ينطوي كل إنسان في داخله على طاقة أعظم كثيراً مما يتصور. وليس هناك إنسان يخلو من هذه الطاقة التي تتمثل أحياناً في الموهبة، أو تتمثل في القدرة على استخدام العقل، أو الضمير أو الروح. ليس الانسان هو ابن العقل وحده، وليس هو ابن الموهبة وحدها، إنما الانسان مخلوق مركّب ومعقد ينطوي على آلاف القوى التي لا تظهر إلا عند الامتحان. ولعل أقوى ما يملكه النوع الانساني هو الحياة الباطنية، أو الحياة الروحية. ان الطير هو ابن الهواء، والسمك ابن الماء، اما الانسان فليس ابناً وحيداً للعقل أو القلب أو الحلم. لقد جاء الانسان أصلاً من طين الأرض، ولكن فيه روحاً نفخه الله تعالى فيه.. وبهذا الروح لم يعد الانسان مجرد مادة، ولم تعد حياته نسخة بالكربون لحاجاته الجسدية. وبهذا الروح تحول الانسان الى كائن يملك القدرة على تغيير الواقع حوله، ويملك القدرة على اداء دور الخلافة في الأرض، وهو دوره الاصلي الذي أعده الخالق له. يقول الفلاسفة: "أن تكون حراً فهذا لا شيء، أما أن تصبح حراً فهذا كل شيء". ومعنى ذلك ان الحرية لا تولد مع المرء، وانما تصنع بالجهد والمعاناة، وكل الصعاب التي توضع في طريق الانسان، هي نفسها هبات الهواء التي تشعل داخله المصباح المضيء وتؤدي إلى توهجه أكثر. وأخطر مرض يصيب الانسان هو مرض النوم اثناء السير، لا أتحدث عن النوم المعتاد، إنما أقصد نوم هذه القوى الروحية العظيمة.. و ما أتعس حظ الانسان حين تنعس روحه بينما جسده يتحرك ويمشي ويذهب ويجيء. ان الانسان يتحول عندئذ من مخلوق رائع وسيد للكون الى غرائز عدة تبحث عن إشباع نهمها.. وليست هناك قوة تستطيع ايقاظ الروح الانساني سوى العودة الى الله، وليس هناك ما يثير رغبة الانسان في الحرية الحقيقية سوى الايمان بالله.. إن الايمان هو أقصر الطرق الى الحب، وبغير الايمان والحرية والحب يظل الانسان صلصالاً يملك القدرة على الشكوى ولا يملك القدرة على أداء دوره. أحياناً ينظر الإنسان لعقله فيقول: ما اعظمني! فاذا نظر لغرائزة قال: ما اصغرني! وليست حياة النوع البشري سوى صراع بين هاتين النظريتين، وغرابة الانسان وسر تعقيده أنه مخلوق متعدد الزوايا والجوانب، وليست مبادئ الأديان في هدفها النهائي سوى محاولة للتوفيق بين عقل الانسان وغرائزه، وليس الرقي وقفاً على تحريك العقل وكبت الغرائز وإن كان التخلف هو اطلاق الغرائز وخنق العقل.. انما يصير المرء إلى الرقي الحقيقي حين يوازن بين العقل والغريزة، ومن خلال هذا التوازن يتقدم النوع الانساني. سأل أحد الملوك فقيراً زاهداً على صلة بالله - أي شيء استطيع تقديمه إليك؟ رد الفقير الزاهد: لا شيء أيها الملك.. لن تستطيع مساعدتي قال الملك وهو يحس بالدهشة: كيف لا استطيع مساعدتك؟ قال الزاهد: عندك سيدان هما خادماي. سأل الملك ودهشته تتعاظم: من يكونان. قال الزاهد العارف بالله: الغضب والشهوة.. يسودك الغضب وتحكمك الشهوة.. والاثنان من خدمي. هذه القصة بمعانيها الرمزية تريد أن تقول إن علو المقام في الدنيا ليس بالضرورة دليلاً على الرقي. إن الرقي احساس داخلي ينبع من الصلة بالله. وهذا الاحساس قد يكون ثمرة التعليم وقد لا يكون، وقد يجيء من التجارب الانسانية، وربما كان نوراً يقذفه الله في قلب العبد دون تجارب.. وفي قصة الزاهد مع الملك، تصور الملك لأنه حاكم غني يملك القدرة على التأثير في مصائر الناس، تصور أنه يستطيع مساعدة هذا الفقير البائس.. ثم أطلعه الفقير على حقيقة كان يجهلها الملك، أفهمه أن هناك عنصرين يتحكمان في الملك، بينما نفس هذين العنصرين يعملان كخدم عند الفقير الزاهد، ان الملك يغضب فيقوده الغضب الى التصرف، وهو يرغب فتدفعه الرغبة الى تحقيقها، بينما يغضب الزاهد ويشتهي فلا يتحرك طبقاً لغضبه أو رغباته، ليس الرقي اذن مقصوراً على أصحاب الجاه أو المال أو القوة أو التحكم في المصائر، وانما هذه كلها صور من صور القوة التي يمتحن الله بها عباده، الرقي شيء آخر تماماً، الرقي هو القدرة على إخضاع القوة للحكمة. وهو القدرة على التوفيق بين العقل والرغبة.