لو سألنا اليوم ألف متفرج من محبي فن السينما ومتابعي جديده عن نوعية الافلام التي يفضلونها، لجاء جواب الأكثرية الساحقة منهم: نوعية الخيال العلمي. فالحال انه في زمن تتعرض فيه السينما لمنافسة العديد من وسائل ايصال الصورة الاخرى، بدءاً بالتلفزة ووصولاً الى الانترنت والعاب الفيديو، لا يزال الخيال العلمي هو المادة المصورة التي من غير الممكن لأي فن آخر غير الفن السابع ان يوصلها الى المتفرجين بالشكل الأقرب الى الكمال والى الابهار. ومن هنا فان انتظار عشرات ملايين المتفرجين في هذه الأيام بالذات لفيلم عنوانه "الشبح يهدد" يبدو مبرراً، طالما ان هذا الفيلم لن يكون سوى حلقة جديدة من حلقات سلسلة "حرب النجوم" التي كان المخرج والمنتج الاميركي جورج لوكاس بدأ يبدعها قبل اكر من عقدين، وحققت، الى افلام مماثلة حققها زميله ستيفن سبيلبرغ، بعض اعلى الايرادات في تاريخ السينما. الخيال العلمي يسحر دائماً، ويسحر الاعمار كلها: يبهر البصر والعقل ويترك للخيال ان يتحرك بألف جناح وجناح. ومتفرجو اليوم قد لا يهمهم كثيراً ان يعرفوا ان معظم المشاهد انما تنبع من خدع سينمائية تعتمد التكنولوجيا والصورة الافتراضية، وان لا شيء في هذا العالم كله حقيقي. فالخدعة انكشفت منذ زمن بعيد، وها هو التقدم التكنولوجي يزيد من ابهارها وتكاد اسراره لا تخفى على احد. لكن الأمور لم تكن على هذا النحو في الاعوام الاولى من عمر السينما، وبالتحديد في العام 1902 حين عرض الفرنسي جورج ميلياس، في العاصمة الفرنسية، الفيلم الذي يعتبر اليوم الوالد الشرعي لكافة افلام الخيال العلمي، فيلم "رحلة الى القمر". فهذا الفيلم بمشاهده، التي من المؤكد انها ستبدو لمتفرجي ايامنا هذه شديدة البدائية، وربما مضحكة، كان اشبه بمعجزة حلت على المتفرجين في اليوم الثالث من شهر ايار مايو 1902، حين قدم الفيلم في عرضه الجماهيري الأول. صعق المتفرجون وراحوا ينظرون الى بعضهم البعض في ذهول كمن لا يصدق. قبل ذلك كان جورج ميلياس قد حقق اكثر من مئة فيلم قصير، هو الذي يعتبر اليوم احد كبار مؤسسي السينما ككل، غير ان تلك الأفلام كانت شيئا و"رحلة الى القمر" كان شيئاً آخر تماماً. كان فيلم خيال علمي من نوع جديد، يعتمد بالطبع على رواية جول فيرن المعروفة التي كان الملايين قد قرأوها مترجمة الى لغات عدة، لكنه كان يتجاوز الرواية ليؤسس تياراً لا يزال حياً في السينا حتى اليوم. والملفت في هذا كله ان كثيرين من المتفرجين - ان لم نقل معظمهم -، اضطر لأن يتذكر - في سبيل تبرير ما يراه - ان جورج ميلياس كان يمتهن السحر والشعوذة قبل تحوله الى السينما. ومن هنا، حين لم يفهموا كيف تمكن من ان يطلق صاروخه وان يفقأ به عين القمر، وكيف تمكن من تصوير ما خيل اليه من انه الحياة فوق الكواكب الاخرى، عزوا ذلك كله الى السحر الذي عرف بممارسته. ومن هنا كان الغموض اكبر والانبهار أعظم. صحيح ان الاخوين لوميار كانا هما من اعطى السينما مشروعيتها كفن للصورة المتحركة، قبل ذلك بخمسة اعوام، لكن ما صوره الاخوان كان مشاهد حية صارخة للحياة الواقعية. ويومها حين عرضت افلامهما تمكن المتفرجون من فهم ما يحدث امام اعينهم على الشاشة مع بعض الشرح العلمي، ولكن مع ميلياس كانت النقلة نوعية تماما: لم يعد بامكان احد ان يفهم، وهكذا اكتسب الفن السابع سحره الذي لا يزال مرتبطاً به حتى يومنا هذا. لذلك لم يكن غريباً ان يقول كتاب كثيرون، ان السينما الحقيقية ولدت في ذلك اليوم بالذات، بعد ان سموا ما ولد خمس سنوات قبل ذلك ب"الصورة المتحركة" لا اكثر. ميلياس تابع، بعد ذلك، رحلته وحقق العديد من الأفلام، غير ان ما حدث بعد ذلك كان ان السينما الاميركية التقطت اللعبة، كعادة كل ما هو اميركي في علاقته مع كل ما ينجح في الخارج، وطورت الأساليب التي ابتكرها ميلياس، وراحت تطورها اكثر واكثر عاماً بعد عام، مستفيدة من كل تطور تقني وعلمي يتحقق في اي مجال لتجعل منه رديفاً لفن السينما. وعلى هذا النحو قطع الخيال العلمي في صيغته السينمائية تلك الرحلة الطويلة، التي بدأت في ذلك اليوم البعيد مع جورج ميلياس، لتصل اليوم الى جورج لوكاس، مروراً بمئات الأفلام التي حملت تواقيع مئات المخرجين والتي لم تكف - ولن تكف، بالطبع - عن نقل السحر من على الشاشة الكبيرة، الى اعين وأفئدة المتفرجين.. وكل هذا جعل من سينما الخيال العلمي، السينما نفسها وبامتياز، السينما التي تتحدث عن عوالم وخوارق لم يعشها احد، ومع ذلك صارت جزءاً من المشهد العام للحياة التي نحياها.. وبالنسبة الى البعض، المشهد الرئيسي الذي يساعدهم على الهرب الى الحلم بعيداً عن الهموم، كما كان حال ابطال ميلياس الذين وصلوا الى القمر، قبل رواد الفضاء الاميركيين بعشرات العقود، وعبر تقنية ابتكرها خيال ساحر مشعوذ، سيموت معدماً بعد ذلك، لكن تلك حكاية اخرى الصورة: مشهد من "الرحلة الى القمر" لجورج ميلياس.