروافع الأساسية للاقتصاد الوطني اللبناني». حماية النهر وتناول نصر الله مسألة مدى استجابة الدولة للمطالبه المستمرة من قِبل «جمعية أصدقاء إبراهيم عبد العال» بحماية نهر الليطاني. ولم يخف أن الزيارة التي نظّمتها الجمعية أخيراً مع وزير الإعلام اللبناني وليد الداعوق وممثلين عن وسائل إعلامية، للفت الأنظار إلى مشكلة التلوّث في نهر الليطاني وبحيرة القرعون، لقيت استجابة جيّدة من قِبل السلطات الرسمية. واعتبر نصر الله أن الزيارة مثّلت فرصة أخرى للجمعية كي تطرح مشكلة تلوّث الليطاني والحلول العلمية لها، وللمطالبة بالتعاون بين المؤسسات المختلفة للبدء في هذه العملية، لافتاً إلى أن «مجلس الإنماء والإعمار» شرع في التجاوب مع مطالب الجمعية. ولم يَفُتْ نصر الله توجيه رسالة إلى المعنيين والمسؤولين وأصحاب الاختصاص، بأن يضعوا مشكلة التلوّث في نهر الليطاني وضرورة مكافحته، في رأس أولوياتهم، نظراً إلى الأبعاد الوطنية المتشابكة والحسّاسة لهذه المشكلة الممضّة. ونشأت «جميعه أصدقاء إبراهيم عبد العال» في العام 1990 من أجل إعادة طباعة أفكار المهندس اللبناني الراحل إبراهيم عبد العال (1908- 1959) ورؤاه حول المياه في لبنان، بما فيها المياه التي تتصل مع الأنهار والأحواض المائية اللبنانية، في المنطقة. ودرس عبد العال قبل ستين عاماً المياه اللبنانية على قاعدة البحث العلمي، وهو أمر لم يكن شائعاً حينها. ووضع رؤية شاملة للاستفادة من مياه الليطاني. واعتبر أن هذه الرؤية يمكن أن تؤدي إلى تدعيم الوضع الاقتصادي للبنان. وصدرت الدراسة الأولى لهذا المهندس الذي تخرّج في فرنسا، في العام 1943 ضمن نشرة علمية صادرة عن «جامعة القديس يوسف» في بيروت. وتبلورت هذه الرؤية في العام 1948، حين وضع تفاصيلها الكاملة، بعد دراسة استغرقت 15 عاماً. لم تُنفّذ سوى المرحلة الأولى من رؤى عبد العال، متمثّلة بإنشاء بحيرة القرعون الاصطناعية وبضعة معامل إنتاج الطاقة الكهربائية على مجرى الليطاني، مع الإشارة إلى أن عبد العال ردّد دوماً أن الليطاني بإمكانه تأمين ثلث حاجة لبنان من الكهرباء. وفي ستينات القرن العشرين وسبعيناته، كان لبنان يؤمن الكهرباء عن طريق المياه بنسبة تزيد على 50 في المئة. ولا يزال مشروع الليطاني يؤمن 10 في المئة من الكهرباء في لبنان لغاية الآن. وتركت دراسة عبد العال ورؤاه على المشاريع المختلفة التي وُضِعَت للاستفادة من نهر الليطاني. ولا تزال «جمعية أصدقاء إبراهيم عبد العال» تناضل من أجل تحقيق أفكاره. وفي مطلع الخريف الجاري، عقدت الجمعية ورشه عمل بالتعاون مع «المجلس العربي للمياه» بتمويل من «البنك الدولي»، ناقشت طُرُق التعاون بين الدول العربية في مسألة المياه. وشاركت لبنان الأردن ومصر وتونس في هذه الورشة التي هدفت إلى إيجاد مفاهيم مشتركة حول العلاقة بين المجتمع المدني والمؤسسات الرسمية التي تدير قطاع المياه، وإيجاد ثقافة مشتركة بين هذين الطرفين، إضافة إلى تثقيف القطاع الأهلي في مجال استعمال المياه، وطُرُق الضغط على المؤسسات الرسمية للعمل على ترشيد استعمال المياه والحفاظ عليها.