لا يزال تعامل العرب مع الحداثة إشكالياً وسجالياً على رغم انصرام قرابة القرنين على صدمة الحداثة مطلع القرن التاسع عشر، وليس وجه الإشكال في قبول الحداثة أو رفضها، فهذا مما لا خيار إزاءه، إذ انها اقتحمت منذ انتصارها المدوّي في الغرب الليبرالي كل أصقاع الأرض ومجاهلها، حتى تلك القصيّة والتي بدا وكأنها عصية عليها، حصينة امام التحولات الثورية التي طرحتها. الأمر الذي لاحظه النهضوي المتنوّر خير الدين التونسي في استشراف عبقري مبكر، إذ قال: «إن التمدّن الأوروبي تدفق سيله في الأرض، فلا يعارضه شيء إلا استأصلته قوة تياره، فيخشى على الممالك المجاورة لأوروبا، إلا إذا حذوا حذوه، وجروا مجراه في التنظيمات الدنيوية». مكمن الإشكال كان وما زال إذاً بالنسبة إلينا في كيف نواجه الحداثة؟ كيف نلج عالمها ومن أين نبدأ وكيف؟ إزاء هذه الأسئلة الإشكالية التي ظلت تتحدى الفكر العربي طيلة القرنين الماضيين، اختلفت الآراء والمذاهب التي حدد كل منها الآفة في مبدأ مرجعي يفسّر التخلف، بالاقتراب منه نقترب من الحداثة، وبالابتعاد عنه تتعثّر هذه أو تستحيل. من هذا المنحى ذهب التقنوي العربي الى أن الحداثة ممكنة بامتلاك العرب الآلات والعلوم الحديثة التي مهّدت للغرب سبل التقدم والتفوق، وما علينا إلا ان نستقدم كل ما ابتكره الغرب وما أنجزه من آلات وصناعات حديثة. لكن فات هذا ان الحداثة روح ورؤية حداثيتان قبل ان تأخذ طريقها الى التجسّد في آلة، وأن امتلاك هذه من دون الشروط التي أنتجتها لن يؤدي إلا إلى حداثة زائفة معوّقة. ولم يرفض الإصلاحي الحداثة، بل ذهب الى انها واقعة محققة في تراثنا، وأن تخلّفنا ما هو إلا نتيجة ابتعادنا من هذا التراث وتنكّرنا له، ولا سبيل أمامنا لمواكبة الحداثة إلا بتواصلنا معه من جديد، إذ به وحده نفلح في مواجهة إشكالات حاضرنا وتجاوز فواتنا التاريخي. وهكذا فالحداثة ليست اندفاعاً الى الأمام وقطيعة مع الماضي، كما نشأت وتجلّت في الغرب، بل هي إعادة اتصال بماض مجيد قابع في لحظة فريدة من تاريخ الأمة. فمن هذا الماضي بالذات يمكن تجاوز التخلّف، والعبور الى الحداثة، وإيجاد الأجوبة اللازبة عن كل الأسئلة التي طرحتها وتطرحها علينا. أما الماركسي الاقتصادوي العربي فقد وجد في الاقتصاد ضالته، منه تبدأ الحداثة بكل وجوهها وتجلياتها، فلن يتقدّم العرب إلا بالاقتصاد ومن خلاله. هو شرط التوحيد القومي العربي، وهو يعيّن شكل الحكم، وعلى قاعدته يتقدم المجتمع او يتخلّف. وعلى غراره آمن الماركسي الطبقوي العربي ب «طبقة عاملة عربية» ذات طابع رسولي في تحديث العرب، فالتحرر أو التقدم أو الوحدة او الاشتراكية، أمور كلها ملقاة على عاتق هذه الطبقة، ولا يمكن ان تنهض إلا بقيادتها. ولا يرى الليبرالي العربي إمكاناً لحداثة عربية من دون استيعاب قيم الليبرالية ومكتسباتها ومبادئها التأسيسية كالحرية والتاريخية والعقلانية والعقد الاجتماعي والمجتمع المدني، باعتبار هذه المبادئ خلاصة تطور الحداثة التاريخي، فيذهب الليبرالي العلماني في تصوره الأيديولوجي الى ان لا حداثة من دون علمنة كل بنى المجتمع وقطاعاته. فيما يرى الليبرالي الديموقراطي تلازماً بين الحداثة والديموقراطية، إذ لا تقدّم، في رأيه، ولا وحدة قومية ولا تجاوز للتخلُّف والهزيمة من دون ديموقراطية فعلية، بدءاً بالبيت والمدرسة، وانتهاء بالنظام السياسي والحكم، مروراً بكل التنظيمات الاجتماعية والمدنية. وثمة من يرى تلازماً مرجعياً بين الحداثة والدولة، فلا حرية ولا مجتمع مدنياً، ولا قانون ولا حق ولا وجود للفرد ولا مواطنية إلا بالتلازم مع دولة حديثة. في ما يتعدى هذه التصورات والمنطلقات المرجعية للحداثة، مضى العقلاني النقدي العربي الى القول إن الآفة كل الآفة، إنما هي في العقل العربي وآلية اشتغاله وطبيعة تصوّره للكون والمجتمع والإنسان، كما في الثقافة العربية وما يحكمها من تصورات ما قبل حداثية ومن يقينات دوغمائية جامدة تحول بينها وبين العالم الحديث. وما من سبيل الى ولوج عالم الحداثة إلا بالتحرر من أسر هذه اليقينيات والتعامل مع وقائع عصرنا بمنطق حداثي ومنطلقات حداثية. فالحداثة إذاً من هذا المنظور النقدي العقلاني هي أولاً وقبل كل شيء حداثة أبستيمولوجية، من دونها كل حداثة زائفة ومخادعة. أليس من سبيل الى ولوج الحداثة خارج كل هذه المنطلقات المرجعية، ومن دون الاحتكام الى إرثها الأيديولوجي؟ في مواجهة هذا السؤال الإشكالي نرى ان الحداثة العربية يمكن ويجب ان تستدخل كل النماذج والمنطلقات المرجعية، من خلال مراجعة نقدية لتلك النماذج والمنطلقات، ولكن من دون ان يؤول ذلك الى تبعية عمياء تلغي أصالتها وتتحول بدورها الى عقبة امام الحداثة. لقد فات كل التجارب الحداثية في العالم العربي ان الحداثة رؤية شاملة الى الكون والمجتمع والإنسان، تحوّل جذري في الأنماط والأفكار والتوجهات، وهي يمكن بل يجب ان تستفيد من سواها من التجارب، من خلال مراكمة خبراتها ونتائجها، ولكنها الى جانب ذلك كله لا تكون حداثة حقيقية، إلا إذا أبدعت منطلقاتها الذاتية وتجربتها الخاصة والمتميزة. ويبدو ان هذا ما لم نكتنه سرّه بعد.