في مثل هذه الايام من عام 1991 صدر القرار 688 عن مجلس الأمن الدولي صدر في 5 نيسان/ ابريل وهو القرار الذي يكاد يكون الوحيد من بين ثلاثين قراراً أصدرها المجلس في أعقاب غزو النظام العراقي للكويت، وانتفاضة الشعب العراقي ضد هذا النظام في آذار 1991، وأعمال القمع الفظيع التي تعرض لها الشعب اثناء الانتفاضة وبعدها. والقرار الذي اتخذه مجلس الأمن هو، باختصار شديد: - يعرب عن "القلق الشديد إزاء القمع الذي يتعرض له السكان المدنيون العراقيون في اجزاء كثيرة من العراق، والذي شمل المناطق السكانية الكردية وأدى الى تدفق اللاجئين على نطاق واسع عبر الحدود الدولية". هرب من كردستان 800 ألف مواطن باتجاه الحدود التركية و1.5 مليون نحو الحدود الايرانية. وفي الجنوب هرب 40 ألف مواطن الى السعودية و70 الفاً الى ايران، خوفاً من بطش النظام واجراءاته التعسفية. - و"يدين القمع الذي يتعرض له" هؤلاء السكان. - و"يطالب بأن يقوم العراق على الفور... بوقف هذا القمع". - و"يعرب عن الأمل في اقامة حوار مفتوح لكفالة احترام حقوق الانسان والحقوق السياسية لجميع المواطنين العراقيين". - ويصر على ان يسمح العراق بوصول المنظمات الانسانية الدولية، على الفور، الى جميع من يحتاجون المساعدة... ويوفر جميع التسهيلات اللازمة لعملياتها. - و"يطالب العراق بأن يتعاون مع الأمين العام من أجل تحقيق هذه الغايات". - و"يقرر ابقاء هذه المسألة قيد النظر". غير ان هذا القرار المهم والنادر المثال جرى إهماله عملياً من قبل من اتخذوه، بمن فيهم فرنسا المبادرة لصياغته وتقديمه الى المجلس. ورفضه النظام العراقي لأنه يدرك جيداً ان تنفيذ هذا القرار يعني نهاية هذا النظام. ولم يحظ القرار - مع الأسف - بالاهتمام اللازم من قوى المعارضة العراقية. فرغم ان الأطراف المهمة فيها من ديموقراطية واسلامية وقومية سبق ان طالبت بتطبيقه وقدمت بهذا الشأن مذكرة مشتركة عكست فيها رؤيتها لكيفية تطبيق القرار، ورغم عقد بعض الندوات المشتركة في أربيل عام 1993 وفي المانيا عام 1998 وإلقاء بعض المحاضرات ونشر عدد من الكتابات في لندن عام 1994 واتخاذ القرارات في عدد من المؤتمرات الحزبية للمعارضة والمطالبة بتطبيق القرار في البيانات والسفارات التي ترفعها المعارضة في فعالياتها الخاصة المشتركة وفي الاتفاقات الثنائية التي عقدت بين بعضها وغير ذلك من الفعاليات، فإن الاهتمام بالقرار والسعي لفرض تطبيقه ظل دون المستوى المطلوب بكثير. كما ان شيئاً من التشوش ساد بعض أوساط المعارضة جراء الصيغة الغامضة نسبياً الواردة في الفقرة 2 من القرار حيث أعلن مجلس الأمن انه "يعرب عن الأمل... في اقامة حوار مفتوح لكفالة احترام حقوق الانسان والحقوق السياسية لجميع المواطنين العراقيين". هذا الحوار الذي لم يحدد القرار أطرافه ولا مكانه ولا زمانه. وحسب بعض المعارضين انه يمكن ان يعني مصالحة النظام، أو الاعتراف بشرعيته ومحاورته على هذا الاساس! وهذه الرؤية تمثل تفسيراً متعسفاً لا تعكسه روحية القرار، أو تخوفاً مبالغاً من اللجوء الى أي حوار للخروج من الأزمة التي زج النظام الديكتاتوري الشعب والوطن بها. فالقرار يعرب عن القلق ازاء القمع ويدين هذا القمع ويطالب بوقفه فوراً. وفي هذا السياق يعرب عن الأمل في اقامة حوار مفتوح يضع له هدفاً محدداً هو "كفالة احترام حقوق الانسان والحقوق السياسية لجميع المواطنين العراقيين". ولتحقيق هذا الهدف الذي حدده القرار بدقة يجب اقامة حركة تسهم فيها كل قوى المعارضة التي تطالب بتنفيذ القرار من اجل ارغام النظام على قبول القرار أولاً، والبحث في كيفية تطبيقه، ثانياً، بالتعاون مع الاممالمتحدة وبإشرافها المباشر وتدخلها الفعلي استناداً الى هذه السابقة في القانون الدولي التي لم يعد فيها انتهاك حقوق الانسان شأناً من الشؤون الداخلية للدول، وانما هو أمر يهم المجتمع الدولي لأنه يهدد السلم والأمن في المنطقة التي يرتكب فيها. ان المعارضة العراقية بجميع فصائلها مدعوة لتبني المطالبة، بشكل فعال، بتنفيذ القرار 688، مستفيدة من القرار نفسه، من افتضاح ممارسات النظام القمعية المتواصلة التي يوردها السيد ماكس فاندر شتويل، مقرر حقوق الانسان في العراق بتكليف من الاممالمتحدة في تقاريره الغنية بالشواهد على هذه الممارسات، ومنافاتها الشديدة الفظاظة للائحة حقوق الانسان الصادرة عن الأممالمتحدة عام 1948 والعهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية 1966 والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية 1976. واستناداً الى تعاظم التيار الداعي الى حل النزاعات بالطرق السلمية واعتماد نتائج الانتخابات الحرة في كسب الشرعية لأي نظام وأية حكومة، كما نصت على ذلك المادة 25 من العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية التي أكدت "ان الحق في المساهمة السياسية ومبدأ إرادة الشعب المعبر عنها بالانتخابات الدورية غير المزيفة سيكون الأساس لسلطة أية حكومة". وكذلك استناداً الى ممارسات الاممالمتحدة وتدخلها في الإشراف على الاستفتاءات والانتخابات في العديد من البلدان. فمن المعروف ان الاممالمتحدة اشرفت على ثلاثين استفتاء وانتخاباً في بلدان ليست مستقلة من أجل تقرير مصيرها بين 1956 و1990. واشرفت على الانتخابات في نيكاراغوا بطلب من حكومة الساندينيين لإنهاء الحرب الأهلية فيها. وكذلك رعايتها للمباحثات التي جرت بين حكومة السلفادور وجبهة فارابوندو مارتي للتحرر الوطني اليسارية التي اسفرت عن الاتفاق بينهما برعاية الاممالمتحدة والتوصل الى ما سمي ب "الاتفاق حول حقوق الانسان" في تموز يوليو 1990، الذي تضمن وصول بعثة مراقبة من الاممالمتحدة للسلفادور والاحترام الكامل لحقوق الانسان وكفالة ذلك، اذ حققت اللجنة في قضايا حقوق الانسان منذ عام 1981، وتوصل الطرفان - الحكومة والجبهة - بعد أكثر من سبعة اشهر، أي في نيسان ابريل 1992، وبحضور الأمين العام للامم المتحدة الى: - انهاء النزاع المسلح بالوسائل السلمية. - اشاعة الديموقراطية في البلاد. - الضمان غير المحدود لحقوق الانسان. - وحدة المجتمع السلفادوري. - تنفيذ العملية برعاية الأمين العام للامم المتحدة. والآلية لذلك هي مواصلة المفاوضات، وبمساهمة فعالة من الأمين العام للامم المتحدة أو ممثله الشخصي، وكذلك بمشاورات منفصلة مع كل طرف يجريها ممثل الأمين العام. اننا اذ نذكر هذه الأمثلة، لا ندعو الى استنساخ أي من التجارب السابقة أو غيرها كما جرى في انغولا وكمبوديا وغيرها، لإدراكنا الظروف واختلاف تناسب القوى الذي فرض أياً من تلك التجارب. ولكن نسوقها للاسترشاد بها فيما يمكن ان نرسمه من أهداف للتحرك في المطالبة بتنفيذ القرار 688 بمساعدة الاممالمتحدة واشرافها. فپ"كفالة احترام حقوق الانسان والحقوق السياسية لجميع المواطنين العراقيين" التي نص عليها القرار تتطلب أول ما تتطلب مساهمة الاممالمتحدة والإشراف عبر ممثليها على: - انهاء الحالة الشاذة والأوضاع الاستثنائية في البلاد. - اطلاق الحريات الديموقراطية. وفي مقدمها حرية الصحافة والتنظيم الحزبي والنقابي والمهني، وحرية ممارسة الشعائر الدينية. - اصدار عفو عام شامل عن جميع السجناء والمحكومين والملاحقين السياسيين. - السماح بعودة المهجرين قسراً والذين اضطروا للهجرة، واسترجاع الجميع لحقوقهم وممتلكاتهم المصادرة من قبل النظام. - إلغاء مجلس قيادة الثورة غير المنتخب، والذي هو رسمياً، أعلى هيئة للسلطة في البلاد يتحكم فيها رأس النظام بالكامل. - حل كل التشكيلات العسكرية التي أقامها النظام لحماية رموزه، كالجيش الشعبي والحرس الخاص وفدائيي صدام ونزع سلاح الميليشيات الحزبية. - إلغاء كل التشريعات والقوانين المناقضة لحقوق الانسان، ولحق الشعب في اختيار ممثليه للسلطة، وفي مقدمتها قانون الحزب القائد. - إلغاء فقرات المادة 200 من قانون العقوبات التي تنص على الحكم بالاعدام على مئات ألوف المواطنين الذين جندوا في حزب البعث الحاكم إذا ما اتصلوا بأي حزب أو منظمة غيره، أو اخفوا صلة سابقة لهم بحزب ما، وإعدام كل من يسعى لكسب "بعثي" الى حزب آخر. إن هذه الاجراءات وغيرها مما يتطلبها القرار 688 يجب ان تكون تمهيداً لتولي الاممالمتحدة الاشراف على اجراء انتخابات حرة نزيهة لإقامة مجلس تأسيس يقر دستوراً ديموقراطياً دائماً يضمن حقوق الشعب الديموقراطية وتداول السلطة سلمياً استناداً الى صناديق الاقتراع وليس الى فوهات مدافع الدبابات أو دسائس في القصر الجمهوري أو مجلس عائلة الديكتاتور! وهكذا يظهر ان المطالبة بتطبيق القرار 688 لا تعني بأي حال من الاحوال التصالح مع النظام، ولا الاعتراف له بأية شرعية، وانما هي وسيلة للسعي لتحقيق تحول سلمي نحو نظام ديموقراطي في عراق موحد يتوق اليه الشعب بكل قومياته وأديانه وطوائفه ويناضل من أجله في ظل ظروف غاية في الصعوبة والقسوة. ولذا فإن رفض النظام العراقي ورئيسه للقرار 688 مفهوم تماماً. ذلك انه يعني بالنتيجة تصفيته النظام الديكتاتوري كله، وليس الاكتفاء بتغيير رأس النظام كما تريد بعض الجهات الداخلية والخارجية التي لا يروق لها ان يمسك الشعب العراقي بزمام أموره بنفسه عبر انتخابات حرة نزيهة، تحفظ للعراق وحدته وللشعب حقه في حكم نفسه بنفسه. وليس من شك في أن هذا سيظل مجرد أمنيات حلوة ما لم تستطع المعارضة تنظيم حملة فعالة من اجل تحقيقه وتحريك الجو المحتقن بشدة في الداخل باتجاه المطالبة بالحقوق والحريات الديموقراطية والاستفادة من الضغط الخارجي، وخلق جو ضاغط يجبر الحكام على النزول عند ارادة الشعب. وهذا علماً بأن هذه الدعوة لا تلغي وجوب مواصلة العمل من أجل فرض المزيد من العزلة على النظام والمطالبة بتقديم رموزه الى المحاكمة الدولية، كمجرمي حرب ومرتكبي جرائم ضد الانسانية. * كاتب عراقي مقيم في بريطانيا.