الصور نفسها نشاهدها في معظم شبكات التلفزيون العالمية ونستمع عبرها الى التقارير نفسها عن حرب الاطلسي ضد يوغسلافيا. الامر نفسه ينعكس في الصحف الدولية والعربية. ويتكرر المشهد في كل مرة تقود قوات غربية حرباً، وفي كل مرة يظهر نجم جديد او اثنان على الشاشات نفسها هو الناطق الرسمي باسم ابطال الحرب. حصل ذلك في الحرب المستمرة ضد العراق ويحصل حالياً في الحرب الاطلسية الجارية ضد يوغسلافيا. وبعيداً عما إذا كان الرئيسان العراقي صدام حسين واليوغسلافي سلوبودان ميلوشيفيتش مجرمي حرب ويستحقان الضربات ام لا، فإن القيم الصحافية الغربية ما تزال هي المُسيطرة على تغطية الحروب ضدهما، وتنسحب هذه التغطيات على شبكات التلفزيون والصحف العربية لتخفي مثل غيرها جوانب عدة يرغب اصحاب الحرب من الجانبين في إخفاءها، وعادة ما تظهر بعض من هذه الجوانب بعد فترة في شكل فضائح تُشكل لجان للتحقيق فيها، ويكون "الذي ضرب ضرب والذي هرب هرب". عن الحرب الاطلسية الجارية، ومنذ بدايتها يتمركز صحافيون دائمون في وزارتي الدفاع الاميركية واشنطن والبريطانية لندن، وفي مقرالاطلسي بروكسيل والبيت الابيض واشنطن ورئاسة الوزراء البريطانية لندن. كما يتنقل او يقيم مراسلون في بعض قواعد الاطلسي العسكرية الأساسية وعلى حاملات الطائرات التي ينطلق منها القصف، مثل قاعدة جويا دلكولي في ايطاليا التي تُقلع منها طائرات "هارير" البريطانية، وقاعدة افيانو الايطالية التي تنطلق منها طائرات "اف. 117. ستيلث" الاميركية، وحاملة الطائرات الاميركية "يو. اس. اس. غونزاليس". ويتجاوز عدد فرق الصحافيين ومساعديهم في هذه المواقع اضعافاً عدة عدد الصحافيين في موقع الحرب او قريباً منها. ويعني ذلك بوضوح ان مصدر الاخبار واحد مهما تعددت الوسائط، ويتيح ذلك امام الاطلسي فرصة إخفاء معلومات وحقائق لا يرغب في ان تظهر وتنكشف امام الرأي العام. وكثيراً ما يتنقل المشاهد بين خمس اقنية تلفزيونية أو أكثر ليطل عبرها شخص واحد يتحدث في مؤتمر صحافي يُبث مباشرة في شكل يُخيل للمشاهد ان ثمة عُطل في جهازه التلفزيوني الذي تبث كل اقنيته الشخص نفسه. وغالباً ما يكون هذا الشخص الناطق باسم البيت الابيض جو لوكهارت او باسم "البنتاغون" كينيث بيكون او باسم الاطلسي جيمي شي، وهذا الاخير صار فجأة من نجوم التلفزيونات العالمية. إلى ذلك، تظهر صور إقلاع المقاتلات نفسها من احدى القواعد في كل الشبكات التلفزيونية الرئيسية الاجنبية والعربية، وكذلك صور توزعها وزارات الدفاع في أي من دول الاطلسي عن كيفية تحديد هدف معين وقصفه والانفجار الناتج عن القصف، وكأن المشاهد اياً كانت خبرته العسكرية يستطيع ان يميز ما إذا كانت تلك الصورة الجوية للقصف استهدفت مصنعاً عسكرياً او مدنياً، وربما مدرسةً. أما عن الحقائق المخفية فستظل مخفية الى ان تظهر لسبب او لآخر بعد سنوات، لكن من بين الأمور الواضحة في حرب الاطلسي تصريحات كل المسؤولين فيه بأن "الناتو" يحقق نجاحات في تنفيذ اهدافه بالضربات الجوية، لكن احداً من الاعلاميين الغربيين لم يستجوب هؤلاء عن ان الهدف الرئيسي للضربات الذي هو حماية شعب كوسوفو لم يتحقق، وذلك بدليل ان الصرب يواصلون إبادة الكوسوفيين وقادتهم وتهجير الآلاف منهم الذين يوصلون لجوءهم الى الدول المجاورة. والسبب في ذلك واضح ولا يرغب الاعلام الغربي التركيز عليه وإثارته امام الرأي العام، وهو سياسة الاطلسي عدم توريط المشاة من قواته للحفاظ على ارواحهم وسلامتهم. لكن ماذا عن أرواح ابناء كوسفو وسلامتهم؟! والأمثلة على الحقائق التي تجاهلها الاعلام الغربي في حروب سابقة كثيرة نعرف منها ما كشفه الاعلام الغربي ذاته ولو جاء متأخراً، ومن بينها اكتشافه ان بعض افراد القوات الغربية التي شاركت في الحرب لانهاء ازمة البوسنة شارك في عمليات اغتصاب. وكذلك كُشف اخيراً ان عناصر من قوات "عملية إعادة الامل" في الصومال بقيادة اميركية ومشاركة غربية، نفذت عمليات اغتصاب لصوماليات وعمليات تعذيب وقتل عنصري شاهدنا بعض صورها أخيراً. وفي العراق ادى استخدام القوات الغربية اسلحة مضادة للدروع مغلفة بمواد مشعة الى إصابة الآلاف من الاطفال العراقيين بحالات تشوه، لم تتحدث عنها وسائل الاعلام الغربية سوى قبل شهرين. كل ذلك لا يبرر لصدام أو لميلوشيفيتش تعسفهما وديكتاتوريتهما وجرائمهما، لكن في هذه القراءة دعوة الى الاعلام العربي الى عدم نقل القيم الصحافية الغربية كما يمارسها الصحافي الغربي الى القراء والمشاهدين العرب، والى إثارة ما لا يرغب "الناتو" والصحافي الغربي إثارته. وعلى الجانب الآخر، وحتى لا نضع اللوم باستمرار على الاعلام الاجنبي، فإن انظمة توتاليتارية مثل العراق ويوغسلافيا تقدم اكبر خدمة للغرب عندما تطرد صحافييه او تقيد حريتهم في التحرك لتغطية الاحداث. وحصل ذلك الاسبوع الماضي في بلغراد عندما اصدر وزير الاعلام اليوغسلافي ماتيتش قراره بطرد كل الصحافيين الذين ينتمون الى دول الاطلسي. ونفذ الجيش أوامر الوزير باسلوب بشع انعكس في تقارير سلبية جداً ضد بلغراد، ناهيك عن خسارتها لاصوات كان يمكن تكشف حقائق ربما تكون في مصلحتها. وكان أول الصحافيين الذين طردوا مراسلة تلفزيون "بي.بي.سي. وورلد" في بريشتينا اورلا غيرين التي وصفت على الهواء كيف وجه عناصر الجيش مسدساتهم نحو رأسها وطلبوا منها الرحيل في اوج القصف ليلاً. وكذلك عبرت مراسلة "سي.ان.ان" الاميركية كريستيان امانبور عن استياءها بعد طردها من بلغراد. وقالت ان تهمة السلطات لها ولزملائها بالانحياز للغرب في تغطية الاخبار ربما ستصبح صحيحة بعدما حرموا من تغطية الجانب الآخر. وفيما اعتبرت السلطات اليوغسلافية الصحافية غيرين شخصاً غير مرغرب فيه في بريشتينا، اتهمت السلطات نفسها زميلها مراسل إذاعة "بي. بي. سي" في بلغراد نيك ثورب بانه جاسوس يرشد قوات "الناتو" الى اهداف داخل البلد. وإضافة الى خسارة بلغراد هذه الاصوات، فإن غالبية الصحافيين الغربيين يبذلون جهداً خارقاً لاقناع اي مسؤول يوغسلافي بالتحدث اليهم لابداء وجهة نظر بلادهم. وحدث الاسبوع الماضي ان قرر احد هؤلاء المسؤولين التحدث، وهو نائب السفير اليوغسلافي في لندن ميليساف بايتش الذي شاهدته يتحدث في يوم واحد الى سبع محطات تلفزيونية كنت اتنقل بينها وهي "سي.ان.ان" و "بي.بي.سي. وورلد" "وسكاي نيوز" و"نيوز -24" و"اي.تي.ان" البريطانية المستقلة، والتلفزيون الايرلندي والقناة الرابعة البريطانية، وتلفزيون "بي.بي.سي-1" البريطاني المحلي.