اختارت الشاعرة سعدية مفرح الشاعر أحمد شوقي ليكون النموذج الأكثر تمثيلا لشعراء القرنين التاسع عشر والعشرين والعرب في دراستها لمعجمهم الشعري ضمن فعاليات الدورة الحادية عشرة لمؤسسة عبد العزيز البابطين للإبداع الشعري، وقالت سعدية مفرح في دراستها التي ألقتها على جمهور الدورة التي عقدت مؤخرا في الكويت : لقد ارتأينا منذ البداية أن يكون الشاعر أحمد شوقي تحديداً هو النموذج الأكثر تمثيلاً لهذه الشريحة الواسعة جداً التي تتمدد على مدى العنوان المقترح، والتي لا يمكن استقصاء كل مكوناتها وعناصرها في مجرد ورقة ذات مواصفات محددة وشروط مسبقة تتعلق بالحجم مما لا يتناسب وطبيعة الموضوع المستقصاة من العنوان وحده. قيمة كبرى وقالت الشاعرة سعدية مفرح ان هناك أكثر من سبب موضوعي، وربما غير موضوعي، لاختيار شوقي منها أنه كان دائما حاضرًا في الذائقة العربية منذ ما يزيد على قرن من الزمان تقريبًا، ليس بسبب مكانته الأولى كأمير للشعراء وحسب، بل لرسوخ المعطيات الموضوعية التي جعلته يعتبر كذلك مما يكسبه قيمة تمثيلية كبرى لشعراء حركة (الإحياء) أو (البعث الشعري) في بداية عصر النهضة العربية الحديثة، وبالتالي لن يكون غريبًا عن أحد أن يكون أحمد شوقي هو الاختيار الأول لأي باحث يتحتم عليه اختيار شاعر ما، وبالمطلق ليكون مادة دراسة تمثل القرنين التاسع عشر والعشرين على صعيد الثقافة العربية تحديدًا. أسباب موضوعية فأحمد شوقي، أبرز شعراء العرب في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أهم رموز ذلك العصر التنويري الجديد، والذي بدأ بعد عصور من الظلام الذي غشي الثقافة العربية في تجلياتها المختلفة، وكان الشعر أهم تلك التجليات، وأبرزها، وأكثرها وضوحًا في الأثر العام، حيث كان اللسان العربي في شقه الشعري يخرج من زخرفات مملوكية جعلت من تلك اللغة العظيمة سبية في يد المحتالين اللغويين، وشعراء الافتعال والصنعة التي أخرجت الشعر من موهبة العفوية إلى تهافت الصنعة. لكن السبب الأهم كما رأته الباحثة والشاعرة مفرح هو أن نتاج أحمد شوقي الشعري المتمثل في (الشوقيات)بأجزائها الأربعة توزع زمنياً على القرنين التاسع عشر والعشرين بالعدل والقسطاس التاريخيين، وهو توزع يتناسب وسنوات عمر أحمد شوقي التي توزعت بدورها على القرنين المذكورين بالعدل والقسطاس أيضًا، فالشاعر توفي عن (66) سنة، عاش نصفها في القرن التاسع عشر والآخر في القرن العشرين، كما أن شوقياته نشر جزئيها الأوليين في القرن التاسع عشر وأكملهما في القرن العشرين. قصيدتان مميزتان وعن موقف أحمد شوقي من العربية كأساس لاختياراته المعجمية قالت مفرح انها وجدت في ديوان شوقي قصيدتين هامتين جدًا في استجلاء موقفه الموضوعي الفاعل في اختياراته اللغوية كلها ولاسيما في اختياراته المعجمية، أولهما قصيدته (تحلية كتاب) التي قالها بمناسبة تأليف كتاب (فتح مصر الحديث) لحافظ بك عوني، وهو قول يتضح منه إيمانه بقدرة اللغة العربية الفصيحة على اقتحام الصعب من مجالات التعبير وعلى الاستجابة للحاجات الجديدة التي تقتضيها جدة الزمان وبصلاحيتها لجميع العصور شريطة أن يعرف المحتاجون إليها سبل الإفادة منها. أما القصيدة الثانية فهي مرثيته في صديقه الشاعر حافظ إبراهيم الذي اشتهر باعتزازه بالعربية ومناصرته لقضيتها. ومعنى هذا في تقدير الباحثة أن اللغة العربية ليست مجرد أداة كتابة عند أحمد شوقي، وعند الرموز من أبناء عصره من الكتاب والشعراء، وإنما هي إحدى غايات الكتابة.. دوائر معجمية ثم إن هذا الموقف (الفكري) سوف يمارسه شوقي على أنه موقف أو سلوك (فني) بمعنى أن لغة شعره - في مستويات القول كلها لا في المستوى المعجمي فقط - هي الدليل الأول والتحدي الأول الذي ينبغي أن يُرفع كي يبرهن على حياة العربية، وعلى قدرتها على تسمية العالم شعرًا في الحاضر الراهن كما كان ذلك شأنها في الماضي الغابر.وهكذا يبدو أحمد شوقي ممثلاً لجيل كامل من الشعراء العرب - في مصر وفي سائر أقطار الوطن العربي - في عصره مكرسًا لاختياره في التوفيق بين (الوفاء) و (الإحياء): فكيف يتضح ذلك في اختياراته المعجمية. ولفتت مفرح النظر الى عدد من الدوائر اللفظية التي تشكل حقولاً معجمية ممتدة غنية بالمفردات تتسم الوحدات المعجمية فيها بالتجانس لأنها تتحدر من مجال معجمي/ دلالي واحد. وأهم هذه الدوائر المعجمية في شعره وأكثرها تواترًا واطراءً معجم الطبيعة والحيوان ومعجم الدين ومعجم الحرب والبطولة ومعجم النور والضياء ومعجم البداوة ذي الإيحاء القديم ومعجم الحضارة ذي الإيحاء الجديد. ولإكمال المشهد المعجمي لدى شوقي - أوردت مفرح بعض الملاحظات التي تتعلق بما هو نادر في استعمالاته ولكنَّه مسهم، من زاوية الندرة، في تحديد ملامح أخرى من تعامل الشاعر مع الظاهرة المعجميّة. أمير الشعراء دائماً وختمت دراستها الموسعة والتي تجاوزت الستين صفحة بالتذكير بأن شعر شوقي يكرّس سُنن العبارة الموسومة في تراث العرب الشعري في عصوره الزاهرة. ولهذا الأسلوب المعجمي خصائص ومقوّمات تحدّد هوّيته العامة وانتماءه إلى أسلوب شعراء (الإحياء) الشعري الكبار، وقد كان شوقي - مثلما كان معاصروه من أبناء هذا العصر وهذا الاتجاه - يدرك تماماً أنّ له مهمّة وعليه مسؤوليّة هي مسؤوليّة النهوض بأدب الأمة، واختار، هو وأمثاله، أن يعبّروا عن الحياة ويسمّوا العالم شعريًّا بأسلوب (عربي) وطريقة (عربيّة) محافظة، وكانوا يعون أنّهم يحيون بما يفعلون مجد الأمّة وتراثها الغابر الزاهر ويؤسسون لعودة الرّوح إليه، ولهذا كانوا يعتبرون أن الشعر الطليعي، بل إنّ الشعر - اختصارًا - وشعر المرحلة هو الشعر العمودي الفصيح المتشبّع من كنز العربيّة التراثيّة، المتفتّح على العصر باتزان ويُسر. هذا ما يشترك فيه شوقي مع معاصريه والمتجهين اتجاهه في فهم الشعر وعمله. أمّا ما يتميّز به عن أغلبهم فهو الشاعريّة، وهو ثراء الرصيد المعجمي الشخصي، ولعله بهما استحقّ لقب (إمارة) الشعر.