يشبه الباحث الفرنسي م. ميرميه الحياة بمحرك بثلاثة أزمنة: الزمن الشخصي والزمن المهني والزمن الاجتماعي. ويقول أن الهاتف الخليوي خلط هذه الأزمنة. وفي هذا الخلط، وفي موازاة ما أحدثه الخليوي من تسهيلات ومن دمج للأوقات، دخل هذا الجهاز عنصراً جديداً الى مستويات مختلفة في العلاقات الاجتماعية، محدثاً فيها تغيرات وممهداً لتصرفاتٍ مختلفة، أضحت لشدة بديهيتها وعاديتها في مجتمعات حل فيها الخليوي، من الأمور النافلة، لكنها في مجتمعات أخرى أشبعت درساً وتحليلاً وتأويلاً. لبنان من الصنف الأول من المجتمعات، وفيه اجتاحت ظاهرة الهاتف الخليوي وفاقت في انتشارها أي وسيلة اتصال أخرى، انه من البلدان الأولى من حيث عدد مقتني الهواتف الخليوية، إذ يبلغ عددهم نحو 550 ألف مشترك من أصل أربعة ملايين مواطن ومقيم أي أكثر من واحد الى ثمانية. وإذا ما قيس هذا الرقم الى عدد البالغين يصبح واحداً الى أربعة، أي أن كل ثلاث عائلات لبنانية تملك هاتفين خليويين. ومن الأرقام المذهلة المتعلقة بدخول الخليوي لبنان، ذلك المتعلق بحجم الاستهلاك الفردي الذي يبلغ نحو 750 دقيقة في الشهر للفرد، وهذا الرقم هو الأعلى في العالم. لقد ترافقت ظاهرة انتشار الخليوي في لبنان مع دخول ثقافة جديدة للاستهلاك، جاءت بها رياح نهاية الحرب وإعادة الإعمار. وساعد في تفشي الخليوي جنوح اللبنانيين الى الالتحاق السريع بنماذج حياةٍ وافدة، وشعورهم أن الحرب أخرت اتصالهم بها. كل ذلك ركب على حاجة اليه أملاها خلو بلدهم من شبكة هاتف ميكانيكي. لكن الخليوي اليوم في لبنان أكثر من حاجة، إنه من جهة علامة مرتبة، وأحد الاكسسوارات الضرورية الموجودة في متناول العين واليد أينما حل اللبناني، انه كما حقيبة اليد والنظارات، يحمل في معظم الأحيان في شكل مستقل ومنتبه اليه، ومن جهة أخرى هو نافذة على حياة فردية لا يؤمنها الهاتف الثابت، أي أن الحاجة اليه مختلفة عن الحاجة الى الهاتف الثابت. الأوقات التي تبلغ فيها ذروة استعمال اللبنانيين للخليوي هي ما بين العاشرة صباحاً والثانية عشرة ظهراً، وأيضاً ما بين السادسة والثامنة مساءً، والوقت الثاني يؤكد تجاوز وظيفة الخليوي علاقات العمل ودخوله في شبكة صلات الناس الاجتماعية على رغم أن شبكة الهاتف الثابت عادت وتحسنت في السنوات الأخيرة. ولكن يبدو أن "الخليوي" ولَّد أنماطاً من العلاقات لا يمكن تصريفها إلا عبره. فتقول تريسي وهي شابة تعمل في إحدى الشركات "ان لهاتف المنزل طقوساً مختلفة، فعندما كان يطلبني أحد عبره، كان سؤال جميع من في المنزل من المتصل؟ بديهياً، أما الخليوي، فيرن وأتحدث مع من طلبني من دون أن يثير ذلك حشرية أحد". إنه بمعنى ما بالنسبة الى تريسي وسيلة تعزز خصوصيتها، وتجعل هذه الخصوصية أمراً معترفاً به. أما فاطمة وهي سيدة تعمل في إحدى الشركات أيضاً فقالت انها اشتركت في الخليوي أخيراً. فاشترت بطاقة مدفوعة سلفاً Clic لتبقى على اتصال مع ابنتها 9 سنوات في المنزل حين تكون هي خارجه ليلاً، أي أن الخليوي وفّر لفاطمة فرصاً أخرى للخروج من المنزل مما يعني إحداثه تغييرات مهمة في حياتها. أما خليل فيقول انه اشترى هاتفاً خليوياً Clic لإبنته وهي في عامها الجامعي الأول، نتيجة شعوره أن الأجواء الجديدة في الجامعة بعيدة من امكان مراقبتها كما هي الحال في المدرسة. فالهاتف الخليوي يتيح لخليل الاتصال بإبنته أينما كانت ويمكنه، كما يقول، التنصت أثناء محادثته لها على الأصوات في محيطها مما قد يتيح له معرفة مكان وجودها في حال شك في ما صرحت هي عنه. والجالس في الأماكن العامة، أو المتجول في وسائل النقل في بيروت لا بد له من أن يصادف عشرات المتحدثين والمتحدثات عبر الخليوي بأنواع من الأحاديث الموحية بوظائف جديدة لهذه الآلة، فالصبية التي قالت لوالدتها أنها في الجامعة كانت جالسة في المقهى، والرجل الذي يرن هاتفه، نظر الى شاشته ثم أعاده الى الحقيبة من دون أن يضعه على أذنه، والسيدتان الراكبتان سيارتيهما يفصل بينهما تقاطع طرق كانتا تتحادثان عبر الخليوي وتؤشران بغبطة بأيديهما الواحدة للأخرى تماماً كما تفعلان لو كانتا تتحادثان وجهاً لوجه من دون خليوي. دخل الخليوي عدة القوام الشخصي للبناني، وأصبح جزءاً منها. والسؤال عن رقم الخليوي الذي في حوزتك بديهي لسائلك وعدم اقتنائك له أمر مستغرب بالنسبة اليه. وتبادل الأرقام الخليوية بين الملتقين، وان عابراً، يفتح كوى بينهم لم يُتح فتحها من قبل، والتبادل لا يحصل أحياناً إرادياً، فأنت حين تطلب رقماً من الطبيعي أن يحفظ جهاز من تطلبه رقمك. وقد ساعدت وسيلة الاتصال هذه على نوعٍ من "اللزاجة" في العلاقات، وجعلت الاتصال أمراً ممكناً أكثر وخففت من الاعتبارات التي يجريها المتهيئ للاتصال، فمن يُتصل به هو فرد بعينه ومن غير المحتمل أن يكون المجيب شخصاً آخر. وتقول يمنى إنها، منذ اقتنت خليوياً، أصبحت شخصاً في المتناول، وهو أمر أخذ نقاشاً كبيراً بينها وبين نفسها، هي التي لا ترغب في أحيان كثيرة في أن يعرف أحد أين هي، والخليوي بهذا المعنى وعلى مقدار ما أتاح من انفكاكٍ من عمومية الهاتف الثابت. واعترافاً بخصوصيات وتقسيمات في لعائلة، هو وسيلة مراقبة وطمأنة. وهو أيضاً وسيلة كذب في امتياز. فيمنى التي كان من النادر أن تكذب كما تؤكد جعلها الخليوي "كاذبة بامتياز". فسؤال "من أين تتكلم!" هو أول ما يمكن أن يسألك اياه المتصل بك أو المتصل أنت به. وكذلك هناك أسباب أخرى للكذب على الخليوي من نوع "انني في طريقي اليك". انه يولّد نظاماً للأشياء، ويتيح أساليب التفلت منه في آن، ففي مقابل مراقبة الأهل هناك الكذب، وفي مقابل جعلك في متناول كل المتصلين في أي وقت هناك نظام "الكليب"، الذي يسمح بقراءة رقم المتصل وعدم الرد عليه إذا اقتضى الأمر. قد تبدو هذه التقنيات والإمكانات التي يوفرها الخليوي لشدة تداولها، من البديهيات المستعملة يومياً، لكنها أيضاً توحي كم دخل هذا الجهاز في عمق حركة الأفراد اليومية وحساباتهم المختلفة بلا شك عن تلك التي كانت لديهم قبل اقتنائهم له. ولعل الرقم الذي ينتج عن متوسط التخابر الشهري للفرد في لبنان، وهو 750 دقيقة بكلفة نحو 65 دولاراً أميركياً، إذا أضفنا اليه قيمة الاشتراك والخدمات الأخرى، في بلدٍ لا يتجاوز متوسط دخل الفرد فيه خمسمئة دولار أميركي، قد يكون مبرراً إذا ما قرن بحجم التغييرات التي أحدثها الخليوي وبأنواع التسهيلات التي يقدمها. قسمت شركة "سيليس"، وهي إحدى شركتين تتقاسمان سوق الخليوي في لبنان عدد مشتركيها الذين يبلغ عددهم نحو 270 ألف مشترك. إلى نوعين: الأول قوامه المشتركون في الشبكة الخليوية العادية وعددهم نحو 145 ألفاً، والثاني حاملو البطاقة المدفوعة مسبقاً Clic وعددهم 125 ألفاً، وبينما يبلغ متوسط استهلاك الفرد للنوع الأول نحو 750 دقيقة في الشهر، يبلغ في النوع الثاني 110 دقائق. وهذا التقسيم يقلل من أهمية جدول أعمار المشتركين الذي أجري على المشتركين في الخط العادي، إذ من المستحيل معرفة الخصائص الإحصائية للمشتركين في البطاقة الموقتة التي يتم شراؤها من محال عادية من دون معرفة حتى اسم المشترك في الكثير من الأحيان. ولكن من الملاحظ جداً في بيروت أن المشتركين عبر Clic هم من فئات عمرية شابة، لأن كلفة الإشتراك فيه أدنى بكثير من الاشتراك في الخط العادي. ووظيفة الخليوي الذي في حوزة هؤلاء هو البقاء على الخط، فهم اشتركوا ليُتصل بهم لا ليتصلوا، وحتى إذا أرادوا الاتصال يطلبون الرقم ويجعلونه يرن ثم يقفلونه حتى يعرفهم من يتصلون به ليعاود هو الاتصال، وهذه وسائل يستعملها الطلاب والنساء اللواتي يرغبن في البقاء في متناول أولادهن في المنازل. أما رجال الأعمال وأصحاب المهن الحرة والمديرون. فمن غير العملي نهائياً اشتراكهم في Clic. وإذا اعتبرنا أن نسبة الرقمين 145 ألفاً و125 ألفاً تمثل نوعي الحاجات التي أملت اقتناء الخليوي يظهر أن أقل من نصف المشتركين بقليل اقتنوا هواتف خليوية لغير أسباب العمل. وتصنف شركة "سيليس" مشتركيها في الخط العادي بحسب مهنهم، فتأتي في المرتبة الأولى فئة أصحاب المهن الحرة ثم فئة الموظفين ثم المديرين، ففئة من لا عمل لهم، ولا يخضع المشتركون عبر البطاقة الموقتة لهذا التصنيف طبعاً. وتقول الشركة أن معظم مشتركيها في الخط العادي هم من الذكور وأن نسبة الإناث تبلغ نحو 20 في المئة، لكنها تشكك في حقيقة هذه الأرقام إذ تشير الى "أن كثيراً من الرجال المشتركين ونتيجة سيطرة عقلية شرق أوسطية، يوقعون عقود شراء الهواتف، بينما يكون المالك الحقيقي والمستهلك نساءهم أو أولادهم". وهناك من لاحظ في بيروت أن الهاتف الخليوي ولّد نظماً جديدة من الأداء الجسماني. فرجل الأعمال مثلاً يبقيه على مسافة منه ضمن حقيبته أو بين أوراقه، وحين يرن يحمله بتأنٍ مدققاً في هدوء في رقم المتصل به، أما الشابات فأدخلنه في حركة أجسامهن وبرعن في جعله عنصراً في أنوثتهن، فمنهن من يشرعن أثناء حديثهن عبره في التجول وإطلاق النظرات الزائغة وتحريك أيديهن مداعبات السلك الذي يربطه بالسماعة، في حين تعمد أخريات الى الهمس عبره مشدودات بكل أجسامهن اليه. وغالباً ما يعد الحرفيون ومقتنو الخليوي من العمال إلى ابرازه على خواصرهم في المكان الذي كان يوضع فيه المسدس أيام الحرب، وفي مشيتهم وحركتهم تشعر أن أجسامهم منجذبة اليه ومتصلبة في المركز الذي يلامس أجسامهم. أما الطلاب فهو خفيف بين أيديهم ومتدفق إذ أن معظم أوقاتهم التي يتحدثون فيها عبره هي أثناء سيرهم على الطريق، فتشعر أن الخليوي راكض أمامهم الى المكان الذي يقصدونه. والهاتف الخليوي هو أحد علامات غياب المكان وضعف تأثيره في علاقات اللبنانيين المحدثة، وقد يبدو أن في ذلك اسقاطاً مبالغاً فيه، لكن حقيقية ما يحدث في بيروت وما حدث في سنوات ما بعد الحرب يساعد على استنتاج كهذا. فالمدينة أعيد بناؤها في صيغ مشابهة لهذا الافتراض، وثمة من يرى أن العمران البشري ذاهب الى طغيان تغييب دور المكان في علاقات الناس. في بيروت لم يكترث أحد الى ترميم وبناء علاماتٍ وأماكن لقاء، فكل ما أعيد بناؤه أماكن عبور، الجسور والأوتوسترادات والمطار، وحتى المدينة الرياضية هي مكان اقامة موقتة، فيما هي لمعظم البيروتيين من غير مشجعي النوادي الرياضية تلك الصورة التي تعبر مسرعة أمام أنظارهم أثناء مرورهم على الأوتوستراد الجديد المؤدي الى المطار. الوسط التجاري وهو الذي كان ركيزة الأمكنة في بيروت، هو اليوم منطقة عبور ومجال نظرٍ ليس إلا. الهاتف الخليوي هو في أحد وجوهه وسيلة اتصال تفترض اغفال المكان. فأنت حين تتصل لا يمكنك تخيل محدثك في مكانه، والمكان في حال تحديده ليس ثابتاً، أما في السابق فقد كان يقع في خلفية ذهن المتصل صورة المكان الذي يتصل به والذي يجلس فيه محدثه وهذا ما جعل تريسي تقول "على رغم توفيره خصوصية ما لي، لكن الخليوي عام أكثر من الهاتف الميكانيكي، ففي علاقات الحب يجمع كثر من أصدقائي على أن التهامس عبره أمر غير ممكن، إنه وسيلة لتحديد موعد لا لقضاء أوقات في الحديث الحميم، في حين أن الهاتف الثابت موجود في ذاكرتنا عن المحبين كوسيلة مناجاة، يمكّن طرفيها تخيل بعضهما في أماكن وجودهما...".