سيستفيد ايهود باراك، بلا شك، من "تراث" بنيامين نتانياهو في التشدد. بين الرجلين تفاهم على الأساسيات الاسرائيلية. ومن شأن باراك ان يرتكز أيضاً الى "تراث" حزبه الذي انشأ بدايات سلام سيئ مع العرب. انه سيسيء للعرب، حقوقاً ومكاسب، لكنه سيئ خصوصاً ل"السلام" ذاته. وهو ليس سيئاً في التفاصيل فحسب، وانما هو سيئ في ما يتعدى العلاقة المستقبلية مع اسرائيل نفسها. إذ أن نتانياهو عطل السلام، ولم يهتم في الوقت نفسه بأنه يعطل السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، وامتداداً في منطقة الخليج. لذلك لم تكن واشنطن راغبة في رحيل نتانياهو لأنه متعصب أعمى في الحفاظ على مصالح اسرائيل الأمنية والسياسية، وانما رغبت في رحيله لأن نهجه المتطرف أفقدها الحيلة والوسيلة لتمرير سياساتها أو فرضها على العرب. مع باراك تستعيد الولاياتالمتحدة أداة رئيسية في ما يسمى "ترتيب أوضاع المنطقة". ومعه تستطيع استكمال ما بدأته في عهد اسحق رابين. ومعه أيضاً سيتاح لها استئناف معادلة "السلام مقابل تأديب العرب"، في وقت تبدو المعادلة الأولى التي أعلنها الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، "الأرض مقابل السلام"، كأنها من الضحايا التي أجهز عليها نتانياهو. ولا بد أن يتصرف باراك على أساس ان ما حققه سلفه الليكودي مكسب لاسرائيل، لأن زعيم حزب العمل لا يقل ضراوة وتعنتاً في مسائل الأمن، الى حد انه غير مضطر للاكثار في الحديث عن هذا "الأمن" كون شخصه جنرالاً رئيس أركان سابق ومنفذ عمليات ارهابية في أماكن عربية عدة. منذ أمس بدأ نفض الغبار عن سيناريوات التطبيع. وسيجتهد حاخامات الخارجية الأميركية في استنباط أفضل السبل لجعل العرب يقدمون التهنئة والترحيب بباراك. ويتساوى الأميركيون والعرب في اعطاء الانطباع بأنهم لم يستفيدوا بل لم يريدوا الاستفادة من الدروس التي وفرتها ثلاث سنوات من العهد "البيبوي". ففي ظنهم ان الأمور كانت سائرة على ما يرام إلا أن رعونة "بيبي" هي السبب في عرقلتها. لم يكن هناك تفكير أميركي قبل مجيء ليكود في تحسين مضمون السلام وادارته بانصاف وبخطوات متوازية ومتكافئة. كذلك لم تكن هناك قدرة عربية على اقناع واشنطن، أو حتى اسرائيل، بأن السلام لكي يكون حقيقياً لا بد من أن يعاد النظر في النصوص والمفاهيم التي ارتكز عليها سواء في اتفاقات أوسلو أو في ما تبعها من اتفاقات، أو خصوصاً في اسلوب التفاوض الذي اهتم الى حرص الأميركي - الاسرائيلي على توظيفه في زرع خلافات عربية - عربية أكثر مما حرص على بلورة اتفاقات سلام أصيلة. وكأن هدف "بناء الثقة" بين العرب واسرائيل لا يمكن أن يتحقق إلا بقتل الثقة بين الأطراف العربية. يُسمع همس خجول عن قمة عربية. كانت القمة الأخيرة التأمت بعد فوز نتانياهو في حزيران يونيو 96، ومعروف أنها خلصت الى موقف هادئ و"مشجع" لزعيم ليكود، الذي تشجع فعلاً فأجهز على عملية السلام وسلمها جثة محتضرة الى باراك. طالما أن الأخير "متشجع" من دون واسطة، فلا داعي لقمة عربية مهمتها الأميركية أن تدعمه وتغنجه وتدعو له بطول العمر وبالخلاص من مصير مماثل لمصير رابين. وسيكون وضعاً محرجاً، ان لم يكن مضحكاً، ان يتوفر "الاعداد الجيد" لقمة - تحية لباراك، في حين ان مثل هذا الاعداد لا يمكن أن يكون جيداً كي يلتقي العرب ويتباحثوا في صيرورتهم ومستقبل علاقاتهم بمعزل عما تريده الولاياتالمتحدة أو ما ترغب فيه اسرائيل. شاع انطباع بأن هزيمة نتانياهو ازالت عقبة أمام العرب. ثم قيل أن باراك "أفضل" لكنه "صعب"، بل قيل انه سيستأنف عملية السلام لكنه سيطلب "ثمناً أعلى" له، وسيكون أكثر تصلباً في مواضيع القدس وحق العودة للفلسطينيين والمياه والاستيطان. مع ذلك، مطلوب من العرب ان يرحبوا به. بعد طول انتظار يبدو العرب مقبلين مجدداً على التسوية بلا أفكار، بلا سياسة، بلا قدرة، بلا شجاعة. عودة "مظفرة" الى صيغة: قوة الاحتلال تفرض شروطها ل"السلام"! مع ان الأحرى بالعرب ان يقولوا: كائناً من يكون في السلطة في اسرائيل، السلام يكون ما يقبله العرب أو لا يكون. المشكلة ان الضغط الأميركي جعلهم يقبلون أي شيء من دون اعتراض.