الكاتب الجزائري عبدالحميد بن هدوقة الذي رحل إثر مرض عضال عام 1996 هو من رواد الأدب الجزائري المكتوب بالعربية. نشر الكثير من الأعمال ومنها ديوان شعري، ثلاث مجموعات قصصية وخمس روايات نذكر منها: "نهاية الأمس"، "الجازية والدراويش"، "ريح الجنوب"، "الكاتب وقصص أخرى"، "غداً يوم جديد" ... "ذكريات وجراح" هو العمل الأخير للراحل عبدالحميد بن هدوقة، وقد نشر بعد رحيله وضم مجموعة من القصص القصيرة، التي كتبها الراحل من 1987 الى 1996، اي بأشهر قليلة قبل رحيله. المجموعة أصدرتها دار مارينور وهي من دور النشر الجديدة والنشيطة التي ظهرت في السنوات الأخيرة في الجزائر. المجموعة الأخيرة ل"بن هدوقة" تضم عشر قصص قصيرة، تتوزع بالترتيب على ثلاث مراحل القصص الأولى كتبت قبل احداث تشرين الأول أوكتوبر 1988، وقصص المرحلة الثانية كتبت مباشرة بعد تشرين الأول 1988 والقصص الأخيرة كتبت في المرحلة الدموية التي غرقت فيها الجزائر وهي ممتدة من 1993 الى 1996. المرحلة الأولى تضم أربع قصص، يغلب عليها طابع الرمزية - التي تصل حد الكاريكاتورية والتبسيط - والتنديد بالإنحرافات التي وقع فيها البلد الإشتراكي على الورق مع انتفاخ بطون "النوموكلانورا" وغرق بقية الشعب في الجوع والحرمان ... تبدأ قصة "مثال بلا رأس" بهذا المقطع: "قرأت ذات يوم إعلاناً في مجلة عن مسابقة في القصة القصيرة .. بمناسبة ذكرى الحرية .. كانت الجائزة الأولى عبارة عن تمثال يقام في أكبر حدائق المدينة لصاحب القصة الفائزة. كان موضوع المسابقة "تصوير حياة كاتب في عهد نظام تعسفي"، الكاتب "المحترف، الذي لا تكلفه القصة القصيرة جهداً ذا بال!" يكتب القصة التي حلم بها، حيث البطل كاتب رمته الشرطة بعد تعذيبه أمام مسجد، فينقذه أحد العابرين. القصة - الحلم تفوز في الأخير بالجائزة الأولى مع أنها متواضعة جداً في رأينا؟! ويقام لصاحبها تمثال. لكن الكاتب يحطم رأسه في الأخير، ليتركه تمثالاً بلا رأس ويسجن من اجل ذلك. في ذلك التحطيم رمز لتحطيم صورة الكاتب الرمزية في مجتمع لا يعترف بقيمته. في قصة "الذاكرة المثقوبة" يفقد البطل ذاكرته بفعل الأوضاع الخانقة في البلد ندرة المواد الغذائية؟!، ولم يعد يتذكر اسم زوجته، ولم يعد يتذكر إلا الحرب أو الثورة ويكفي لتذكر الحرب أمامه، ليتذكر مباشرة اسم "ماسو"، وهو أحد جنرالات الجيش الإستعماري. ومن جهة أخرى "يتذكر حتى من فاز بجائزة نوبل للسلام عام 1978". في المرحلة الثانية نجد ثلاث قصص كتبت بعد أحداث تشرين الأول 1988. "اطلقوا النار على الكلمات" مؤرخة في تشرين الأول 1988، وهي في شكل غنائية شعرية تحية "لانتفاضة أوكتوبر". يكتب الكاتب في الختام: "في غمرة ذلك الموت الأكبر، خرج الشاعر، سددت اليه البطاريات والرشاشات وصرخ قائد البندقيات: "اطلقوا النار على الكلمات. قتل الشاعر! ولكن لم تقتل الكلمات! صوتها كان اقوى من كل الكلمات...". لكن في الحقيقة وللتاريخ ففي أحداث تشرين الأول، لم تطلق النار على الشاعر وكلماته إنما على شباب الشعب الغاضب؟! "الأب البندقية" هي قصة رمزية منددة بسلطة الأبوية المبنية على الشرعية التاريخية، هي تنديد بمن حملوا السلاح اثناء الحرب التحريرية ويريدون أن يبقوا دائماً "الأب البندقية" حتى بعد سنوات الإستقلال، وعلى رغم أنهم لم يكونوا في مستوى تلك الأبوة، اولئك الذين وإنْ نجحوا في كبح الأبناء، فإنهم لم ينجحوا في الأخير وسقطوا أمام إرادة الأحفاد. "رسالة من جائر" هي قصة قصيرة جداً في ش"ل رسالة مفتوحة، وهي عبارة عن صورة رمزية للواقع الجزائري. تبدأ هكذا: "اسمي: جزائري، أبي: إمام مسجد معرّب، أمي: ممرضة مفرنسة، إخوتي: 1- شرطي مفرنس، 2- صحافي معرّب"، 3- أفغاني، 4- محامي مفرنس، 5- تاجر لم يتعلم سوق الأرقام، 6- خياطة". قبل 1988 كانت أمور العائلة تسير بشكل عادي. وتنتهي بتفجّر العائلة بعد ظهور الديموقراطية والأحداث الدموية التي تلاحقت في البلد، حيث اعتقل الأب الإمام وعاد الأخ الأفغاني من أفغانستان وانخرط في العمل المسلح وقتل الأخ الشرطي على يد صديق حاقد منذ الطفولة، إغتنم وجود المنظمة السرية المسلحة ليقتله ويلتحق بها في الأخير. اما الأخ المحامي الإنتهازي الذي يحوّل الباطل حقاً، وقد قام حتى بإخراج جار العائلة عن طريق العدالة، من منزل لتحتله عائلته وتوسع إقامتها فيه، فقد ابتعد عن العائلة والأمر نفسه حصل مع الأخ التاجر الذي كان سابقاً يأتي العائلة بكل مفقود. ولم يبق إلا الأخ الصحافي، الذي يزور العائلة أحياناً وأصبح يعاني إرهاقاً نفسياً والذي يصبح في الأخير عضواً نشيطاً في المجلس الإستشاري الوطني. القصص الثلاث الأخيرة، كتبت في المرحلة ما بين 1993 و1996 أي أثناء دخول الجزائر في ذروة أزمتها الدموية. بطل "حلم بلون الليل" صحافي ألماني يذهب للقيام بتحقيق لمجلة ألمانية، وسط جماعة إسلامية مسلحة، تعيش في مغارة بالجبل وهذا بتوصية من أميرها "موظف كبير في وزارة مهمة بالجزائر؟!"، لأنه صديق الجماعة وقد ساعدها في تهريب الأسلحة من ألمانيا وسيساعدها بتحقيقه الصحافي؟ يجد الصحافي الألماني نفسه وسط مجموعة إمامها مالكي متعصّب وفيها شيعة وسنّة، وفي مغارتها مكتبة فيها كتب إسلامية شيعية وسنّية. وقد كانت حياة الصحافي عادية! وسط الجماعة إلى اليوم الذي اكتشف فيه ان الجماعة تملك سجناً وأمامه يتم تعذيب رهينة متمثلة في نقيب من الجيش؟! القصة الأخيرة "ذكريات وجراح" تحكي قصة النهاية المأسوية لزوجة الراوي المثقفة ثقافة فرنسية التي تُغتال ذبحاً في النهاية. ومن جملة ما يذكر في ذكرياته معها، يذكر الراوي المثقف ثقافة عربية - والذي يأسف لأن زوجته لا تجتهد في تعلمها!-: "لو تعرفين، كم أحزنني حديث رسائلك عن الشاعر رونيه شار، كنت قبلاً أحبه، لم أكن أعرف أبداً أنه كان زمن المقاومة الفرنسية ضد النازية هو المكلف بخنق العملاء، والذي أحزنني أكثر أنك كنت تلحّين في تصوير ذلك، كنت تقولين أنه يخنقهم بيديه خنقاً ذريعاً كما لو أنه يتلذذ بذلك". لكن البطل الراوي يفاجئنا بعد ذلك في القصة نفسها: "عندما تسوء الأمور وتصير الفظاعة الحدث المفرد لأيامنا وليالينا ويدب الخوف في نفوسنا ... وتنقلب الأمور رأساً على عقب ... وتتطور البشاعة الى القتل والذبح وتدمير المدارس والمصانع وكل جسور التواصل والمواصلة ... والحكام ينادون أنهم يرحمون". وتتكرر يتسامحون، يرحمون في شكل لا يخلو من الغضب والمرارة ... وكأن الجواب في رأي الراوي يجب ألا يكون إلا موقف رونيه شار الذي أحزنه من قبل؟! وفي ذلك التكرار الحكام الذين يناورون ويدعون إلى الرحمة إشارة واضحة من الكاتب الى "قانون الرحمة" الذي أعلنه الرئيس الجزائري السابق اليمين زروال والذي يمكن من يترك السلاح من المسلحين الإسلاميين في الجزائر ولم يتورط في أعمال إجرامية من الحصول على عفو. وهذا الموقف الرافض لقانون الرحمة، لا يمكن على كل حال إلا أن يكون الموقف السياسي الحزبي للكاتب الراحل عبدالحميد بن هدوقة، ومعروف أن الكاتب من مؤسسي حزب "التحالف من اجل الجمهورية" بمشاركة زعيمه الحالي، رئيس الوزراء الجزائري الأسبق رضا مالك ووزيره للداخلية سليم سعدي وعلي هارون عضو المجلس الأعلى الهيئة الرئاسية التي حكمت الجزائر بعد وقف المسار الإنتخابي. وهو حزب يصنّف ضمن ما يسمى التيار الإستئصالي عكس المصالح في الجزائر، الذي يدعو الى استئصال الأصوليين. ومعروف عن مواقف هذا الحزب خصوصاً موقف زعيمه رضا مالك، عندما كان رئيساً للحكومة وقال مقولته الشهيرة: "يجب أن يغير الخوف معسكره" اي يجب ان ينتقل الخوف الى الإسلاميين ومن يدعمونهم. القصة الأخيرة "ذكريات وجراح" مثلها مثل القصص السابقة جاءت مباشرة وبسيطة من الناحية الفنية. لقد غلب الخطاب الإيديولوجي المباشر على البحث الفني الخلاّق في هذه المجموعة القصصية