دخل العرب القرن العشرين بتطلعات وطموحات قومية وحدوية، ويخرجون منه الآن الى القرن التالي وقد تخلوا عن ذلك بسبب الاستعمار الذي قسمهم الى دويلات وشعوب وبسبب الانظمة التي كرست تلك القسمة وصانتها وجعلت منها الأساس والمنطلق والمعيار والهدف لكل ما تقوم به الآن أو تخطط للقيام به مستقبلاً. وكان من من نتيجة ذلك، انحسار التيار أو المد القومي وتلاشي أحزابه وحركاته التي اضطرّت الى التسليم بالهوية والهموم القطرية والغرق فيها، وتراجع كل أشكال العمل العربي المشترك بما في ذلك التضامن والتفاهم واللقاء العربي. كان العرب مطلع القرن العشرين أشقاء يطمحون لأن يعودوا أسرة واحدة في بيت كبير إلا أنهم، بعدما عمل المستعمر على اقناع كل شقيق منهم بامكان ان يكون رباً لأسرة مستقلة في منزل خاص دون الحاجة الى الشقيق الآخر أو المسكن الكبير، وقعوا في الشرك وغرقوا فيه الى حد أصبح معه كل شقيق منهم يعتقد فعلاً بأن لا حاجة لشقيقه الآخر، وان الآخر ليس شقيقاً فعلياً له، وان لا فضل لشقيق على آخر إلا بترسيم الحدود واعلاء جدرانها معه فلكل منهم شعبه وقراره وكيانه المستقل، ولكل منهم دولته المستقلة، وكل منهم يخاف من الآخر على دولته أكثر مما يخاف من الجار غير العربي. تختتم الانظمة العربية القرن العشرين وهي تلهث وراء تسوية خلافاتها الحدودية. فخلال العقد الماضي توصلت العديد من الانظمة المتجاورة الى اتفاقات لترسيم الحدود فيما بينها وإنهاء الخلافات والادعاءات السابقة، بينما لا تزال العديد من الانظمة الأخرى تسعى للوصول الى اتفاقات كهذه لإنهاء التوترات القائمة منذ عقود. والمؤلم انه كلما توصل نظامان الى اتفاق لترسيم الحدود تسارع الانظمة الاخرى وكذلك جامعة الدول العربية الى ارسال برقيات التهنئة الى العاصمتين المعنيتين بالاتفاقية التي كثيراً ما اعتبرت بمثابة انجاز تاريخي للعرب على درب تحقيق طموحاتهم. والمؤلم أكثر ان تسمع قادة ذينك النظامين يتحدثان عن الآمال بالوحدة ويصف كل منهما ذاته بأنه الداعي والساعي اليها. ورغم ما تحقق من اتفاقات حتى الآن فإن الخلافات الحدودية لا تزال اكثر من ان تحصى وبعضها ذو طبيعة صراعية أو انفجارية بين الاشقاء سابقاً. مع تراجع المد القومي وطغيان القطريات العربية نلاحظ ان كل قطرية منها تحفر عميقاً في الآثار التاريخية بحثاً عما يعزز هذه القطريات ويقدم السند التاريخي لوجودها منذ آلاف السنين، ما يوحي بأن المراحل التي كانت فيها هذه القطريات متحدة في امبراطورية واحدة كانت مجرد مراحل عابرة لن تعود أبداً ولا رغبة بعودتها. لعل الأمر الأكثر إثارة للحزن ان الاحزاب والحركات القومية، ومعها التطلعات والأهداف القومية، والتي تأسست مع بدايات استقلال الدول العربية وشكلت ما عرف بالمد أو التيار القومي على امتداد نحو عقدين متصلين، تلاشت أو تكاد مع طغيان القطريات العربية، بل واستسلمت كما يبدو لمنطق هذه القطريات وضرورتها التاريخية حين حلت نفسها وتحولت الى أحزاب قطرية لا علاقة تجمعها مع الاحزاب الشقيقة لها سابقاً. بل ان بعضها ممن تحول الى حزب قطري شهد انقسامات وانشقاقات وصراعات دموية بين أجنحته لم تشهدها الاحزاب القطرية الأصيلة. والأمر الملفت ان بعض شخوص هذا التيار يلتقون منذ نحو عقد من الزمان في اطار ما أطلق عليه اسم "المؤتمر القومي العربي"، على أمل اعادة بعث واحياء التيار القومي إلا أنهم ورغم اجتماعهم تسع مرات متتالية على امتداد السنوات التسع الماضية، ورغم أهمية تشخيصاتهم للحال العربية، لم يستطيعوا حتى الآن احياء هذا التيار ولم يتفقوا بعد على ان يجعلوا من مؤتمرهم حزباً قومياً عربياً جديداً يتجاوز في بنيته ورؤيته الاحزاب والحركات القومية السابقة. ويبدو ان الاتجاه العام للمؤتمرين لا يؤيد انشاء هكذا حزب ربما مخافة استفزاز الأنظمة القطرية العربية وتوجهاتها المستقبلية وربما نتيجة اقتناع غالبية المشاركين بفشل تجربة الحركة القومية الواحدة كون العديد منهم سبق وان ساهموا في هذه التجربة. إن قراءة الحال العربي أو بتعبير أدق الاحوال العربية تؤكد ان الانظمة والنخب الفكرية والثقافية العربية تبتعد أكثر فأكثر عن ما هو قومي وتنغمس أكثر في ما هو قطري، وأحياناً تقترب وتنغمس في ما هو أقل من القطري: طائفي ومذهبي وقبلي. مع نهاية الحرب العالمية الثانية وبدء استقلال الدول العربية سارعت الدول العربية المستقلة القليلة آنذاك أواسط الأربعينات الى انشاء جامعة الدول العربية لتكون إطاراً يجمع الدول العربية الشقيقة وينسق جهودها على طريق الوحدة العربية. ورغم ما أنجزته الجامعة على امتداد أكثر من 50 عاماً إلا أنها لم تتمكن من الارتقاء والتطور نحو الآمال المعقودة، خصوصاً في العقد الأخير رغم كثرة ما كتب وكثرة ما أتخذ من قرارات في هيئات الجامعة، بل وحتى على مستويات القمة العربية. وقد مرت مرحلة كادت فيها الجامعة العربية ان تتحول الى جامعات عربية مع تأسيس مجالس التعاون العربية الثلاثة المستقلة عن بعضها البعض: مجلس التعاون الخليجي ومجلس التعاون العربي ومجلس التعاون المغاربي. لقد تلاشى اثنان من هذه المجالس وبقي المجلس الأول التعاون الخليجي والسبب الرئيسي في بقائه هو غياب الدول الكبرى المتنافسة على رئاسته، حيث لا دولة كبرى فيه سوى المملكة العربية السعودية سواء من حيث المساحة أو السكان أو الثروة أو حتى الزعامة، وبسبب ذلك كانت الزعامة في المجلس معقودة لها منذ التأسيس وحتى الآن. في العقدين الأولين من عمر الجامعة العربية وبينما لم تكن الدول العربية قد استقلت كلها بعد، تمكنت الجامعة من إنجاز أهم اتفاقاتها الدفاع المشترك والسوق المشتركة وعاشت آنذاك ما يمكن وصفه بالعصر الذهبي. إلا أنها ومع استقلال كل الدول العربية عدا فلسطين وازدياد عضويتها الى أكثر من عشرين دولة بدأت تعيش العصر النقيض، الأمر الذي يطرح منذ فترة تساؤلات عن آفاق المستقبل وضرورات الوجود وأشكاله. بعد فشل الدول العربية في ان تكون دولاً شقيقة عبر الجامعة العربية أو خارجها، يبدو ان ثمة توجهاً بدأ الاعلان عن نفسه لأن تكون دولاً صديقة لا شقيقة. وربما كانت هذه الصيغة هي صيغة المستقبل: ان يتحول العرب من أشقاء الى أصدقاء. وهذا بالطبع أفضل من ان يتحولوا الى أعداء، ولكن ربما كان التحول الى اصدقاء مقدمة للتحول الى اعداء في مرحلة لاحقة. فقد أعلن في بداية أيار مايو 1999 في القاهرة عاصمة الكنانة والاشقاء العرب ومقر جامعة الدول العربية عن انشاء جمعية صداقة بين دولتين عربيتين سبق ان حملتا ولا تزالان تحملان راية الوحدة والقومية العربية وتم الاحتفال بتأسيس هذه الجمعية على مستوى رفيع. وهذه هي على الأغلب جمعية الصداقة الأولى التي يتم تأسيسها بين بلدين عربيين، الأمر الذي يوحي نظراً لمكانة البلدين عربياً واقليمياً بأنها قد تكون بداية لعصر ظهور جمعيات صداقة بين كل دولة عربية والدول الأخرى العشرين الاعضاء في الجامعة العربية، وربما قاد تأسيس هذه الجمعيات الى أحداث تغيير في الجامعة بحيث تصبح مثلاً جامعة جمعيات الصداقة العربية بدل جامعة الدول العربية. من المتعارف عليه ان جمعية الصداقة تنشأ عادة بين دولتين هما على الأغلب بعيدتين عن بعضهما جغرافياً وثقافياً وقومياً وذلك بهدف ان يسعى القائمون عليها في هذا البلد أو ذاك الى التعريف بثقافة وحياة مواطني البلد الآخر والتقريب بالتالي بين شعبي البلدين ونظاميهما الحاكمين. فما الذي يمكن ان تقوم به جمعية صداقة بين بلدين عربيين يتكلمان اللغة نفسها وينهلان من ثقافة وتاريخ مشترك وسبق لهما ان كانا ينتميان الى دولة واحدة. وحتى الأمس القريب كان لهما هدف مشترك واحد: هو الوحدة، وعدو مشترك واحد: هو اسرائيل، فما الذي ستقوم به هكذا جمعية اذا نجحت سوى جعل الشعبين والبلدين صديقين بدل ان يستمرا شقيقين؟ هل هذا وداع للعروبة؟ وهل هو المطلوب للعرب مستقبلاً؟ * كاتب فلسطيني، دمشق.