ما انفك السجال دائراً، كثيفاً، حول مسألة اعلان الدولة الفلسطينية، وما اذا كان يجب على الرئيس ياسر عرفات الإقدام على خطوة الاعلان تلك، في موعدها في الرابع من شهر أيار مايو المقبل، على اعتبار ان ذلك "الموعد مقدّس"، على ما ردد مسؤولون من مختلف مراتب المسؤولية في السلطة الوطنية، منذ نحو السنة، او حول ما اذا كان من الحكمة استجابة دعوات التأجيل، وهي صادرة عن العديد من الاطراف والدول المؤثرة، وقد كاد الرئيس الفلسطيني ان يستشيرها كلها، دون استثناء، في الأمر، فأكثر من الزيارات والتنقل بين عواصم الأرض، حرصاً منه على استكناه المواقف او استدراج الدعم. وحجج دعاة الاعلان عن الدولة الفلسطينية في موعدها من ناحية، ومحبذي التأجيل من ناحية اخرى، معلومة تداولتها التصريحات والمقالات الصحافية وشتى ضروب المداخلات الاخرى كثيراً خلال الفترة الماضية، بما قد يغني عن الاطناب في عرضها. لنقل بإيجاز، ان الخلاف يكاد ان ينحصر في مقاربة قانونية، ربما بدت حرفية في قانونيتها، هي تلك القائلة بأن موعد الرابع من أيار العتيد سيفضي، ان لم يتكلل بإعلان الدولة الفلسطينية، الى فراغ قانوني، طالما ان اتفاقية اوسلو، وما تفرع عنها من اتفاقات تعلقت كلها بالمرحلة الانتقالية، ستكف عن ان تكون سارية المفعول، ما يعني ان التسوية ستدخل مرحلة المجهول حقوقياً، اضافة الى ما يكتنفها من لا يقينية على الصعيد السياسي، وبين اخرى تسبّق اعتبارات الواقعية السياسية، خصوصاً ضمن مناخ الحملة الانتخابية الجارية في اسرائيل، ولا تريد من الجانب الفلسطيني ان يقدم على مبادرة يمكنها ان تستثير أكثر الاطراف تشددا داخل الدولة العبرية، ما من شأنه ان يؤدي الى اعادة انتخاب نتانياهو من جديد رئيساً للحكومة، وهو ما لا يكاد يرغب فيه احد، ناهيك عما يمكن ان يصدرمن ردود فعل من قبل الدولة العبرية، قد تتخذ شكل المواجهة العسكرية، واعادة احتلال ما تم اجلاؤه من ارض، فتنهار العملية التسووية بأسرها. وجوهر ذلك الموقف انه من الافضل الاحجام عن اعلان الدولة الفلسطينية من جانب واحد، والعمل على تحقيق ذلك الهدف بواسطة التفاهم مع اسرائيل. والحسم بين الرأيين قد لا يكون بالأمر الهين، اذ ان كلا منهما يحمل بعض اوجه الوجاهة، بحيث لا يمكن التنكر لأي منهما، ودحضه، بخفة وبجرة قلم. فالمنشغلون بالهاجس القانوني لا يقولون خطلاً، بل يثيرون مسألة جوهرية، يمكن لتجاهلها ان يكون بالغ الكلفة، كأن تستفيد منه اسرائيل، عمالية كانت ام ليكودية، لتثبيت الواقع الناتج عن المراحل التسووية السابقة على انه نهاية المطاف، كما ان القول بالاعلان الفوري للدولة، على اعتبار ان هوية الفائز في الانتخابات الاسرائيلية المقبلة امر لا يعني الفلسطينيين، موقف قد يعوزه النضج، طالما ان السلطات الوطنية لا يمكنها الا ان تكون معنية بمن سيكون محاورها في المفاوضات اللاحقة، وهو ما يتعين ان يكون ضمن استراتيجيتها، تفضيلاً ودعماً لهذا الطرف الاسرائيلي او ذاك... وما يزيد الأمر تعقيداً ان السجال حول ذلك الموضوع قد تخللته ولابسته حزازات تعود الى اصل المسار التسووي الراهن، وتراكمت مع توالي اطواره. من ذلك انك تجد بين الأشد حماسة الى اعلان الدولة، اناساً ناصبوا اتفاقات اوسلو مكين العداء منذ البداية، وأقاموا على عدائهم ذاك، يغذونه ويجذّرونه، وهم يرون في مثل ذلك القرار، والحض عليه والدفع باتجاهه، لا اعترافاً متأخراً بأوسلو وبما انجز عنها، بل تنكراً وتجاوزاً لها وخروجاً منها وعليها، واستدراجاً نحو اتباع سلوك المجابهة. والحقيقة ان مسألة اعلان الدولة، من عدمه، ما دامت تتواجه بشأنها النظرتان الآنفتان، وكل منهما يصدر عن حرص لا يقل "وطنية" عن مقابله ونقيضه، بقطع النظر عما ينجر اليه البعض من طعن تخويني غوغائي، قد لا يتقدم النقاش بشأنها كثيراً ان هي بقيت حبيسة النظرتين تينك، تتجاذبانها، ولكل منهما حجج ترجح ما تذهب اليه لا يجب التهوين منها. ومما يزيد الطين بلة، ان النقاش يجري تحت وطأة اللحظة السياسية الراهنة وإكراهاتها والحاحاتها، سواء تمثلت في انصرام اتفاقات اوسلو وانقضاء فترتها، او في الانتخابات الاسرائيلية. ربما كان التحلل من اسار تلك اللحظة هو بالتحديد ما يتوجب في مقاربة هذا الموضوع، وإلا استمر الجدل الى ما لا نهاية، او جاء القرار، في هذا الاتجاه او ذاك، مجرد خضوع للأحداث وملابساتها. ومثل ذلك التحلل من اسار اللحظة، يمكنه ان يجري من خلال التمييز بين صفتين لها شديدتي التداخل، ولكنهما من طبيعتين متباينتين، وإن الى حد، اي بما هي ظرف سياسي من ناحية، وبما هي ظرف تاريخي من ناحية اخرى. وقد لا يكون التمييز هذا بديهياً دوماً، ولكنه كثيراً ما يكون بالغ الأهمية. فما تتسم به لحظة سياسية معينة، نتيجة ما دأب عليه الفاعلون والرأي العام من منهج في التفكير وفي السلوك، او بسبب ميل الى المحافظة او عجز عن استبطان المستجدات، او لاعتبارات مصلحية او انتخابية آنية، وما الى ذلك من عديد العوامل الاخرى، قد لا يكون دائماً متساوقاً مع اللحظة التاريخية ومتطلباتها، متسقاً ضمن منحاها. والأمثلة على ذلك كثيرة، لعل بين بعض ابرزها، حرب التحرير الجزائرية، حيث ما كانت فرنسا، باتجاهاتها السياسية الغالبة والفاعلة مهيأة للقبول بفكرة استقلال الجزائر، بالرغم من ان "وجهة التاريخ" كانت بصدد طي صفحة الحقبة الاستعمارية، وكان لا بد من سبع سنوات من حرب طاحنة ضروس، ومن تصدعات داخلية عديدة وخطيرة، حتى تتمكن فرنسا من التسليم بضرورة الملاءمة بين وعيها السياسي، في ما يتعلق بتلك المسألة الاستعمارية، وبين متطلبات الحقبة الجديدة من تاريخ العالم. نحن لا نريد ان نستعيد من خلال هذا الكلام مقولات من قبيل "الحتمية التاريخية" او "السير في اتجاه التاريخ"، وما الى ذلك من مثل تلك الصياغات التي كانت، في زمن ما، رطانة تهيمن على القول السياسي، وكان لغطها الايديولوجي اقوى، بما لا يقاس، من جدواها في مضمار الاستكشاف والتحليل. بل ان السؤال الذي يعنينا طرحه هو حول ما اذا كان اعلان الدولة الفلسطينية، وهو في حد ذاته مطلب عدالة لا يرقى اليه الشك، هو الخطوة التي يستوجبها هذا الطور من تاريخ النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي؟ علماً بأن الاجابة عن ذلك السؤال هي ما يمكنه ان يقرر بشأن التعاطي مع آنيات الوضع السياسي الراهن، ان مسايرة وإن مجابهة. ما لا شك فيه ان صيغة اوسلو، سواء في شكلها الاصلي أو في اثر التعديلات التي ادخلتها عليها مذكرة "واي ريفر"، قد بلغت مداها، وما عاد بامكانها ان تحقق المزيد، الحاسم نوعياً، حتى وإن جرى التمديد لها ببعض التخريجات القانونية وببعض الترتيبات التسووية الرامية الى ابداء حسن النية والى الطمأنة الى ان المسار لم يعتره توقف قاتل. ذلك ان صيغة اوسلو، ما كان يمكنها، بطبيعتها، الا ان تكون محدودة، وأن تمثل، في افضل الاحوال، لبنة اولى نحو الحل لا اكثر، سواء مع بنيامين نتانياهو، وهو الاحتمال الأسوأ، او من دونه. فالصيغة المذكورة انجزت امرين اثنين: انها اقرت مبدأ الاعتراف المتبادل، وانها اوجدت السلطة الوطنية الفلسطينية بوصفها الترجمة العملية على الأرض لمبدأ الاعتراف المتبادل ذاك، مع ترك مسألة التوصل الى احلال السلام، باتفاقية توقع بين الطرفين، امراً مفتوحاً للتجاوب، بل للمواجهة السياسية وحتى العنيفة، قد يصار الى اقرارها وقد لا يصار، اي، بعبارة اخرى، ان صيغة اوسلو لم تنه الصراع، بل ربما لم تتضمن حتى امكانية انهائه، انها اكتفت، في العمق، باعادة طرحه على أسس جديدة، حيث انتقلت به من مرحلة الالغاء المتبادل، الى مرحلة النزاع بين طرفين، وإن اضطر كل منهما الى الاقرار بالوجود السياسي للثاني، الا انه لم يسلّم بالمطلب الأساسي الذي يتشبث به الطرف المقابل: اقامة الدولة المستقلة بالنسبة الى الفلسطينيين، والاحتفاظ بالسيادة كاملة على الأرض، بالنسبة الى الدولة العبرية، مع السماح بحكم ذاتي على هذا القدر او ذاك الاتساع. وغني عن القول ان الاجماع واسع حول هذا الموقف داخل اسرائيل، من يسار او من يمين، بحيث لا تشذ عنه الا فئة قليلة، هامشية، وإن كانت الأكثر تنوراً. والحقيقة ان الجانب الاسرائيلي، بمختلف اتجاهاته، ربما كان الاكثر صواباً في تقييمه لاتفاقية اوسلو، حيث رأى فيها استمراراً للصراع، بمنطق آخر وبوسائل اخرى، بعد ملاءمته مع طائفة من المستجدات التي نجمت عن الانتفاضة، وما برهنت عليه من صعوبة استمرار الاحتلال، او تلك الاقليمية والدولية الناتجة عن نهاية الحرب الباردة وحرب الخليج، من الاطراف العربية سواء في ذلك تلك التي تحمست للاتفاقية المذكورة، وكأنها بداية السلام، او تلك التي ناصبتها شديد العداء، اذ لم تر فيها الا كونها مجرد استسلام. قصارى القول من كل ذلك ان ما تحقق على صعيد عملية التسوية خلال السنوات الماضية، قد يكون، في نهاية المطاف، وحتى في صورة توقع الافضل نسبياً لو لم يغتل اسحق رابين ولو استمر العماليون في الحكم، كل المتاح تقريباً، في اطار اوسلو وما تفرع عنه. ما يعني انه بات من الضروري الانتقال بالصراع على فلسطين الى طور آخر، قد تحتل فيه مسألة اعلان الدولة منزلة محورية. ذلك انه اصبح على مسار التسوية، حتى يتمكن من التقدم، ان يواجه تلك المشكلة التي ظلت عالقة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وانهيار الدولة العثمانية، نعني مشكلة السيادة على أرض فلسطين. فقد نشأ مذاك فراغ سيادي، ظل ماثلاً، لم يملأه الانتداب البريطاني، ولم يتداركه حتى قرار التقسيم الصادر عن الأممالمتحدة في سنة 1947. فبريطانيا كانت، قانونياً، مجرد مؤتمن موقت، بتكليف من عصبة الأمم، على السيادة على فلسطين، وهي ما كانت تمتلكها، ولا كان يحق لها التصرف بها. والقولة الشهيرة، في وعد بلفور، "اعطى الذي لا يملك وعداً لمن لا يستحق"، ليست مجرد خطابة، بل هي توصيف بالغ الدقة. اما الأممالمتحدة، فهي لم تدع يوماً صلاحية السيادة تلك ولا كان لها ان تفعل، لذلك جاء قرار التقسيم، ذلك الذي ينظر اليه على انه اساس الشرعية الدولية، على شكل "توصية"، وهي العبارة المستعملة في بنوده، لا على هيئة وثيقة قانونية ملزمة... وكل ذلك معلوم جيداً لدى المهتمين بالقانون الدولي، وقد عرضته الباحثة مونيك شلمييه - جندرو بشكل واف في عدد نيسان ابريل من مطبوعة "لوموند ديبلوماتيك" الفرنسية. وغني عن القول بأن قيام دولة اسرائيل، ثم توسعها اللاحق، لم ينهيا ذلك الاشكال السيادي، طالما ان تلك الخطوة قد تمثلت في اعلان للسيادة من جانب واحد، على أرض كانت، ولا تزال، محل صراع. وهذه المعضلة السيادية لا يمكن للتسوية ان تستمر دون مبادرة الجانب الفلسطيني، صاحب المصلحة في ذلك، الى طرحها ومواجهتها وإحلالها مرتبة الصدارة في التعاطي مع الخصم ومع العالم. ولعل اعلان الدولة الفلسطينية من شأنه ان يكون المدخل والطريقة الامثلين في ذلك. فمن شأن خطوة كتلك، تسوي بين الطرفين في ادعاء السيادة على ارض فلسطين، من خلال فرضها النظر في تلك المسألة التي ظلت معلقة منذ الحرب العالمية الأولى، ان تمكّن، في الاخير، من النفاذ الى جوهر النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي، وأن تنأى بعملية التسوية عن المماحكات حول الانسحابات ومداها، من اجل وضعها ضمن الأفق الذي يجب ان تنزع نحوه، اي كصراع بين سيادتين تبحثان عن سبل التعايش على الأرض نفسها. وذلك يمكنه، مهما كانت الاعتبارات، ان يكون الأقل اجحافاً من بين كل الصيغ التي طرحت على الفلسطينيين حتى الآن. أضف الى ذلك ان اعلان الدولة من شأنه ان يضع السلطة الفلسطينية في موقع سياسي أفضل، وأن يمنح مطالبها زخماً اكثر، وإن زاد في تأزيم تعاملها مع اسرائيل. فهي ستخوض بقية الاطوار المقبلة للتسوية بوصفها دولة تطالب باسترداد اراض لها محتلة، لا بوصفها مجرد سلطة حكم ذاتي تسعى وراء المزيد من الصلاحيات ومن الامتداد الترابي. ومن كل ما سبق، ولكل الاعتبارات الآنفة الذكر، وبالنظر الى حدود مسار التسوية بأدواته القانونية والسياسية الراهنة، ربما امكن القول بأن قرار اعلان الدولة هو الخطوة الحاسمة، وربما الوحيدة المتاحة، التي يمكن للسلطة الفلسطينية ان تقدم عليها في هذا الطور من اطوار النزاع - التسوية مع اسرائيل. وبديهي ان مثل ذلك القرار، وهو سيادي بامتياز، يجب ان يكون نابعاً من ذاته، تلقائي الارادة، ولا يمكنه، نظراً لطبيعته تلك بالتحديد، ان يخضع، من قبل اسرائيل، الى فيتو او الى استسماح او الى اذن. وإذا ما تم الاقرار، تبعاً لما سبق، بمبدأ اعلان الدولة، فإن الالتزام بموعد الرابع من أيار مايو المقبل من عدمه، قد يصبح في حد ذاته امراً ثانوي الاهمية، اذ يبقى انه لا بد من تقدير الكلفة السياسية، والعسكرية المحتملة، التي قد تنجر عن مثل ذلك القرار، وضرورة السعي الى الحد منها قدر المستطاع، وهو ما يعود بنا الى آنيات اللحظة السياسية، ولكن من منظور آخر. * كاتب تونسي مقيم في فرنسا.