نظم قسم اللغة الاسبانية في كلية الآداب في جامعة القاهرة اخيراً مؤتمراً دولياً عن الحضارة الاندلسية استمر ثلاثة ايام اعطى لفتة تكريمية للعلامة والمستشرق الاسباني اميليو غارثيا غوميث الذي اعتبره احد الباحثين في معهد سرفانيتس في مدريد "ألمع وأعظم رائد واستاذ لكل المستشرقين ولعلم الاستشراق ذاته". ونعرف ان غوميث عمل وهو في الثالثة والخمسين سفيراً لبلاده في بغداد ثم بيروت في العام 1960، وفي تركيا من 1962 الى 1969. وأصدر مجلة "الاندلس" التي عنيت بالحضارة العربية في اسبانيا. وكما ذكر احد الباحثين الاسبان الذين عملوا معه، فإن غوميث كان يفضل ان تتوقف المجلة عن الصدور اذا ما تعرضت لضغوط تجعلها تحيد عن الخط الذي اختاره لها. ونجح غوميث بقيادته لحركة الاستشراق في اسبانيا، وهي انشط حركات الاستشراق في اوروبا، في ان يخرج جيلاً من شباب الباحثين والمستشرقين الذين تتلمذوا على أفكاره وقدموا اسهامات مهمة في هذا الاطار. من ناحية أخرى، فان غوميث لم يكن يعتقد بضرورة وجود الاستشراق الاسباني الا في اطار محدود يختص بدراسة كل ما هو اسباني عربي في العصور الوسطى. وقد هاجم تلاميذه في محافل عدة معتبراً ان توجهاتهم في الاستشراق تجاوزت حدودها بالسعي نحو شمولية اكبر. ولكن احد تلامذته ممن حضروا المؤتمر، وهو الدكتور رودلفوخيل غريماو، لا يتبنى موقف استاذه بل ويراه على خطأ. اذ ان الاستشراق الآن في اسبانيا - حسب قوله - يتجاوز تلك الدائرة الضيقة التي حددها غوميث الى دوائر اوسع. وفي اسبانيا اليوم ما يزيد على مئتي وخمسين مستعرباً ومستشرقاً داخل الجامعة وخارجها، في مختلف المناصب العلمية بدرجات اكاديمية مختلفة. والغريب، كما يذكر غريماو "ان غوميث كان يحذرنا من صعوبة هذا التخصص، وينصحنا بالانصراف الى نوع اخر من الدراسة". وقدم البروفيسور مانويل غرسو غالبان من جامعة اشبيلية في اسبانيا وجهة نظر جريئة حول رؤية الاسبان المعاصرين الى حضارة الاندلس، حيث ثمة سعي الى اقتطاع جذور هذه الحضارة من التاريخ "فالصراع بين الشرق والغرب يجعل من الاندلس مرحلة منتهية، عبر ما سمي بحرب الاسترداد التي سعت الى محو كل نمط من انماط التأثير الثقافي والحضاري للإسلام في الاندلس. في حين ان الماضي او التراث الروماني أو القوطي ما زال يعترف بهما كعنصر اساسي ... اما التراث الاسلامي فأصبح هامشياً، حيث تم طرد اكبر عدد ممكن من سكان البلاد الذين كانوا يعتنقون الدين الإسلامي ... ان إعادة إعمار هذه المنطقة لم تكن ذات اشكالية طبيعية، وإنما كانت عرقية وأيديولوجية. ويوغوسلافيا الحالية يمكن ان تعطينا فكرة واضحة او رؤية قريبة عن هذه الآلية". وأشار غالبان الى ان اسبانيا تعترف بماضيها الاسلامي فقط من خلال الآثار الاسلامية البارزة، ومن خلال مقاطعاتها المتفرقة. ومع ذلك فهي لا تعترف بأدبها وفنونها وموسيقاها التي تطورت خلال فترة الوجود الاسلامي على ارضها، ويضيف: "الحضارة الإسلامية الاندلسية يتم تجاهلها، ومن ثم لا يتم ترجمتها، وبعد عقود من حضور وبقاء الشعوب الاسلامية في الاندلس، يتم الاعتراف بهذه الشعوب على أنها شعوب غازية وليست شعوباً اصلية". وأكد غالبان على ضرورة ان ترفض الاندلس المهمة الموكلة اليها من قبل الاتحاد الاوروبي، والتي تتلخص في كونها الحرس الحقيقي للحدود الجنوبية، بل عليها ان تلعب دوراً اكبر كجسر للثقافات والتأثيرات المعرفية المتبادلة. وشدد على ضرورة ان تعرف البلاد الاسلامية، خصوصا المغرب العربي، أن الأندلس هو طريق التنمية والتطور حتى داخل الاتحاد الاوروبي. وطالب بطرح سياسة فاعلة تُثري المد الثقافي والعلمي والاقتصادي بين الاندلس والعالم الإسلامي بحثاً عن ثقافة أندلسية جديدة للقرن المقبل. وعلى طريقة "شهد شاهد من أهله"، قدم الدكتور البارو غالمس دي فونتيتي دراسةً انتهى فيها الى ان مناطق الحكم الاسلامي في اسبانيا شهدت خروج علماء اوروبيين ترجموا الى اللاتينية اعمال علماء الفلك والحساب والنبات والفلسفة العرب، والتي بهرت رجال الكنيسة المسيحيين. وقد قسّم تاريخ العلم في اوروبا في العصور الوسطى الى فترة سابقة على تلك الترجمات واخرى لاحقة لها. وبعيداً عن اسبانيا، قدم الدكتور احمد ابو عياد من جامعة وهران في الجزائر دراسة عن الاندلس في شعر دول اميركا اللاتينية الناطقة بالاسبانية، وأورد مختارات من قصائد لشعراء من تلك الدول تتغنى بالاندلس في مراحلها المتعددة منذ نهايات القرن الخامس عشر وحتى اليوم، مثل شعر خوان دي ارجيو وفرانشيكو دي لويد وفرناندو دي هيريرا وبعض شعراء الرومانسية والحداثة المعاصرين. وقال ابو عياد ان الشعر الذي طوّره العرب في الاندلس امتد بسرعة الى كل بقاعها، وسمح لمجموعة من شعراء العرب الاندلسيين بأن يبدعوا في فن الموشحة والزجل، وهما نوعان من الشعر الشعبي اصولهما اندلسية. وتحدث الدكتور خالد باقر من كلية الآداب في جامعة البصرة عن النص الشعري عند المعتمد بن عباد صاحب اشبيلية، وبالذات شعر الاسر، والقصائد التي قالها في السجن خلال المدة من 484 الى 488 ه. وبدأ بقصيدة المعتمد التي قالها وقد دخلت بناته للسلام عليه في يوم عيد، وفيها رسم حالة بناته التي تستدر الدمع في هذا المجتمع. وأكد أن المعتمد قال في منفاه أصدق أشعاره وأبلغها في النفس أثراً... "كان ألم المعتمد في الحقيقة ألماً نفسياً روحياً مبعثه التباين بين حياته الماضية وحياته في المنفى، واساسه الاختلاف الواضح بين الحضارة التي كان يعيش في ظلها، والبربرية التي وجد نفسه بين أنيابها، ذلك الاختلاف البعيد بين قصور اشبيلية وبين أكواخ المغرب وما فيها من مرارة ... لقد كان شعر الأسر وثيقة تاريخية أدبية أعرب فيها الشاعر عن كثير من الأمور التي أشارت إليها المظان الأدبية والتاريخية". ولأن العمارة هي احد تجليات الحضارة العربية الاسلامية في الاندلس، قدم الدكتور كمال عناني اسماعيل من كلية الاداب في جامعة الأسكندرية دراسة أثرية عن الحمام الاسلامي في الأندلس، تناول فيها مكانة الحمام وأهميته في عمران مدن أسبانيا الاسلامية كأحد أهم المؤسسات المعمارية في المركز العمراني والاجتماعي، وبوصفه من عناصر العمران الحضري في الأندلس. فالحمامات لم تتوقف أهميتها عند حدود وظيفتها الاجتماعية والدينية، بل تجاوزتها لتصبح دليل حضارة المدينة وتحويلها من دور البداوة الى الدور المدني والحضاري، وكانت تخضع لإشراف المحتسب. كما تعرضت الدراسة لحمامات الاستشفاء التي عرفتها أسبانيا وكانت تقع قرب العيون الكبريتية. وعن الأرابيسك في العمارة والفنون الإسلامية، قدم الدكتور محمود إبراهيم حسين من جامعة الكويت محاولة لتحديد الاسباب التي دفعت الفنان الأندلسي إلى ابداع هذا النمط من الزخرفة واستخدامه على نطاق واسع في ميدان العمارة الإسلامية. وكيف أن الفنان المسلم اكتشف في هذه الزخرفة عالماً جديداً من التكوينات الزخرفية، واشكالا هندسية، واخرى مستوحاة من الكتابة العربية، اضافة الى أشكال استحال تصنيفها. فالارابيسك لم يكن عملاً هندسياً خالصاً، لكن الفنان أبدع من خلاله مضموناً ثابتاً قد يتكرر الى ما لا نهاية. ولاحظ الباحث اختلافات فنية بين زخارف الأرابيسك الأندلسية التي كان يسيطر عليها الطابع الهندسي كما هي الحال في قرطبة في القرن العاشر الميلادي، أو في غرناطة في قصر الحمراء، حيث شكلت أهم موضوع زخرفي، في حين كانت الأشكال النباتية الأخرى تظهر بشكل ثانوي في خلفيات الموضوع. اما في المشرق الإسلامي، فإن الأمر لم يكن بالسهولة نفسها بالنسبة الى فن الأرابيسك، ذلك أن التراث الإيراني المحلي كان يقاوم التعريب الزخرفي، وكان لا بد من وقت كافٍ حتى تتمكن زخارف الأرابيسك من الوجود كبديل لهذه الزخرفة الساسانية. وانتهى الباحث إلى أن فن الزخرفة المعروف باسم الأرابيسك، سواء كان في المشرق أو في المغرب، هو فن أوجده العرب، وهم الذين حددوا له صورته النهائية. والمثير للدهشة أن الفنانين الغربيين لم يستطيعوا تجنب سحر هذه النماذج، إذ أصبح الأرابيسك كفن زخرفي "موضة" أندلسية وجدت طريقها إلى مختلف أنحاء أوروبا.