مؤشرات البورصة الأمريكية تغلق على تراجع    البديوي يرحب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة لقرار "إنهاء الوجود غير القانوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة"    اختتام دورة حراس المرمى التمهيدية في الرياض وجدة    «الروع» تعزز الوهم وتنشر الخرافة..    السعودية تطرق أبواب العالم    وكالات التصنيف: الاقتصاد السعودي في المسار الصحيح    المواطن عماد رؤية 2030    95 ألف معمر .. اليابان تحطم الرقم القياسي في طول العمر!    هل تريد أن تعيش لأكثر من قرنين ونصف؟    لماذا يُفضل الأطباء البياجر    492 قراراً أصدرها المجلس العام الماضي    «الأحمران» يبحثان عن التعويض أمام الأخدود والخلود    "بيولي" يقود النصر أمام الاتفاق .. في جولة "نحلم ونحقق"    «التعليم»: تخصيص بائع في مقاصف المدارس لكل 200 طالب    «صرام» تمور الأحساء !    حضن الليل    داعية مصري يثير الجدل.. فتاة تتهمه بالتحرش.. و«قضايا المرأة»: تلقينا شكاوى أخرى !    نجمة برنامج America's Got Talent تنتحر    أحياناً للهذر فوائد    اكتشاف توقف تكوين نجوم جديدة بالمجرات القديمة    إصدار 32 رخصة تعدينية جديدة خلال يوليو 2024    تعزيز التحول الرقمي وتجربة المسافرين في مطارات دول "التعاون"    انطلاق المؤتمر السعودي البحري 2024.. نائب وزير النقل: ترسيخ مكانة المملكة كمركز لوجستي عالمي    12 لاعب احتياط في كأس الملك    الزعيم يعاود تحضيراته    الكل يتوعد خصمه ب«القاضية» فمن سيتأهل للنهائي؟    رابيو: استغرقت وقتا قبل قراري بالانتقال إلى مارسيليا    في دوري أبطال أوروبا.. برشلونة في ضيافة موناكو.. وأتالانتا يواجه آرسنال    برعاية وزير الداخلية.. تخريج 7,922 رجل أمن من مدن التدريب بمناطق المملكة    وفد من الخطوط السعودية يطمئن على صحة غانم    المهندس الغامدي مديرا للصيانة في "الصحة"    العواد إلى الثانية عشرة    الأمير سعود بن مشعل يشهد اجتماع الوكلاء المساعدين للحقوق    إلى جنَّات الخلود أيُّها الوالد العطوف الحنون    نيابة عن خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي العهد.. الأمير عبدالعزيز بن سعود ينقل تعازي القيادة لأمير الكويت وولي عهده    أمريكا «تحذر» من أي «تصعيد» بعد انفجارات لبنان    سموه رفع الشكر للقيادة.. وزير الثقافة يُثمّن تسمية مجلس الوزراء ل "عام الحِرف اليدوية"    د. حياة سندي تحصد جائزة المرأة الاستثنائية للسلام    ملاحقة "الشهرة" كادت تقضي على حياة "يوتيوبر"    سلامة المرضى    315 مختبراً شاركوا في اختبار الكفايات اللغوية    دعم الأوقاف تُطلق مبادرة "الحاضنة" للقطاع الوقفي بالمملكة برعاية أوقاف الضحيان    أمير منطقة تبوك الخطاب الملكي تأكيد للنهج الثابت للمملكة داخلياً وخارجياً    وزير «الشؤون الإسلامية» : الخطاب الملكي يؤكد حرص القيادة على تقرير مبدأ الشورى    محافظ حفر الباطن ينوه برعاية الدولة للقطاع الصحي    مجلس الشورى خلال دورته الثامنة.. منهجية عمل وتعزيز للتشريعات    فرع هيئة حقوق الإنسان بالمنطقة الشرقية بضيافة تقني الشرقية    المملكة ترحب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً بشأن «إنهاء الوجود غير القانوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة»    "دوائي" تحذر من أضرار الخلطات العشبية على الكلى    مهرجان المسرح الخليجي يختتم فعالياته ويعلن عن الفائزين    أمانة الشرقية والهيئة العامة للنقل توقعان مذكرة تفاهم    كسر الخواطر    كلام للبيع    هيئتا الأمر بالمعروف في بلجرشي والمخواة تفعّلان برنامج "جهود المملكة العربية السعودية في محاربة التطرف والإرهاب"    الرياض تستضيف الاجتماع التشاوري العالمي لخبراء منظمة الصحة العالمية    الأرصاد: رياح مثيرة للأتربة والغبار تؤدي إلى تدني مدى الرؤية في تبوك والمدينة    خادم الحرمين يأمر بترقية 233 عضواً في النيابة العامة        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القس المجري بال نيمت درس في كلية الشريعة بدمشق "ترجمة أعمال الغزالي عمل شاق لكنني أحب ذلك"
نشر في الحياة يوم 13 - 05 - 1999

تعرفت على بال نَيْمَت P‡l Nژmeth عن طريق أحد معارفي الذين تحدثوا عن رجل الدين البروتستانتي الذي ترجم مجموعة من الأحاديث النبوية الشريفة الى اللغة المجرية. اتصلت به واتفقنا على اللقاء في مكتبة الجامعة البروتستانتية في بودابست حيث يعمل.
عندما دخلت، واجهت رجلاً ضخماً في أوائل أربعينياته، بذقن كث. أهلاً وسهلاً، قالها بعربية سليمة خالية من أية لكنة أجنبية. دخلنا مكتبه المتواضع المليء بالكتب، بينها نسخ من العهدين القديم والجديد بمختلف لغات العالم. كنت قد قررت زيارته للتعرف عليه، وقدّرت أن نصف ساعة كافية لتعارف من هذا النوع. غير أن لقاءنا الأول دام لأكثر من ثلاث ساعات، وتركته بعد أن نهضت عن الكرسي للمرة الثالثة فودعته وقد أصبحنا صديقين حميمين.
تحدثنا عن المستعربين المجريين، وعن تعلمه اللغة العربية التي أتقنها بشكل يثير الإعجاب، كما تحدثنا عن الإمام الغزالي وابن رشد والمتصوفين وكلية الشريعة في دمشق حيث درس لسنة ونصف السنة. ثم عن السومريين والكنعانيين واللغات السامية وحضارات الشرق الأوسط، وعرجنا على مخطوطات قمران والأديان السماوية والفلسفة وتدريس العربية في المجر، والإسلام في أوروبا والإسلام وأوروبا، وترجمات القرآن الكريم الى المجرية ومواضيع أُخرى عديدة. تحدثنا عن كل هذه المواضيع خلال الساعات الثلاث وكأنها سيناريو لعشرات المقابلات الصحافية المثيرة.
ينشط نَيْمَت في نشر مقالاته وكتبه باللغة المجرية منذ عقدين ونيف، وله دراسات كثيرة عن الإسلام، ويدرّس الآن اللغة العربية في كلية التجارة الخارجية في بودابست، ويعمل في مكتبة الجامعة البروتستانتية، كما عمل لفترة مديراً لمتحف الكتاب المقدس التابع للجامعة نفسها، ونظم وقتها مؤتمراً علمياً عن مدينة القدس. له العديد من الكتب الصادر باللغة المجرية، منها "مسؤولية الكتابة والقراءة" 1998 الذي ضم دراسات ثيولوجية متنوعة كتبها بين 1982 - 1996 ونجد بينها مقالات عن الإسلام، والنظام الاجتماعي للإسلام، نظرة الإسلام للموت، أوروبا والإسلام، وذلك الى جانب الدراسات التي تتناول بالبحث العهدين القديم والحديث. وعلاوة على العربية يتقن نَيْمَت اللغات العبرانية القديمة والآرامية السريانية واليونانية الكلاسيكية واللاتينية الى جانب بعض اللغات الأوروبية الحية، ويستعملها في أبحاثه ودراساته.
ترجم نَيْمَت الى اللغة المجرية "كتاب الأربعين" الذي يضم 42 من الأحاديث النبوية الشريفة، وهي المجموعة التي انتقاها يحيى بن شرف الدين النووي ولذ في قرية النوى بالجولان العام 631ه / 1233م. وصدرت الترجمة الأنيقة والمفهومة بالنسبة للقارىء المجري الذي لم يتعود على المصطلحات المستعملة في التراث العربي الإسلامي في كتيب صغير جميل. ووضوح اللغة هي إحدى أهم حسنات هذه الترجمة التي بزت ترجمات سابقة للحديث الشريف أنجزها مستعربون مجريون على امتداد أكثر من قرن ونصف هو تاريخ الاستعراب في المجر. وقد ترجم المستشرق المجري الكبير إغناتس جولدُزِ هَر مجموعة من الأحاديث النبوية الشريفة كملحق لكتابه "دراسات في تاريخ الدين الإسلامي" الصادر في العام 1881، أشار فيها الى كتاب الأربعين المذكور.
ويترجم نَيْمَت الآن عمل الإمام الغزالي "المنقذ من الضلال" الى اللغة المجرية، ويجد في الترجمة متعة لا توصف. ذات مساء تحدثت معه على الهاتف، فسألني: كيف تترجم "تخبيط وتخليط" الى المجرية؟ فقد احترت في طريقة نقل طعم الكلمات الى المجرية، وكان الحديث يدور عن كتاب الغزالي الذي لم يترجم الى أي لغة أوروبية لحد الآن. وقد أنجز منه جزءاً سيصدر قريباً في واحدة من المجلات الدورية المجرية.
درس نَيْمَت اللغة العربية في جامعة لوراند أُتفْش للعلوم في بودابست، قسم اللغات السامية والعربية، ثم ذهب الى سورية في بعثة لسنتين 1979 - 1980. وترسل الجامعة طلاب اللغة العربية المجريين عادة الى بلد عربي أثناء فترة الدراسة، فيكون همهم الأول التمرين على المحادثة والكلام. غير أن أستاذ نَيْمَت، البروفسور تْسَجْليدي، نصحه بدراسة التاريخ أو الأدب أو أي شيء آخر في الجامعات العربية والاستفادة من الوقت الى جانب الدراسة في مدرسة اللغة العربية. وأتم نَيْمَت مدرسة اللغة بدرجة جيد، بالرغم من أنه كان يعاني كثيراً من مادة الإملاء. ولما كانت حصص المدرسة تبدأ بعد الظهر، كان نَيْمَت يقضي الصباح في المذاكرة. وكان يقتني صحيفة يومية، ويختار منها مقالة فيبحث عن الكلمات الجديدة في القواميس المتوفرة لديه، ثم يبدأ بقراءة النص وحفظه وتكراره لحين التمكن منه.
الدراسة في كلية الشريعة:
تحدث نَيْمَت عن أصدقائه العرب الذين كان يتمرن بمساعدتهم على الحديث باللغة العربية. واقترح أحدهم عليه الذهاب الى كلية الشريعة لدراسة العربية الفصحى، فهناك يتحدثون الفصحى. وجاء الأمر على مرام رجل الدين المسيحي الذي شعر دوماً بميل لدراسة الإسلام. غير أن المشكلة التي واجهته هي أن أنظمة هذه الكلية لا تقبل طلبة من الأديان الأخرى. قال نَيْمَت "كتبت طلباً الى عميد كلية الشريعة للحصول على موافقة خاصة أتمكن بمساعدتها من حضور الحصص والمحاضرات. وعبّرت في الطلب عن اهتمامي بدراسة الدين الإسلامي بصفتي رجل دين مسيحي. غير أني لم أُسلّم العريضة الى مكتب العميد، بل قررت تسليمها الى العميد شخصياً عملاً بنصيحة أصدقائي. وبعد عدة محاولات فاشلة تمكنت من اللقاء بالعميد البروفسور ابراهيم السلقيني الذي استقبلني باحترام في مكتبه. وبعد أن أوضح لي أن الاستثناء هو من صلاحيات مجلس الكلية، طلبت منه إعطائي إذناً لحضور المحاضرات كمستمع لحين صدور قرار المجلس، فوافق". وعن السلقيني يقول "اندهشت لسعة اطلاعه على الأوضاع الدينية في المجر. إذ تحدث عن سيطرة الكنيسة الكاثوليكية، وبعدها الكنيسة الإصلاحية البروتستانتية، وكان يعلم بوجود كنائس صغيرة أُخرى".
بدأ بالاستماع الى المحاضرات التي كانت تلقى في الكلية: تفسير القرآن والحديث. وكان الطلبة جد لطيفين معه، إذ تعلم الكثير منهم وساعدوه، واجتهد كي لا يفعل ما يتعارض مع العادات والتقاليد وهو الجاهل بها. مثلاً لم يمس القرآن الكريم بل كان ينقله في كيس ثم يطلب من زميله الجالس بجنبه أن يخرجه من الكيس ويفتحه أمامه. وارتكب يوماً "حماقة" عن غير قصد، عندما وضع دفتره على المصحف دون أن ينتبه، بيد أن نظرات زميلٍ له نبهته الى الخطأ. امتدح نَيْمَت طلبة كلية الشريعة ووسمهم بالانضباط الراقي، وحدثني عن هطول ثلج غزير غير معهود في دمشق في أحد الأيام الربيعية من آذار مارس العام 1980، فبدأ الجميع بالتراشق بالكرات الثلجية، حتى الشرطة والباعة أسهموا في هذه المعركة المرحة، إلا طلبة كلية الشريعة الذين ساروا الى الجامعة لحضور الدروس بكل وقار وجدية.
ويتذكر أساتذته في كلية الشريعة بكل تقدير: نورالدين عطر الذي درس مصطلح الحديث ويذكر محاضراته في علوم القرآن والسنة وكتابه "معجم المصطلحات الحديثية" والدكتور سعيد رمضان البوطي ومحاضراته في فقه السيرة والمصالح المرسلة في التشريع الإسلامي، والدكتور عدنان زرزور ومادة نظام الأسلام العقيدة والعبادة، بالإضافة الى عميد الكلية السلقيني ومحاضراته في فقه العبادة. وكان نَيْمَت يستمع الى المحاضرة الواحدة مرتين، في الصباح وفي المساء. ولكي يتقن اللغة العربية كان يدرس كثيراً، وساعده زملاؤه الطلبة السوريون في ذلك وهو ممتن لهم كثيراً.
عن صعوبة الترجمة من العربية الى اللغة المجرية قال نَيْمَت: "اللغة الدينية والثقافة المجريتان تختلفان كثيراً عن مثيلتيهما في البلدان العربية، فالمصطلحات المستعملة هنا تدور في فلك الديانتين اليهودية والمسيحية. وهنا تكمن صعوبة ترجمة النصوص العربية الى اللغة المجرية. فالمصطلح المستعمل في البلدان العربية حتى وان ترجم الى ما يقابله في المجرية بدقة، فإنه يعني في وجدان الناس شيئاً آخراً، أو قد لا يعني شيئاً على الإطلاق. والإسلام غائب عن الثقافة المجرية، لذلك لا يوجد للمصطلحات الإسلامية مقابل في اللغة المجرية، والعكس صحيح. على سبيل المثال، كلمة ثيولوجيا، مصطلح شائع هنا لكنه لا يعني شيئاً بالنسبة للإسلام. بالمقابل لا يمكن نقل محتوى مصطلح عربي يومي الاستعمال مثل "الشريعة" الى اللغة المجرية بكلمة واحدة واضحة المعالم".
"غير أن الظاهرة الأكثر تعقيداً هي اللغة المستعملة في بعض الطوائف المسيحية العربية. فاللغة الدينية تختلف هناك عن اللغة العربية المستعملة لدى المسلمين. وقد تعودت خلال إقامتي في دمشق حضور قداس الأحد للكنيسة الإنجيلية، وهي كنيسة حديثة العهد. وقد صادفت هناك الكثير من التعابير غير المعتادة: مثلاً، لا يقول القس الحمد لله، بل الشكر للرب. وهناك فارق كبير بين التعبيرين، فحمد الرب هو تعبير أجمل من الشكر وأوسع في معناه. كما كان الأخ فريد وهو اسم القس يسأل الناس عند مصافحته المصلين قبيل مغادرتهم الكنيسة: "كيف أنت مع الرب؟"، وهو سؤال استغربته كثيراً، وما تعودت الإجابة عليه. إذ وجدت فيه نوعاً غريباً من أنواع العلاقة مع الرب، علاقة غير متكلفة، يجري فيها التعامل مع سبحانه كأنه أحد الأتراب. مع ذلك أجبته ذات يوم عند صدور السؤال المعتاد: "ماشي الحال"، فانزعج الأخ فريد، كيف تقول ذلك؟ أجبته: وكيف تسأل ذلك؟. لا يمكن تصور مثل هذا الخطاب مع الرب عند المسلمين، ولا نستطيع تصوره هنا في المجر أيضاً كبروتستانتيين".
"عند ترجمة المصطلحات الدينية الى المجرية يجب أن نأخذ خصوصياتها بنظر الاعتبار. ومن الصعب على المترجم ترجمة كلمات أساسية الى اللغة المجرية المتميزة بثقافتها المسيحية، ومنها "الكفر" "الإلحاد"، كذلك "الحديث" و"السنة" بكلمة مقابلة لها. وكل هذه الكلمات تترجم بالتقريب مع شيء من التعليق لتوضيح معناها الدقيق. ومن الصعب التمييز في اللغة المجرية بين الحديث والسنة، إذ لا يوجد مصطلح جاهز واضح المعالم".
وعلم الألسنيات حافل بالمفاجآت. "خذ مثلاً كلمة الدين، أو تأمل الحديث الشريف "الدين النصيحة"، هل يمكن تفسير هذا الحديث بالمفهوم اليومي المعتاد للنصيحة كما فعل جولدزيهر في ملحق كتابه؟ إذ انتبهنا الى معنى كلمة الدين في اللغة المجرية vall‡s، فهي تعني تصريح المرء بما يعتقد، وهذا هو جوهر معنى كلمة نصيحة في الحديث النبوي الشريف. أما في اللغة العربية، فكلمة الدين تعني الحكم أو القضاء كما هو معروف، أسوة بباقي اللغات السامية".
من آراء نَيْمَت حول الإسلام وأوروبا
ينتقد نَيْمَت الكثير من الآراء التي اعتنقتها المسيحية بصدد العلاقة مع الإسلام طوال قرون عديدة، ومنها الموقف من الإسلام. وهو يعتبر الحروب الصليبية نتاجاً للتعصب والتطرف الديني الأوروبي الذي أضر بالعلاقة بين المسيحية والإسلام. ويؤكد على أن التسامح الديني كمصطلح فلسفي ظهر في أوروبا قبل بضعة قرون، لكنه ميز تعامل الإسلام مع الأديان السماوية قبل ذلك بكثير. "عاشت الكنيسة المسيحية الأولى، العالمية قبل أن تنشطر الى الكاثوليكية والأرثوذوكسية في خمس كنائس كبيرة يرأس كل منها بطريركاً. ومراكز الكنائس الخمس هي روما وكونستانتينابوليس1 والإسكندرية وأنطاكيا والقدس بحسب الأهمية. ومن بين الكنائس الخمس أخذ الإسلام ثلاثاً في أول نجاح له، بعبارة أدق، قلّص من نفوذها لدرجة كبيرة. وقاومت كونستانتينابوليس العديد من الحصارات لغاية سقوطها في عام 1453. وبقت روما لوحدها سنداً روحياً - فكرياً لأوروبا المسيحية. ولم يتمكن الإسلام من البقاء لفترات طويلة في أراضي الكنيسة الكاثوليكية سوى مرتين، الأولى في اسبانيا 711 - 1492 والثانية في المجر 1526 - 1686. وفي اسبانيا أنتج المسلمون حضارة مزدهرة، أما في المجر فقد تسبب العثمانيون في خسائر فظيعة".
ويدين الكاتب الحروب الصليبية، فيقول "لم يسترح ضمير أوروبا بسبب التعصب والتطرف الديني اللذين ظهرا في الحروب الصليبية. ويذكر المسلمون بألم الكثير من القسوة والعنف اللذين تعيّن عليهم تحملهما بسبب الحملات الصليبية".
"التسامح الديني، أو ما يعرف باللاتينية tolerantia، هو مفهوم أوروبي خاص. وفكرة التسامح، وممارسته قديمتان، وهما موجودتان خارج أوروبا أيضاً، بيد أن التسامح الديني كتعبير فلسفي لم يظهر ولم يتخذ شكله الخاص إلا بعد عصر الإصلاح الديني في أوروبا وانتشار الفكر الإنساني. ويعتبر كتاب جون لوك John Locke Epistola de tolerantia غودا 1689 أساس كل ما وصلت اليه أوروبا في موضوع التسامح الديني وما تمكنت من تحقيقه".
"لا يمكن الحديث عن التسامح الديني بالمفهوم الأوروبي في الدين الإسلامي، لكن ذلك لا يعني غياب ما نسميه بالتسامح الديني من النظرة الدينية للإسلام ولا من الممارسة السياسية"... ثم يتحدث الكاتب عن الاحترام الكبير الذي يكنه الإسلام والمسلمون للكتب السماوية، التوراة والإنجيل، واعتبار اليهود والمسيحيين أهل ذمة وعيشهم بين المسلمين بسلام. وينتقل الى تحليل علاقة أوروبا بالإسلام:
"كان ظهور الإسلام بالنسبة لأوروبا أولاً قضية ثيولوجية خطيرة. فهذا الدين الذي ظهر بعد المسيحية وضع نزعة احتكار سماوية الكتاب المقدس موضع تشكيك بشكل كامل. السؤال الأساسي كان أين يوضع الإسلام من ناحية الثيولوجيا المسيحية وكيف يمكن تصنيفه. ألف يوحنا الدمشقي 675 - 749 ميلادية الذي ولد في دمشق على عهد الأمويين كتاباً عن الهرطقة. كان أبوه موظفاً لدى الخليفة الأموي، وعمل هو أيضاً كمفتش للضرائب لفترة قصيرة لكنه استقال من منصبه لاعتبارات دينية. في الفصل 100 من هذا الكتاب قال الدمشقي بأن الإسلام فرقة منشقة عن المسيحية. ويقول: "دين الإسماعيليين الإسلام يدفع الشعوب الى الضلال، وما ظهوره سوى مقدمة لظهور المسيح الدجال". هذه النظرة الى الإسلام سيطرت في أوروبا لغاية عصر الإصلاح، وحتى المصلح مارتن لوثر كان يردد بأن البابوية والى جنبها الإسلام "الأتراك" هم ألد الأعداء الداخليين للمسيحية. لكن بعد تنامي فكرة التسامح التي ظهرت مع التيار الإنساني، تغيرت الحال. وبرز عمل ج.إي. لسنج الدرامي "ناثان الحكيم" كأسطع مثال على التعبير الأدبي لهذه الفكرة. ونجد في القصيدة قصة من قصص الأمثال تحاول توضيح العلاقة بين الأديان الموحدة الثلاثة، هذا جوهرها: عاش في الشرق رجل امتلك خاتماً رائعاً له قوة سحرية. حافظ الرجل عليه وحماه من وقوعه بأيدٍ غير أمينة، وتركه لأحب أبنائه، كي يعطيه هو الأخر لأحب أبنائه. وهكذا وصل الخاتم الى أب له ثلاثة أبناء يحبهم بنفس القدر، ووعد الثلاثة بالخاتم نفسه. عند اقتراب منيته، اضطرب في ما سيفعل، إذ لم يشأ خداع أي من أولاده. لذا، طلب من صائغ ماهر أن يصنع له نسختين من الخاتم. ونجح الصائغ في استنساخ الخاتم للحد الذي عجز معه الأب التمييز بين الخاتم ونسختيه. فأعطى لكل من أبنائه خاتماً ومات. بعدئذ ذهب الأبناء الثلاثة الى المحكمة، كل متهماً أخويه بالتزوير. لكن الحاكم أعطاهم نصيحة بدلاً من الحكم: من الواضح أن الأب كان يحب أولاده الثلاثة بنفس القدر، وما كان يود تفضيل أحدهم على الآخرين. لذا ليلبس كل منهم الخاتم كما لو كان هو الخاتم الحقيقي، وليجهد في إظهار قوته السحرية وليربح بعمل الخير رضا الآخرين كي يروا في خاتمه الخاتم الحقيقي. معاني هذه القصة واضحة. إذ ليست الدوغما العقيدة ولا المبدأ هو الأمر المهم، بل الفعل النابع من الإيمان. بذلك تنحسر الخلافات العقائدية الى المؤخرة متخلفة وراء نظافة القلب ونبل القصد".
1 كونستانتينابوليس، باليونانية مدينة قسطنطين الإمبراطور البيزنطي، التي أصبحت تعرف لاحقاً بإسم الآستانة والقسطنطينية وكذلك اسطنبول على عهد العثمانيين، وكلها تنويعات على اسمها الأصلي، كونستانتينابوليس.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.