تتلمذ جيلان على الأقل من الروائيين العرب على يدي نجيب محفوظ المولود سنة 1911. ومضى الكثير منهم في الطريق الذي افتتحه هذا الكاتب العالمي برواياته الرائدة، مواصلين رحلة استكشاف عوالم الوعي المحدث للنماذج المنحازة إلى الجديد والداعية إليه، سواء في تعاقب ظهورها عبر التجليات المختلفة لعمليات التحديث، أو تتابع تولد رؤاها الإشكالية في صراعها مع شروط الضرورة في مجتمعاتها. لكن لم يلتفت إلا أقل القليل منهم إلى أهمية متابعة استكشاف الوعي التقليدي للنماذج المعادية للجديد، والغوص عميقا في أبنية الثوابت التي يأبى هذا الوعي أن يفارقها، وإلقاء الضوء على الدوافع العميقة للنفور من الاختلاف أو المغايرة أو الاجتهاد. وأهم من ذلك كله، التحليل الإبداعي لآليات الاستجابة العدائية التي يمكن أن تنقلب إلى عنف عارٍ إزاء متغيرات التقدم وتحديات التطور، ومن ثم الكيفية التي يتحول بها نموذج المثقف التقليدى إلى نموذج المتطرف الديني الذي أصبح يؤرق مستقبل الدولة المدنية. والطاهر وطّار الروائي الجزائري المولود سنة 1936 واحد من الروائيين العرب القلائل الذين حاولوا تدارك هذا الجانب في عوالم الرواية العربية، منذ ربع قرن على وجه التحديد. وكان ذلك حين أصدر روايته "الزلزال" التي فرغ من كتابتها في ايلول سبتمبر 1973 ونشرها للمرة الأولى عن دار "العلم للملايين" في بيروت سنة 1974، والمرة الثانية عن الدار "الوطنية للنشر والتوزيع" بالجزائر سنة 1976. وتكمن أهمية هذه الرواية في أنها الرواية العربية الوحيدة التي تصوغ - في ما أعلم - نموذجاً بشرياً دالا من نماذج الشخصيات المعادية للتقدم، وتغوص في مكونات وعي هذا النموذج، ساعية إلى تقديم رؤيته المعادية للتغير في حَدِّ الرفض للجديد، كاشفة عن الآلية التي يتحول بها المثقف التقليدي إلى متطرف ديني، داخل شبكة من العلاقات التي يقترن بها هذا التحول وينتج عنها. وذلك كله من منظور البطل الذي يتدفق وعيه في تفجرات محسوبة روائيا، سواء في كشفها عن الدوافع المتباينة التي ينطوي عليها، أو العوامل السياسية الاجتماعية التي أدّت إلى تكوين وعيه على هذا النحو دون غيره. وتصاغ تجليات هذا الوعي تقنيا في مونولوغ واحد متصل، لا يتقطع أو ينقطع إلا بما يكشف عن جوانب جديدة في العالم الذاتي للبطل الذي يتولد عن عالم تاريخي بعينه، عالم يتحول متوترا ما بين علاقات قديمة وجديدة، ينبني كل قطب منها بواسطة تعارضات داخلية متعادية. وفي هذا الجانب، تحديدا، تنطوي رواية "الزلزال" على بعد ثان من الأهمية، في السياق التاريخي المتعاقب لتحولات العلاقة الجدلية بين التحديث والحداثة في المجتمعات العربية. وهو البعد الذي يتجاوب به الخاص والعام في نموذج البطل الذي تنبني عليه الرواية، يغدو حضوره الروائي نوعاً من الإرهاص بما حدث بعد ذلك، حين تكاثر أشباه الشيخ عبدالمجيد بو الأرواح - بطل الرواية - في كثير من الأقطار العربية، وتولّد من صلبه الذي بدا آفلا في "الزلزال" المئات من الذين انطووا على عدائه الحدِّي لعمليات التحديث وأفكار الحداثة، بادئين من النقطة التي بدأ منها ليصلوا إلى مدى أبعد من النقطة التي انتهى إليها. ولذلك تبدو رواية "الزلزال"، حين نتأملها بعد خمسة وعشرين عاما من صدورها، بمثابة استشراف لما حدث في الأقطار العربية على مستويين. أولهما خاص بالشيخ عبدالمجيد بو الأوراح بطل الرواية نفسه، خريج الزيتونة المتعصب ومدير المدرسة الثانوية، نموذج المثقف التقليدى الذي يبدأ من دائرة التقليد الاعتقادية فينتهي إلى التعصب الديني، ومن ثم التطرف الذي يفضي إلى الحض على ممارسة العنف العاري. ووجد الشيخ عبدالمجيد في تكوينه الاتّباعي وتربيته الاعتقادية الجامدة، اثناء تعليمه الديني بالزيتونة التي هي معهد ديني مُوَازٍ للأزهر بمعنى من المعاني، ما دفعه إلى أن يمضي قدما على درجات السلم الصاعد إلى ممارسة التطرف. لم يعقه عن ذلك، بل زاده إمعانا في الصعود، وضعه الاجتماعي بوصفه واحدا من كبار الملاك الزراعيين الذين استغلوا أبشع استغلال فقراء القرى التي هيمنوا عليها. وتتجاوب العلاقة بين الثروة القائمة على الاستغلال والتعصب القائم على التقليد الذي يفضي إلى التطرف في تكوين النموذج الروائي للشيخ عبدالمجيد بوالأرواح، خصوصا من منظور التطابق بين انغلاق الوعي الطبقي والوعي الثقافي، وتحويل الفكر الديني التقليدي إلى أداة لتبرير الاستغلال الاجتماعي، ومن ثم رفع سلاح التأويل الديني المتعصب في وجه محاولات التحديث المرتبطة بتطلع دعاة الدولة المدنية إلى التقدم، وتحقيق العدل في علاقات مجتمع المدينة والقرية على السواء. ومدى الحركة الروائية لهذا النموذج هو المدى الذي يبدأ بالأفق المحدود لمدينة قسنطينة، حيث ظهرت العناصر التكوينية الأولى لنموذج الشيخ المتطرف متجسدة في شخصية بو الأرواح، لكن بما يسقط علاقات الحضور على علاقات الغياب في النص الروائي، ويمتد بالفضاء السردى لرواية الطاهر وطار إلى الأفق الأوسع للوطن العربي كله. ويقود ذلك إلى المستوى الثاني من البعد الاستشرافي لرواية "الزلزال". وهو البعد الذي يرتبط بمؤسسات الدولة الوطنية التي انتزعت الاستقلال من الاستعمار، ورفعت شعارات التحول الاشتراكي والثورة الزراعية، ولكنها لم تفلح إلا في بناء مجتمع انطوى على تناقضات أفضت إلى الكارثة اللاحقة التي لم ينتبه إلى إرهاصاتها من يحول دون وقوعها. وإذا كانت رواية "الزلزال" تكشف، في جانب منها، عن الكيفية التي أدّى بها التحديث الاشتراكي ولم يكن سوى تسمية بديلة عن رأسمالية الدولة التي نهبها حراسها إلى رد فعل عدائي لدى المتضررين من نتائج هذا التحديث، في المجالات الثقافية الفكرية، والاقتصادية الاجتماعية، فإن النموذج الروائي للشيخ بوالأرواح يصل بين هذه المجالات، ويتضمنها في إهاب حضوره السردي الذي تكشف علاقاته عن المفارقة المأسوية التي انطوت عليها مرحلة ما بعد الاستقلال. أقصد بذلك إلى أن مشروع تحديث الدولة الوطنية لم يخل تطبيقه من فساد باعد بين الشعارات المعلنة والإنجازات المحققة، واستبدل بالتسلطية الاعتقادية الجامدة تسلطيه عسكرية أو شبه عسكرية محدثة، فكانت النتيجة تخلق بذور انهيار المشروع كله، خصوصا في اقترانه بفئات حاكمة عملت - من وراء الرايات المرفرفة لشعارات الدولة الوطنية الواعدة - على احتكار مصادر القوة والسلطة في المجتمع لصالحها، فأحالت حلم الاستقلال الوطني إلى كابوس وطني لا يزال ماثلا في هذا القطر العربي أو ذاك. وتحديد زمن الفراغ من كتابة رواية "الزلزال" في نهاية صفحاتها السطحة، المنصورة: قسنطينة في 13-9-1973 مسألة دالة في إشارة الزمن الروائي الداخلي إلى الزمن الخارجي الذي ترك بصماته على حركة الزمن الداخلي، فالرواية مكتوبة بعد استقلال الجزائر بما يجاوز تسع سنوات بأشهر. وكانت الثورة الجزائرية قد انتصرت وأصبح أحمد بن بيلا أول رئيس للجمهورية ابتداء من شهر تموز يوليو سنة 1963، أي أن المؤلف الفعلي - الطاهر وطّار - فرغ من كتابة روايته بعد اقتراب الثورة الجزائرية من عيدها العاشر، وبعد ثماني سنوات من إطاحة هواري بومدين بأحمد بن بيلا من كرسي الرئاسة وتوليه حكم الجزائر في حزيران يونيو 1965، ومن ثم تصاعد علامات الوعد الاشتراكي والثورة الزراعية، ووضع أسس - قيل إنها صحيحة في ذلك الوقت - لمجتمع ديموقراطي متقدم. ونشرت الرواية في العام اللاحق على كتابتها، تتصدرها مقدمة من مؤلفها الذي يتحدث عن خصوصيته التي تقوم على الصراع بين عقليتين متناقضتين، عقلية القرون الوسطى التعميمية التجريدية، وعقلية القرن الواحد والعشرين العلمي التكنولوجية، وكذلك عن تكون فنه الكتابي نتيجة تفاعل حضاري تناوشه جدة بذور الحياة وتخلف بذور الموت. وتكشف المقدمة عن رغبة المؤلف في تقديم جزائر ما بعد الاستقلال، بعد أن قدم جزائر ما قبل الاستقلال في روايته "اللاز" الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر سنة 1974 التي تبقى عملاً متميزا من أعمال الرواية العربية. ويبدو أن الدافع إلى كتابة رواية عن جزائر ما بعد الاستقلال هو قلق الوعي النقدي من تصاعد الهوة بين المعلن عنه وما يجري تنفيذه بالفعل، واكتمال تجسد مفارقات جزائر ما بعد الاستقلال التي تصارعت فيها النقائض، وواجه فيها الجديد الذي يمثله المنتسبون إلى الثورة القديم الذي جسّده الشيخ عبدالمجيد بوالأرواح بكل أصوله الاجتماعية وملامحه الاقتصادية ومواقفه الفكرية والاعتقادية. وكانت الرغبة المعلنة للمؤلف، الطاهر وطار، هي تأمل انهيار النموذج الذي يمثل القديم وينتسب إلى الماضي، تأكيدا لوعود المستقبل التي حملت أمل إقامة مجتمع ديموقراطي متقدم. وفي الوقت نفسه، توجيه بعض النقد إلى بعض المظاهر السالبة لتحولات المجتمع الجديد لجزائر ما بعد الاستقلال. لكن مبدأ الواقع السردي للنص الروائي لم يقتصر على تحقيق الرغبة المعلنة للروائي المعلن، خصوصا حين قاد بطله الروائي إلى ما يشبه انهياره المحتوم منذ البداية، وإنما أضاف إلى هذا الانهيار ما يوازيه من علامات إمكان تولد انهيار آخر، لا تلمحه سوى العين التي تبحث - وراء مظاهر "التحديث الاشتراكي" أو ملامح "البطل الاشتراكي" المنتسب لدعاوى ذلك العصر- عن العلامات الملتبسة التي لم يتطابق بها السرد المنجز مع الرغبة المعلنة للمؤلف، وإنما تجاوزها إلى الكشف عن الإمكانات المتعارضة للموقف الروائي الذي ما كان يمكن اختزاله في صفة واحدة أو في اتجاه واحد. وما أقصد إليه، تحديدا، هو أن الانهيار الفعلي لنموذج القديم الذي يمثله الشيخ عبدالمجيد بو الأرواح، تنتهي الرواية به وهو في طريقه إلى المستشفى بعد أن أصيب بالجنون، يوازي إمكان انهيار آخر، تتناثر علاماته في السرد، وتعمل على جذب انتباه العين إلى القطب المقابل للشيخ عبدالمجيد بو الأرواح، وهو قطب الجديد الذي تمثله نماذج الدولة الوطنية الجديدة، في ممارسات عالم ما بعد الاستقلال. ولذلك فنحن في الرواية إزاء أكثر من زلزال، الزلزال الطبقي الأول الذي تحدث عنه بالباي الصديق القديم للشيخ بوالأرواح حين قال له: قسنطينة الحقيقية انتهت وزلزلت زلزالها حين وضعت العبيد موضع السادة، وحين كان الرعاة والحفاة والعراة يدخلون المدينة من الريف ليقتلوا الأسياد ويخرجوا دون أن يردهم أحد، فضاعت قسنطينة بالففون وبن جلول وبن تشيكو وحلت محلها قسنطينة بوفناره وبوالشعير وبولفول وبوطمين وبوكل الحيوانات والنباتات. والزلزال الثاني هو الزلزال الأكبر الذي يرى الشيخ بو الأرواح علاماته من حوله في قسنطينة الجديدة التي ينفر منها، ويرجو دمارها، وهو الزلزال الذي سيكون كبيرا جدا، شاملا الداخل والخارج، الصغير والكبير، العسكر وغير العسكر. والزلزال الثالث هو زلزال الوعي الذي ظل الشيخ بو الأرواح يعانيه منذ دخوله إلى قسنطينة إلى خروجه من جسر الشياطين في طريقه إلى المستشفى بعد أن جن جنونه تماما. وذلك الزلزال هو ما يشير إليه بوالأرواح عندما يكرر بينه ونفسه أن الزلزال الحقيقي إحساس. لكن هناك، فضلا عن ذلك، الزلزال الرابع، وهو الزلزال الذي يرهص به المؤلف المضمر، ويعلن عن نذره بواسطة العلامات التي ينثرها في النص، العلامات التي تلفت نظرنا إلى أن الجديد الواعد، في جزائر ما بعد الاستقلال ينطوي على قنابل تعارضاته الموقوته التي لا بد أن يأتي أوان انفجارها، فتطيح بمشروع التحديث المدني، وترفع صوت دعاة مشروع البعث الأصولي الاعتقادي. ولذلك كانت الحركة المتوترة للشيخ بو الأرواح في فضاء رواية "الزلزال" علامة مزدوجة على الزمن الآتي، سواء من منظور حضور الشيخ المتعصب الذي انطوى على امكانات تولده وتكاثره، أو منظور الواقع الخارجي الذي استجاب إليه الشيخ، والذي أفضى فساد آلياته إلى تزايد وتسارع إمكانات التكاثر والتوالد، ومن ثم التعجيل بانهيار المشروع الذي حمل بذرة نهايته منذ بدايته. وما بين البداية التي حملت معنى التفاؤل وإرهاصات النهاية التي تحولت إلى بداية، يتحرك الشيخ عبدالمجيد بوالأرواح في "الزلزال" حركة شعورية، موازية للحركة المكانية التي يقوم بها في موطنه قسنطينة.