أدى تعليق العقوبات الدولية على ليبيا الى هجمة من الشركات الأوروبية على السوق الليبية يتوقع ان يكون لفرنسا وايطاليا فيها نصيب الأسد، وبعدهما بريطانيا. العقوبات أضرت بسمعة ليبيا اكثر مما اضرتها اقتصادياً، فهي ادت الى توفير مال هائل على مدى سبع سنوات كان سينفق على شراء الاسلحة. والشركات الغربية تعرف ان عند ليبيا اليوم فائضاً مالياً يمكن انفاقه على مشاريع حيوية ملحة، تأخر بدؤها او انجازها بسبب العقوبات. هذا لا يعني ان البناء سيبدأ غداً، فوزارتا الخارجية والتجارة والصناعة البريطانيتان قالتا ان اجراءات رفع العقوبات قد تستغرق اشهراً. ومن ناحية اخرى، فهناك عقوبات غير ما فرضت الأممالمتحدة. وبالنسبة الى بريطانيا بالذات فالقطيعة مع ليبيا بدأت بعد مقتل الشرطية ايفون فليتشر سنة 1984 برصاصة زعم انها اطلقت من داخل السفارة الليبية في لندن. اما في الولاياتالمتحدة فهناك تعديل أماتو الذي يمنع التجارة مع ليبيا وإيران، ويفرض عقوبات على اي شركة توقع عقداً مع اي من هذين البلدين بمبلغ يزيد على 40 مليون دولار. وربما كان من السهل القول انه لا يجوز ان تستفيد الشركات الاميركية والبريطانية من الوضع بعد ان حاربت حكومتا البلدين ليبيا على مدى سنوات طويلة، وقادتا حملة العقوبات. غير انه يجب الفصل بين الشركات والحكومات، خصوصاً ان الأولى تمثل "لوبي" ضاغطاً على الحكومات. ونعرف ان شركات بريطانية، ومثلها شركات أوروبية اخرى، قامت بزيارات استطلاعية الى ليبيا قبل رفع العقوبات، توقعاً لرفعها. المهم، ان ليبيا الآن "في مقعد القيادة"، كما تقول العبارة الانكليزية، وتستطيع ان تختار الشركات التي تريد التعامل معها. وبما ان الولاياتالمتحدةوبريطانيا هما اللتان قبلتا اصرارها على المحاكمة في بلد ثالث، لا العكس، فمعنى ذلك انها كانت على حق في موقفها. الواقع ان المحاكمة قد تكشف أسراراً مثيرة. وهي ربما كانت بدأت قبل أربع سنوات لو ان الحكومة البريطانية، تساندها المعارضة العمالية في حينه، قبلت تعديلاً للقانون الجنائي الاسكوتلندي سنة 1995 على اساس افكار عرضها البروفسور روبرت بلاك، استاذ القانون الاسكوتلندي في جامعة ادنبره. غير ان الحكومة البريطانية لم تفعل، ونظر الليبيون الى ما تقول وسائل الاعلام البريطانية والاميركية عن تفجير الطائرة الاميركية، وقرروا انهم ادينوا قبل ان تبدأ اي محاكمة فرفضوا تسليم المتهمَيْن. ومع ان بريطانيا اعتبرت الرفض الليبي دليل ادانة، فان المنطق البسيط يقول انها ما كانت سلمت متهمين بريطانيين الى بلد ثالث، خصوصاً اذا كانت على عداء مع هذا البلد، ولا علاقات ديبلوماسية تربطهما. المهم الآن ان اجراءات رفع العقوبات ستستغرق اشهراً، وان بدء المحاكمة نفسها يحتاج الى ما بين ثلاثة أشهر وأربعة. ولكن ثمة أسباب جديدة للقلق بعد تبدد الغمامة عن ليبيا، فرجعة سريعة الى احداث 1986 وما بعدها، تظهر ان ليبيا لم تكن في البداية متهمة باسقاط الطائرة الاميركية فوق لوكربي، فقد وجهت اصابع الاتهام اصلاً الى سورية وإيران، الأولى بسبب موقفها الصلب في موضوع المواجهة مع اسرائيل، والثانية بسبب عدائها المستحكم مع الولاياتالمتحدة. ورئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارغريت ثاتشر لم تتهم ليبيا في مذكراتها الضخمة بالمسؤولية عن حادث لوكربي، بل زعمت ان الغارات الاميركية على طرابلس وبنغازي التي انطلقت من قواعد في بريطانيا سنة 1986 منعت ليبيا من القيام باجراء ما ضد الدول الغربية، اي انها لم تعتبر حادث لوكربي "اجراء" ليبياً. غير ان التهمة ضد سورية وإيران سقطت تلقائياً عندما احتاج الغرب اليهما في المواجهة مع العراق، وكان ان فوجئت ليبيا في اواخر 1991 بتوجيه التهمة اليها. أتوقف هنا لأقول ان ثمة برنامجاً تلفزيونياً بريطانياً خلص الى القول ان الرصاصة التي قتلت الشرطية ايفون فليتشر لم تطلق من السفارة الليبية، وانه ثبت الآن ان محاولة تفجير طائرة العال التي اسفرت عن قطع العلاقات بين سورية وبريطانيا في الثمانينات قام بها العميل المزدوج نزار هنداوي بمؤامرة من الاستخبارات الاسرائيلية هل تعود تهمة جديدة الى سورية بسبب موقفها الحالي من السلام مع اسرائيل؟. مع ذلك، هناك ثقة واسعة في مختلف الأوساط بالقضاء الاسكوتلندي ونزاهة قضاته واستقلاليتهم، لذلك فالمحاكمة في هولندا ستصل الى الحقيقة بمعزل عن حرب في الخليج او سلام، او حاجة حكومات غربية الى معاقبة الدول التي ترفض السير في مشاريع الغبن التي تحاول فرضها علينا لمصلحة اسرائيل.