العالم الفيزيائي "اللادقاني" راوول فيتالي، يمكن وصفه بأنه مكتشف موسيقى أوغاريت. استطاع فيتالي، وهو استاذ سابق للفيزياء في الجامعة اللبنانية، ان يفك رموز لوحات مسمارية من أوغاريت، واستخلص منها لحناً أوغاريتياً طوله ثلاث دقائق، وأصدر تسجيلين للّحن الأوغاريتي المذكور، واحد عزفته على البيانو الفرنسية تيريز مونلو، وآخر عزفه على السنتور أستاذ الحاسوب في جامعة دمشق والعالم النظري الموسيقي سعدالله آغا القلعة. في حلب التقيت راوول فيتالي وروى لي كيف استطاع أن يصل إلى هذه النتيجة المدهشة. راوول فيتالي، كيف تيقّنت من أن هذه الدرجات الموسيقية، هي بالضبط درجات الموسيقى التي عُزفت في أوغاريت قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة؟ - أولاً، هذه الترددات وضعتها من عندي تقديراً، لأنني أعرف أنها معزوفة على مقام الكرد. أخذت السلّم من المي إلى المي، لأن مقام الكرد من المي إلى المي لا يحتوي على دياز ولا بيمول. لا نملك أن نعرف الترددات التي كان تعزف في أوغاريت. لا نعرف كم كانت تردد درجة "لا" عندهم. نعم، نستطيع ان نعرف الأبعاد بين الدرجة والدرجة الموسيقية التي تليها. إذا اتخذت منطلقاً معيناً اختاره أنا، فابتداءً من هذه الدرجة تكون الأبعاد معروفة. كيف عرفت الأبعاد في سلّم أوغاريت الموسيقي؟ - الأبحاث في آثار أوغاريت بدأت سنة 1929، وقد وجدوا أن السلّم الموسيقي هو سلّم فيثاغور. ومعروف أن أبعاده هي: طنين، طنين، بقية، طنين، طنين، طنين وبقية. معروفة قيمة الطنني وقيمة البقية. وطالما ان عندي تسلسل النغمات في كل بعد، انتهى الأمر. اما الأساس فأختاره أنا. سلّم فيثاغور قبل فيثاغور بكم سنة؟ - قبل فيثاغور بألف ومئتي سنة كانت موضوعة ونهائية. أقدم لوحة اكتشفوها عمرها من 1800 سنة قبل الميلاد. وفيها وصف لطريقة شد دوزان أوتار الكنّارة. معنى هذا في الغالب أن السلّم كان موجوداً سنة 2000 قبل الميلاد، أي 1400 سنة قبل فيثاغور. السلّم مع هذا نسب الى الفيلسوف اليوناني الذي اخذه، ولم يكن السبّاق إلى وضعه. - يا سيدي، لا أفترض سوء نية عند فيثاغور. لا أحد قبله عرفه في اليونان. لذلك نسبوه إليه. صار عند الغربيين عادة، أن ينسبوا كل شيء إلى الإغريق القدامى، حتى لا ينسبوا الفضل إلى غيرهم. وقد لا يكون هذا مقصوداً ومتعمداً، لكنه موجود. مثلما ننسب نحن الى العرب أحياناً مع بعض التزيّد. كل الدنيا تفعل هذا. نرجو أن تروي لنا قصة اهتدائك الى هذا الجهد، ولنبدأ من مولدك وعلومك. - المولد سنة 1928 في اللاذقية، من أبوين لاذقيين. أما أبي فهويته إنكليزية، ولا أزال أحمل الهوية الإنكليزية. واول من استوطن اللاذقية من اجدادي جاء من جزيرة كورفو، وتوفي في اللاذقية سنة 1800، وقبره موجود. ثم بقيت العائلة في اللاذقية، وصرنا أبناء بلد أباً عن جد. درست في مدرسة الفرير في اللاذقية حتى الثانوية. ما الذي لفت فضولك في العلوم في السنوات الأولى من تعلمك؟ - في المدرسة الثانوية لا شيء كثيراً. ثم ارتدت الجامعة الأميركية في بيروت، ودرست الفيزياء، وحصّلت بكالوريوس فيزياء سنة 1948. وقد أقاموا في الجامعة في يوم افتتاح مهرجان الأغنية السورية 12 كانون الأول 1998 إحتفالاً تذكارياً لأولئك الذين تخرّجوا من الجامعة بين 1923 و1948. بعد الجامعة الأميركية ذهبت إلى فرنسا لدراسة علوم كهربية عالية. لكن التحوّل إلى النظام الفرنسي الجامعي لم يرق لي. عدت إلى اللاذقية وتعاطيت التجارة، وانتسبت إلى النادي الموسيقي، الذي كان من أعضائه غبريال سعادة ومحمود عجّان ولؤي عجّان وابراهيم هزيمة الرسّام الكبير المقيم الآن في ألمانيا وقاسم شواف. أي نوع من الموسيقى اعتدت ان تسمع؟ - كلاسيك أجنبي، حين كنت في باريس، فلا تفوتني حفلة. في الموسيقى العربية، كان والداي سمّيعة، يعرفان الموسيقى العربية الجيدة، ولدينا فونوغراف. سيد درويش وعبدالوهّاب؟ - طبعاً! سيد درويش حتى أكثر من عبدالوهّاب. أقول دوماً: أنا رجعي في الموسيقى. لا بسبب أوغاريت، بل ان ذوقي في الموسيقى رجعي. اسطوانات بيضافون لعبدالوهّاب: هذا ما أحب. إذا لم تخشّ الأسطوانة فلا أحبها ضحك. تربيت في البيت على هذا، اضافة الى موسيقى الرقص والرومبا والتانغو والبوليرو وسواها من موسيقى أميركا اللاتينية. وفي أحد الأيام قال لنا غابي سعادة: أوغاريت هنا قربكم، وهي من أهم المراكز الأثرية في العالم. في أي سنة بالضبط؟ - في الخمسينات حتماً، قبيل الوحدة بين مصر وسورية. قال سعادة: أليس عيباً ألا نهتم لأوغاريت؟ وقال: أنا لدي مكتبة صارت مكتبة مهمة جداً فيما بعد، زوروا مكتبتي، وهيا بنا نرى معاً أوغاريت في رأس شمرا. وهكذا دعانا إلى الاجتماع في بيته مرة في الاسبوع لنستمع الى الموسيقى العربية والأوروبية، ونقلّب الكتب ونرى ماذا نجد فيها، لتكون عندنا فكرة عن أوغاريت. ذهبنا إلى رأس شمرا ووجدنا بعض الحجار المرمية هنا وهناك. لم نعرف قيمتها في البدء طبعاً. إذ لم تكن مقروءة بعد. أخذنا نجتمع ونقلّب في الكتب. وفي يوم من الأيام أخذت أقرأ في كتاب نشرت فيه نصوص أوغاريتية بالحروف اللاتينية. والحروف اللاتينية لا تؤدي طبعاً كل اللفظات الأوغاريتية. فليس ثمة ضاد وذال وخاء، إلى آخر ما هنالك. نظرت في الأبجدية الأوغاريتية فقلت في نفسي: هذه حروف عربية. وحدها الضاد ناقصة. سبعة وعشرون حرفاً إذاً. - هي ثلاثون حرفاً. أضيفت ثلاثة أحرف، واضح أنها أضيفت: فأحدها همزة كسرة، والثاني همزة ضمة، والثالث سين أخرى تلفظ على نحو مختلف، في كلمات غير أوغاريتية، كأن تضيف حرف P إلى الأبجدية العربية اليوم. إذاً حروف أوغاريت هي الحروف العربية، عدا الضاد. والعربية هي لغة الضاد. - وجدت الكلمات مكتوبة بالحروف اللاتينية. وكان عليّ أن أقرأها وأعرف إذا كانت هذه تاء أم طاء، ذال أم ظاء، إلى آخره. أخذت نصاً، وكتبته بالحروف العربية. الجملة المكتوبة بالحروف اللاتينية هي: MSS تحت حرف S نقطة، TD تحت حرف T خط صغير NT, BTLT. لم أستطع أن أقرأها. فكتبتها بالحروف العربية: مصص ثد بتلت عنت. وأعرف أن الأحرف الصائتة لا تكتب بالأوغاريتية، أي الألف والواو والياء والحركات. فأضفت أحرفاً صائتة، وصارت الجملة: مصص ثدي بتولة عناة. صارت جملة مفيدة. فقلت لهم: هذه لغة عربية، أنظروا. هذه الحادثة دفعتنا إلى البحث عن النصوص التي تشبه الكلام العربي. فوجدنا مقادير هائلة. وأخذنا كل ما وجدنا من كتب باللغة الاوغاريتية عند غبريال سعادة وبدأنا نبحث فيها، فوجدنا النصوص عربية وكنا نظنّ انها لغة غريبة عجيبة. صار معنا هوس باللغة الاوغاريتية وبدأ يأتي علماء أوغاريت من خارج: اولاً هناك البعثة الفرنسية التي تحضر شهراً فيكل سنة، فعرّفنا بهم وبدأنا نتعاطى معهم ونتبادل المعلومات. الأبحاث الحديثة تؤكد أصالة اللغة العربية في بلاد الشام، ألفي سنة قبل المسيح. فهي لغة قديمة قدماً موغلاً على الأقل. - ثم هناك أمر أحدث مشكلة. وجدنا ضميراً متصلاً للمفرد الغائب المذكر: هينو. دارت نقاشات حوله، فقال لنا لؤي العجّان رحمه الله: ألم تلاحظوا يا جماعة؟ فقلنا: ماذا؟ قال: هيا معي إلى حي الصلَيْبة في اللاذقية. ذهبنا إلى صاحب حانوت وسأله سؤالاً فأجابه جملة مليئة بهذا الضمير المتصل نفسه. واكتشفنا أننا نقوله في بعض أحياء اللاذقية. قال هذه هي! وكنا كلما عرضنا أموراً كهذه على العلماء الغربيين، قالوا لنا: إذا لم تكتشفوا أنتم هذه الأمور، فأي عالم آثار في العالم يستطيع أن يكتشفها؟ هيا انزلوا في المعمعمة. وهكذا كانت البداية. ويجب الا ننسى سايروس غوردون، وهو أهم عالم في اللغة الأوغاريتية، وهو يهودي وصهيوني، وهو يؤكد هذه العلاقة ويقول: إذا أراد أحدنا أن يدرس الأوغاريتية فلا بد من أن يكون متضلعاً من العبرية ومن العربية. وهذا التقارب اتخذه حجة علمية على أن أصل العرب ليس الجزيرة العربية فقط، بل إنهم كانوا أصلاً في بلاد الشام. هذه حجة بدأت ترجح الآن في الدراسات. - لدي وثائق علمية ضخمة في هذا الموضوع تؤكد الأمر. في أحد الأيام جاء بيار بوردروي إلى البعثة الفرنسية ومعه اسطوانة. قال: اسمعوا هذه. سألناه: ما هذه؟ فقال: موسيقى أوغاريت. قلنا: من أين أتيت بها؟ فقال: لا أعرف. قلنا له: أنت الخبير منذ عشرين سنة وتقول لا أعرف؟ قال: رأيت الأسطوانة في السوق فاشتريتها. سمعنا الموسيقى فلم نقتنع. قلت له: أريد معلومات عن الموضوع، فأحضر لي كتيّباً وُزّع مع الأسطوانة. ولدى مراجعته وجدت فيه مجموعة مراجع، اخترت بعضها وطلبت من بوردروي ان يشتريها لي من فرنسا. وهكذا كان، فأحضر لي المقالات العلمية المطلوبة من "كوليج دو فرانس". وأخذت أقرأ المقالة فأطلب غيرها وأُرسل في طلبها من هنا وهناك. وجدت أيضاً مقالات في مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت. أعجبتني أشياء، ولم تقنعني أشياء. وفي أحد الأيام أخذ غبريال سعادة هو مرة أخرى يحرّك اهتمامنا واهتمام مديرية الآثار حول اقتراب موعد مرور خمسين عاماً على اكتشاف أوغاريت سنة 1979. فعقد لذلك مؤتمر في تشرين الأول اوكتوبر 1979 في اللاذقية، دعي إليه 125 عالماً من المختصّين بآثار أوغاريت من أنحاء العالم. جاء من لبنان روجيه صيدح رحمه الله، وقد توفي بعد أشهر. طلبت مديرية الآثار أن يقدم السوريون أبحاثاً، واختارت لؤي العجّان وغبريال سعادة واختارتني ليقدم كل منا بحثاً أو حديثاً في المؤتمر. واخترت أن أقدم بحثاً عن موسيقى أوغاريت. فقال لي عدنان البنّي: نحن في مديرية الآثار لا نعرف من أين أتت موسيقى أوغاريت، ونرجوك أن تنير لنا الموضوع. واختار غبريال سعادة موضوع أسماء القرى في منطقة اللاذقية، في عصر أوغاريت، 1400 سنة قبل المسيح، وهي لا تزال حتى اليوم تحمل الأسماء ذاتها. لم يعد الأمر هواية، وصارت أمامي مهمة الظهور في المؤتمر ببحث مقنع أمام كبار علماء الموضوع. عدت إلى النصوص وأجريت فرزاً للأمور المنطقية عن الأمور التي لم أقتنع بها. وأعدت ترجمة النصوص المتعلقة بالموسيقى، فوجدت نفسي أمام موسيقى أوغاريت: السلم الموسيقي مع ترددات كل درجة موسيقية، درجات السلم الثلاث عشرة. هل كان لديهم أسلوب تدوين حتى استخلصت هذا اللحن من النصوص؟ - طبعاً! كل هذا السلّم الموسيقي والأبعاد بين الدرجات، أتت من العراق أصلاً، من ثلاث أو أربع لوحات مسمارية في العراق، اكتشفت سابقاً وأُهملت في المتاحف. كان التدوين برموز خاصة أم بالأحرف والأرقام مثل تدوين الأرموي؟ - لا، بل أسماء الأوتار، مثلما ترى في اللوحات الثلاث التي نشرتها في البحث، وهو معك الآن. أسماء أوتار الكنّارة المسماة Lyre بالفرنسية. حين كانوا يسمّون وترين باسم واحد، استنتجت أن هذا الإسم هو رمز البعد بين الوترين. صار لدي أسماء للأبعاد. ثالث لوحة تضمنت أسلوب شد دوزنة الأوتار. هذه المعلومات بيّنت لي أن السلّم هو سلّم فيثاغور. وانطبق كل شيء عندي مع سلّم فيثاغور: السلّم والمقامات، سبعة مقامات، قبل فيثاغور بألف وأربعمئة عام، ألف وخمسمئة عام. وضعت لوحة إذاً بالمعلومات الفيزيائية ونسب التردد. لا بد أن هذه كانت الدراسة التي أثارت أشد الإهتمام في المؤتمر. - كان إيمانويل لاروش يعمل في أوغاريت، وفي أيامه نشرت نصوص هذه اللوحات، لكن أحداً لم يفهمها آنئذ. فالكلمات غير مفهومة. وُضعت في المتاحف مع بعض الملاحظات ومن دون تفسير أو ترجمة. عندما ظهر التفسير لهذا السلّم، رأى عالم أميركي اسمه هانز غوتربوك الدراسة فتذكر أن هذه الكلمات التي ترمز إلى المقامات والأبعاد موجودة على لوحة أوغاريتية منسية. في هذه اللوحة أربعة أبيات شعر أوغاريتي وستة خطوط، وأسماء أبعاد وبعد اسم كل بُعد عدد. العدد هو طول الدرجة الموسيقية في اللحن؟ - رويداً! لم نكن نعرف بعد! قالوا: هذا نشيد وموسيقاه. ولكن نظرت في الموضوع وساءلت نفسي: حين ترى بُعداً يليه عدد، فكيف تفسّره بأنه تدوين موسيقي؟ أجريت محاولات ثلاث قبلي للتفسير. إحداها الإنكليزي اسمه دافيد وولستان، وهو من الذين درسوا اللوحات العراقية. قال وولستان: إذا وجدنا مسافة دو- صول، فلا يمكن أن تكون هذه نغمة. نريد نغمات. إذاً فالتدوين دو- صول، يعني نغمة متدرجة من خمس درجات: دو- ري- مي- فا- صول، وليس مسافة. لكنني لم أقتنع، لأن لا معنى عندئذ للعدد الذي يلي البُعد. طالما أن الموسيقى مدوّنة لماذا العدد؟ فقال وولستان: لا أعرف أكثر من هذا! فليكمل غيري. جاءت الأميركية كيلمر وقالت: لا أقتنع بهذا الكلام. دو- صول تعني دو، وصول، وهي مسافة، يليها العدد ثلاثة، يعني أن نكرر: دو- صول، دو- صول، دو- صول. وأخذوا يتوسعون في التفسير حتى قالوا بوجود موسيقى متعددة الأصوات في أوغاريت. لم أقتنع بأن هذا لحن. لكن كيلمر عملت الأسطوانة وأنزلتها إلى السوق. لم تكن الأسطوانة مقنعة، لكن لها فضلاً كبيراً لأنها حفزتنا على التفكير في الموضوع. كذلك عملت السيدة دوشان غيومان في الموضوع. وهي بلجيكية، تكتب في مجلة علوم الموسيقى في فرنسا. قالت أوافق على قول وولستان: دو- صول هو لحن: دو- ري- مي- فا- صول. والعدد الذي يلي دو- صول، يدل على درجات قصيرة Petites notes مضافة للزخرف. وقالت إن اليونان يستعملونها إلى اليوم في الموسيقى البيزنطية. ولكن قلت: طالما أن لديهم طريقة للتدوين، فما هذه الدرجات القصيرة؟ في البدء اقتنعت بأن دو- صول هي لحن، مثلما قال وولستان. فالأكديون كانوا يكتبون كتابة مقطعية، بلا حرف ... قبل الأبجدية. صحيح أن أوغاريت وضعت الأبجدية، لكن الموسيقى معتمدة في تدوينها على الكتابة الأكدية لا الأوغاريتية. فهل كانوا يكتبون الموسيقى مثل الكتابة اللغوية، أي هل كانوا يكتبون الجملة الموسيقية برمز واحد؟ يعني: هل كانت كتابة الموسيقى أيضاً مقطعية؟ هذا أقنعني بأن افتراض وولستان محتمل. لكن الأرقام أثارت شكي. هذه الموسيقى قديمة. وكلما كانت الموسيقى قديمة كانت للإيقاع أهمية أكبر. أين الإيقاع إذاً؟ كانت السيدة دوشان غيومان قد طلبت إلى مساعد لها أن يضع الأرقام على الحاسوب ليحاول أن يجد نظاماً إيقاعياً دورياً، فلم تجد شيئاً. أخذت النص وعددت المقاطع الصوتية على افتراض أن الأرقام هي أطوال الزمن الموسيقي. جمعت الأعداد التي في كل خط فوجدت فوق: أربعة، ووجدت تحت: ستة. أما الخطوط الثاني والثالث والرابع والخامس تحت، فطول كل منها ثلث الخط الأعلى المقابل. فوق ثلاثون، تحت عشرة. فوق 36 تحت 12 وهكذا. وجدت نسبة 3 على واحد. قلت: إذاً العدد يدل على عدد قياسات زمنية موسيقية Mesures. تطابقت كل الخطوط تماماً، ما عدا الخطين الأول والثاني تحت، فلم نجد لهما ما يقابلهما فوق. فاستنتجت أن ثمة في البداية مقدمة موسيقية غير مغنّاة، وختاماً موسيقياً غير مغنّى، والباقي تنطبق كل الخطوط تماماً. ووجدت في الخط الأول كلمة غريبة، كلمة حورية والعدد عشرة. كل الأعداد تراوح بين واحد وخمسة إلا هذا: عشرة، وكلمة: أوستما آري، باللغة الحورية. فراسلت ألمانيا لأحاول إستشارة الخبراء في الأمر، فأحالوني على مقالة لعالم ألماني اسمه تيل، وضع دراسة عروضية عن النص الحوري. يقول تيل: هذه العبارة أوستما آري تعني: لا أُعطي الكلام، أُعطي. قلت إذاً إن نصف المقطوعة بلا كلام ونصفها بكلام. إتفقت الخطوط جميعاً عندئذ. الكلام بالحورية غير مفهوم. في أحد المواضيع يقول: أكل شمشم. هل يعني أن أحداً أكل سمسماً؟ على كل حال، كان المؤتمر يقترب ولا بد من الوصول إلى حل اللغز. كنت أعرف كتابة التدوين الموسيقي منذ صغري. فكتبت الدرجات الموسيقية، البيضاء والسوداء وغير هذا، وعلى أساس أن الأرقام هي الأزمان. كتبت النص الموسيقي، ثم التقيت بصديق وطلبت منه أن يعزف لي. سألني: ما هذه؟ قلت له: لا أستطيع نفسياً أن أقول لك ما هذه حتى تعزفها وتقول لي رأيك بها، ثم أقول لك ما هي. عزفها على البيانو. وكانت هذه أول مرة أسمع الموسيقى الأوغاريتية في حياتي. سألته: ما رأيك؟ قال: خفيفة، بدائية، لكنها صحيحة، ومعادلاتها سليمة، وهذا تلحين مركّز، ولكن في البداية اللحن خفيف. وسألني: ما هذه؟ قلت: هذه موسيقى أوغاريتية. فتعجّب غاية العجب. ثم سجّلها من أجل المؤتمر، ومنذئذ عدّلت فيها ثلاث نوتات أو أربع، بعدما اقترح البعض تصليح بعض الأخطاء. هذه هي قصة موسيقى أوغاريت وقصة هذا التسجيل.