حتى القطار الذي أقلّنا باتجاه ميونيخ كان يحمل اسم غوته. هنا، في فايمار، لا يكاد يخلو شيء من اسم الرجل أو من ذكره. فندق الهيلتون المقام حديثاً خصص مقصفاً من مقاصفه لذكراه، والمركز السياحي للمدينة جعل يبيع رسوماً مصبوبة من الجص، مختلفة الأحجام، لمشهد وجهه الجانبي. في محلات التحف المنتشرة في المدينة الصغيرة نقشت حتى على فناجين القهوة صورته الجانبية تلك. ثم هناك منزل غوته الباقي على حاله منذ ما يزيد على 220 سنة. وهناك "معهد غوته" الثقافي الذي أعطي هذا الإسم لا في فايمار وحدها لكن في المانيا جميعها والعالم أيضاً. كما أن تماثيل غوته تملأ المدينة. "تمثال من هذا"، سألنا المترجمة التي كانت برفقتنا، فأجابت: "من سيكون؟ انه غوته بالطبع"، هكذا من قبل أن تتمكن من تقرّي الهيئة وقراءة الإسم من تحتها. هناك تماثيل كثيرة للرجل في ساحات فايمار. بل أن أحد الفنادق، وهو الفندق الأشهر في المدينة الصغيرة وكان مرغوباً من قيادات النازيين ومن أدولف هتلر نفسه، أوقف على شرفة طابقه الأول، المطلة على الطريق، تمثالين متعانقين واحداً لغوته والآخر لمعاصره شيلر. أما مدير المعهد الثقافي الذي تطوّع ليكون دليلنا في صبيحة ذلك اليوم فقال إن إدارة منزل غوته، الذي تحول الى متحف بالطبع، نظّمت دخول الزائرين اليه وقصرتهم على 800 زائر كل يوم. هؤلاء يأتون من أنحاء المانيا ومن العالم، لا خلال سنة الاحتفالات بغوته هذه بل في كل وقت. ومن قبيل تعريف مدير المعهد بالمدينة جعل يقدم لنا الأبنية التاريخية على النحو التالي: هذا هو بيت دوق المدينة وأميرها الذي احترق لكن غوته أشار على زوجة الدوق بأن تنقل الكتب على عجل الى الكنيسة المجاورة، فأنقذت الكتب. أو كان يعرّف عن مبنى الساحة الضخم، المخصص للمؤتمرات وإقامة العروض الفنية، بقوله أنه هنا، في 1949، ألقى توماس مان كلمته في غوته. مدينة فايمار تزدحم بغوته ازدحاماً لم يترك إلا حيّزاً قليلاً لكبار آخرين تعدد أسماءهم المدينة في معرض احتفالها بنفسها: لوكاس كراناش وجان سيباستيان باخ، وبعد الحقبة الكلاسيكية فرانز ليست وفنانو مدرسة فايمار للرسم، ثم فريدريك نيتشه وهنري فان دو فيلد وهاري غراف كيسلر، وأخيراً تيار البوهاوس الذي، من المدينة الصغيرة، ابتدأت شهرته في العالم كله. وكل هؤلاء جرى جمعهم، بعد غوته، في الكتاب الذي أصدرته فايمار لمناسبة تسميتها العاصمة الثقافية لأوروبا في هذا العام 1999 بجملة هي "... ودعونا نتذكر مواطنين آخرين من فايمار...". وهذا لم يتحصل لغوته بعد وفاته فقط، بل انه في حياته كان مقرباً الى دوق المدينة المحب للآداب والفنون والحامي لها... وكان، هو نفسه، غوته، يحيا كأمير. شيلر، معاصره، لم يحظ بما حظي به غوته إذ أن بيته، الباقي هو أيضاً، يدل على قلة حظوته. حتى ان المترجمة وصفت بيت شيلر بالبيت الصغير الفقير، حيث "لم يلتفت الشاعر الثري الى صديقه ليمد له يد العون". ربما لم تكن كتابات شيلر ملائمة للذائقة الأدبية السائدة في عصره، أو ربما لا تحتمل الدوقية، أو الإمارة، شاعرين متعاصرين فتكرّمهما معاً. في الشعر العربي أيضاً كان الأمر كذلك إذ دائماً كان هناك شاعر واحد أثير. هكذا، في فايمار، احتاج كل من لوكاس كراناش وجان سيباستيان باخ الى دوق يرعى كلاً منهما. ذلك يشبه الاحتضان الذي ازدهر في كنفه الشعر العربي. مدام دو ستايل كتبت عن فايمار، في مطلع القرن الماضي، "انها المرة الأولى التي يكون فيها لأوروبا عاصمة أدبية" وذلك في كتابها "حول المانيا" الذي كتبته في 1810. أما غوته نفسه فقد أكبر في الدوق قدرته على "تقييم كل مثقف وكل شخصية ووضع كل من هؤلاء في المكان الذي يليق به". بحسب التنظيم الذي أعدته إدارة المدينة يجب أن يكتفى بعدد محدد من الزوار يفتح لهم بيت غوته أبوابه. الثمانمائة هؤلاء يتوجه بعضهم الى بيت شيلر القريب على بعد خطوات، كما انهم يجولون، بروحية الإطلاع نفسها، على ساحات المدينة وأبنيتها. لكن سيكون على هؤلاء، مجتمعين، أن يقصدوا مركز التجميع النازي الذي يقع على هضبتها القريبة. كان على كل تلميذ من تلاميذ المانيا، بحسب دليلتنا ومترجمتنا، أن يزور مزكر التجميع هذا مرة واحدة على الأقل في حياته. زيارة فايمار إذاًَ ذات وجه مزدوج. هي ليست للآداب والفنون فقط لكن أيضاً للتكفير عن الذنب الألماني الذي ينبغي على الأجيال أن تحمله كما تحمل أبهة أبنيتها الثقيلة وعظم تواريخها. فالمدينة التي اختصت برعاية الآداب والفنون ما كان لها أن تكون مأوى لهؤلاء وفندقاً يتعاطون فيهما مع إبداعاتهم تعاطي الحرفيين مع حرفهم. في فايمار "نشأت أول ديموقراطية، وإن قصيرة الأجل"، في المانيا. ذلك، بالطبع، لم يعد أدباً وفناً خالصين بل هو دخول في السياسة واقتحام لها من باب الثقافة. وفي سنوات الثلاثينات من هذا القرن كان على هذا "الاقتحام" أن يستجيب لريح أخرى هي أقرب الى السياسة بالمعنى الذي أودى الى الحرب العالمية الثانية هذه المرة. كان للجبهة الوطنية مؤيدون كثر في فايمار، بل انها كانت، في بداية تشكل الجبهة، قاعدة من قواعدها الأساسية. وفي الفندق السابق وصفه كان هتلر يؤثر النزول دائماً وقد حذا حذوه في ذلك كثيرون من قادته. "في هذا المكان ألقى هتلر إحدى خطبه التي أشاد بها بقوة المانيا الملتفة حول قيادتها"، قال لنا مدير معهد غوته فيما هو يعيّن الأحداث والوقائع المهمة التي جرت في كل من الأبنية. لتلاميذ المانيا، المنظم مجيئهم مرة واحدة على الأقل في أواخر المرحلة الثانوية، فايمار هي مدينة الثقافة ومركز التجميع النازي في آن. أو ربما تنظم الرحلتان منفصلة إحداهما عن الأخرى لكي لا يصطدم هذا الوجه للمدينة بذاك، ما قد يؤدي، وان بعملية دمج عسيرة، الى اعتبار الثقافة والوحشية ممكني الصدور عن بؤرة واحدة. في أثناء ما كنا نتجول في الساحات التي تتتالى، ساحة بعد ساحة، وهذا ما يميز هندسة المدينة وشكلها كان ثقلٌ ما يحيط بسكينة الأبنية الضخمة حيث، لا بد، في مرحلة ما من تاريخها المتأخر، اختلطت جنة الثقافة بجحيمها فصارت الخطبة الواحدة تتراوح بين الطرفين أو تقيم على حدّهما. ذاك بالطبع ما لم يشأه كارل أغسطس، دوق المدينة الباذل الحفاوة للأدباء والفنانين كي يأتوا ليقيموا فيها، ولا لأمه أنّا أماليا التي سبقته في ذلك مستقبلة الرسامين والموسيقيين على وجه الخصوص. فايمار مدينة صغيرة أو هي مدينة أصغر من أن تتسع لهذا القدر من ثقافة المانيا تحتشد فيها. قال لنا السيد باول، مدير المعهد الثقافي، ان عدد سكانها الآن لا يتعدى الستين ألفاً، وإذا كنا جالسين في المقهى الموصول بإحدى أكبر ساحاتها، رأينا أن الرواد القادمين لا يلقون التحية على الحاضرين حين دخولهم. كما أن الجالسين حول الطاولات تتصرف كل حلقة منهم على هواها، هكذا كما يحدث في مقاهي المدن الكبيرة التي تجمع، في حميميتها، غرباء لا يعرف بعضهم بعضاً. كأنهم، رواد مقهى فايمار ذاك، رواد مدينة يعيشون في قرية. أو أنهم غرباء حقاً قدموا الى فايمار لتلقي العلم في جامعاتها ومعاهدها. السيد باول، مدير المعهد الثقافي، قدم اليها من خارجها وها هو يدلنا الى تواريخ أبنيتها، مزهواً معتزاً، غير ذاكر، ولو لمرة واحدة، المكان الذي أتى منه اليها. كذا كان غوته مثلاً، أو شيلر، أو سواهما من الذين ضمّتهم فايمار فابتدأ التأريخ لحياتهم، أو لأدبهم، من وقت حلولهم فيها. ما زالت المدينة الصغيرة كما كانت في سابق عهدها تجمع الساكنين فيها تجميعاً فيصيرون، في جوها الهادىء مثل جو القرى، كأنهم في مقهى يقع في قلب برلين. وهؤلاء، القادمون، تحتاجهم فايمار الآن، وفي هذه السنة خصوصاً التي سمّيت فيها "العاصمة الثقافية لأوروبا". ذاك أن الندوات والمحاضرات والعروض والاحتفالات التي أعدت للمناسبة، والتي تملأ برامجها صفحات كثيرة كاملة، تحتاج الى جمهور لا نحسب أنه سيأتي كل يوم، وهذا التتالي اليومي هو في برامج العروض، من مدن أخرى بعيدة. أما أهل المدينة "الأصليين" فلم يكن علينا أن نبذل جهداً كبيراً حتى نلتقيهم. ليست بيوتهم بعيدة كثيراً عن معالم المدنية وقاعاتها ومسارحها الشبيهة بالقصور. خلف بيت غوته، بمحاذاة الطريق الضيقة التي تحد جداره الخلفي، كانت هناك بيوتهم، في ذلك القرب. وهم، في صبيحة النهار المشمس، أقاموا سوقاً في إحدى الساحات جعلوا يبيعون فيه تحفيات صغيرة من صحون وحلى وجلود لم تذكّر جميعها، لكونها جُهّزت للعابرين أو للمقيمين إقامات مؤقتة، ان ما نشاهده هو سوق لأهل مقيمين. على أي حال سيكون على فايمار، في سنة 1999 هذه، أن تحتفل، على صغرها، بالاحتفالين معاً: كونها عاصمة ثقافية، ثم بذكرى انقضاء 250 سنة على ولادة شاعرها غوته. وها هي تدمج المناسبتين معاً، وهذا ما فعله على أي حال مقررو سنوات الثقافة الأوروبيون. ثم ان المهمة لن تكون شاقة عسيرة على المنظمين ما دام أن ما هو مقام أصلاً لغوته، في أحياء المدينة وساحاتها، يكفي وحده للاحتفال. طبعاً ستضاف الى ذلك أشياء منها الكتب التي صدرت في عموم المانيا قارئة غوته، قراءات أخرى. هذه الكتب التي ربما سيكتفي بعرضها هنا في فايمار، الى جانب التماثيل الصغيرة ورسوم الجص الآنفة الوصف أعلاه. ذاك أن المدينة مشبعة بغوته وقد لا يكون المقيمون فيها، من قاصديها، محتاجين الى المزيد. بل قد يكون هذا شأن كثيرين في المانيا جميعها حيث، حين يتحول الشاعر الى أسطورة، ينغلق على القراءة، هكذا كأنه تمّ واكتمل ولم يعد يتسع لأي اضافة.