الكتاب: ديوان الحمراء المؤلف: د. صلاح جرار الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 1999 240 ص شغلت الأشعار العربية المنقوشة في مباني قصر الحمراء وجنة العريف في غرناطة الأندلس اهتمام الدارسين القدماء والمحدثين على حد سواء، ولعل أول من استرعت تلك النقوش انتباههم كانوا من الباحثين الموريسكيين والإسبان والأوروبيين وذلك منذ سقوط غرناطة سنة 897ه/ 1492م. ويشير صلاح جرار الى أن أول موريسكي قام بنسخ تلك الأشعار وترجمتها الى الإسبانية كان ألونسو دي الكاستيو سنة 1564م، لتتوالى بعد ذلك الدراسات والأبحاث التي لم تكتفِ بما فعل الكاستيو، حينما قصر اهتمامه على كتابة الشعر المنقوش في الحمراء وترجمته، بل شرعت تضم الى الشعر النثرَ وتدرسهما دراسة جمالية وأدبية وتاريخية متعمقة. على أن ما يميز الكتاب الذي وضعه جرار هو أنه الدراسة العربية الوحيدة التي تكاد تكون شاملة في معالجته للأشعار، وعرضها من خلال ألبوم مصور ملون. فضلاً عن مناقشة تلك الأشعار والتوثق من أبياتها، وتبيان معانيها ونسبتها الى أصحابها، ثم البحث في معايير اختيار تلك الأشعار وموضوعاتها وأسلوبها وقيمتها الأدبية. يضاف الى ذلك كله أن هذا الكتاب، الذي يُعدّ أحدث ما نُشر عن الأشعار المنقوشة في قصر الحمراء وجنة العريف بغرناطة، قد أحال تلك الأشعار المنقوشة الى مادة للتداول القرائي حينما أنزلها من علياء الرخام الى فسحة التلمس البصري التي تحتضن حروفها دفتا كتاب ذي ورق مصقول. ويعزو المؤلف دأب الأندلسيين في نقش تلك الأشعار الى عنايتهم الكبيرة بالزينة واهتمامهم بالزخرفة الخطية، حتى إن عدوى ذلك قد انتقلت الى أشعارهم وكتاباتهم التي بدا فرط اكثارهم من الزخرفة اللفظية جلياً فيها. غير أن ثمة دوافعَ أخرى تقف وراء الاهتمام بنقش تلك الأشعار على جدران المباني والقصور أبرزها "تخليد الذكر" وهو ما شكّل هاجساً لدى ملوك بني الأحمر الذين كانوا يتوقون الى تمجيد أنفسهم، وتسجيل انتصاراتهم لتشجيع "الخلف من أبناء هؤلاء الملوك وأحفادهم على الاقتداء بآبائهم في تحقيق الانتصارات والمنجزات الحضارية". وفي ظل احساس ملوك بني الأحمر بالخطر الذي كان يهدّد مملكتهم، وبالتالي الوجود الإسلامي في الأندلس، فقد دفعهم ذلك الى "تكثيف الملامح العربية والإسلامية وتركيزها على قصورهم، لكي تحتفظ هذه القصور من بعدهم بملامح عروبة الأندلس". ولعل ما يشهد على نجاح ملوك بني الأحمر في تحقيق هدفهم ما أكده العلاّمة الإسباني اميليو غارثيا غومث حين قال: "ان الحمراء هو القصر الملكي الإسلامي الوحيد الذي وصل الينا من العصور الوسطى محمّلاًَ بكل ما نعرفه عن الإسلام". ويحصي الباحث صلاح جرار عدد القصائد والمقطوعات المتبقية في قصور الحمراء وجنة العريف، فيقدّرها بنحو اثنتين وثلاثين قصيدة ومقطوعة وخمسة أبيات مفردة "ويبلغ مجموع أبيات هذه القصائد والمقطوعات نحو مائتين وستة وعشرين بيتاً تتوزع في "المَشْوَر وبهو قمارش" و"جناح الأُسود" و"الأبراج" و"جنة العريف حيث يوجد عشرون بيتاً في ثلاث مقطوعات" وخامس المواضع التي تتوزع فيها الأشعار "متحف الحمراء، وتوجد فيه قصيدة من ثلاثة عشر بيتاً منقوشة على رخامة قبر محمد بن يوسف بن نصر محمد الأول مؤسسة مملكة غرناطة". تآكل القصائد والأبيات والخط الغالب على تلك النقوش هو الأندلسي غير أن بعضها بخط كوفي، وتطرّق الباحث لما أصاب بعض النقوش من تلاشٍ وتناقص بسبب الناس وعوامل الطبيعة حيث أخذت بعض الأبيات والقصائد في الأمحاء، فيما شارفت الأشعار المنقوشة على الخشب على الاختفاء! بسبب ميل لون الخشب، الى السواد، علاوة على تآكل بعض القصائد والأبيات، وتعرضها للخلط والفوضى بعد أن كان يُجرى لها الترميم حيث تفقد مواقعها الأصلية، وقد بيّن الباحث هذا الأمر وعالجه معترفاً بمشقة هذا المسعى متنكباً دروبه الشائكة. ويتساءل الباحث بعد ذلك: "ما نسبة القصائد والأشعار المتبقية حالياً في مباني الحمراء من مجموع القصائد والمقطوعات التي كانت منقوشة بالفعل منذ قيام مملكة بني الأحمر سنة 636ه/ 1328م؟!". وفي غمرة بحثه عن الإجابة يورد الباحث التغيرات التي أصابت مباني الحمراء من توسعةٍ وتضييق وهدم وخراب وزلازل وعوامل طبيعية، فيرى أن ما بقي بالفعل من تلك القصائد المنقوشة "قد لا يصل في عدده الى ثلث ما كان موجوداً في تلك المباني أيام بني الأحمر". ويستدل الباحث على رأيه هذا لما "أوردته الدواوين والمصادر الأدبية الأندلسية من قصائد لم يبق لها أثر الآن في مباني الحمراء". وفيما يتصل بشعراء القصائد في الحمراء، فإن نسبة معظمها يعود الى ثلاثة شعراء غرناطيين هم: ابن الجيّاب، وابن الخطيب، وابن زمرك، بيد أن ثمة عدداً من القصائد مجهولة القائل. وتنسجم موضوعات القصائد المنقوشة مع أغراض الشعر العربي المتعلقة بالمدح والفخر والوصف والرثاء، والأدعية التي تستغرق وتتخلل معظم القصائد في سائر أغراضها. وتخضع تلك القصائد لعدد من المعايير المتصلة بالسلاطين والشعراء وأسلوبهم وطرائق نظمهم وقوافي أشعارهم وموضوعاتها، على أن معيار السلطان يبقى هو الفيصل الذي تلتظم في خيطه المعايير الأخرى، فهو الذي يختار الشعراء، ويحدد لهم الموضوع الذي يقتصر على المدح دون سواه كشرط بديهي ليرى الشعراء قصائدهم معلقةً على الجدران. وإذا كان لبعض تلك الأشعار قيمة تاريخية في حفظ ما اندثر من العمران، والإشارة الى معلومات تتصل بمواد الزخرفة والبناء التي كانت مستخدمة في ذلك الحين" مما يفيد الدارسين للعمارة الإسلامية، فإن تلك الأشعار "لا ترقى بجمالها الفني الى مستوى جماليات المكان الذي تصفه هذه الأشعار" ولعل هذا الحكم النقدي يصلح أن ينسحب على الشعر الأندلسي أكثره الذي انشغل بالتكلّف والصنعة والزخرفة اللفظية والبيانية، ووقف عاجزاً عن تلمس عبقرية المكان واستكناه جوانيته وصيرورته ذاكرة له وناطقاً بإسمه أو معبراً عن طاقته الروحية الكامنة. وتبقى هذه الأشعار، باالرغم من كل شيء، مكتنزةً بقيم أدبية وجمالية وتاريخية وحضارية، فهي من جهة تذكّر بتجربة المعلقات حيث كان الشعر يعلق على أستار الكعبة تقديراً له وإشهاراً لفضل ناظمه. ومن جهة ثانية فإن التنوع في أساليب نقش تلك الأشعار "دليل على ثراء المخيلة الفنية العربية وثراء الخط العربي وقدرته على تلبية ما يتمخض عنه الخيال الفني". وهذه الأشعار، الى ذلك، شاهد على الحضارة العربية في الأندلس، ولعل النقوش أن تكون "عاملاً رئيسياً من عوامل انتشار فن الأرابيسك في العمارة الأوروبية". وقد أتبع د. صلاح جرار أستاذ الأدب الأندلسي بالجامعة الأردنية بدراسته ملحقاً مصوراً بالأشعار المنقوشة تضمن نحو مائتين وخمس وعشرين صورة ملونة لإثنتين وثلاثين مقطوعة أعاد كل واحد منها الى البحر الذي نُظمت على أوزانه، ونسب الأشعار الى قائليها، وطابقها مع روايات الذين اشتغلوا على نقوش الحمراء وجلهم من الإسبان والمستشرقين، كما أتاح للقارىء أن يستغرق في جماليات النقوش التي بدت أغلبها كلوحات فنية تستثير الروح والوجدان وتُنعش المخيلة، وتستعيد، في كل حين، زمان الوصل بالأندلس.