في النصف الثاني من الثمانينات بدأت الدراما التلفزيونية تخطو اولى خطواتها الواضحة نحو فعالية انتاجية مركّزة ونوعية، عبر سلسلة مهمة من الأعمال الدرامية قادها المخرج هيثم حقي على صعيدين، الاول تجربته الاخراجية، والثاني تجربته الانتاجية، وهذه الاعمال بشرت بتيار فكري وفني جديد يحاول التغلغل في الكثير من المناطق الحمراء - اجتماعياً وسياسياً - وهكذا كانت اعمال مأمون البني الذي قدم واحداً من اهم الاعمال في الدراما السورية "شبكة العنكبوت" إلى جانب بعض الافلام التلفزيونية المهمة كفيلم "اسبوعان وخمسة اشهر" ومن ثم مسلسل "اختفاء رجل". والمخرج محمد عزيزية الذي قدم المسلسل الأكثر شهرة "البركان" ومن ثم "قصة حب عادية جداً" و"اللوحة الناقصة". والمخرج باسل الخطيب الذي قدم اول افلامه التلفزيونية باشراف وانتاج هيثم حقي: "الرؤية الاخيرة" ومسلسل "الخريف". وكان هذا التيار ينضوي تحت لواء الواقعية، وهي هنا ليست تلك الواقعية الاشتراكية الجافة والمباشرة او التعليمية التي روج لها كثيرون في مختلف مجالات الأدب والفن العربي. انما هي تلك الواقعية التي قال عنها هيثم حقي بانها واقعية بلا ضفاف، مستمداً التسمية من غارودي. هذا التيار انضم اليه سريعاً بعض المخرجين المخضرمين الذين اسسوا منذ الستينات اللّبنات الأولى لهذه الدراما مثل المخرج سليم صبري الذي قدم مع هيثم حقي "قلوب خضراء"، وفي موقع قريب من هذا التيار وقف آخرون مثل محمد فردوس اتاسي الذي لا يزال يقترب تارة من هذا التيار، وينضم تارة اخرى الى التيار الكلاسيكي بجدارة. وأهم ما كان يميز هذا التيار الجرأة على اقتحام اساليب فنية تبحث في الاستخدام الهادئ المدروس للغة السينما في التلفزيون، سيما ان معظم المخرجين الذين تبنوا هذا التيار درسوا الاخراج السينمائي في كبريات المعاهد والأكاديميات العالمية، وحاولوا ايجاد نوع من المصالحة بين الفيديو والتلفزيون بعد ان ادركوا اهمية وخطورة جهاز التلفزيون الذي دخل كل منزل فيما تراجعت السينما، لا سيما في سورية، حيث الانتاج السينمائي على اهميته النوعية نادر، وكان استخدام هؤلاء لامكانات وميزات السينما في عملهم التلفزيوني هادئاً ومتدرجاً من عمل الى آخر. الأمر الثاني الذي كان يميز هذا التيار هو البحث عن نصوص تقارب رؤيتهم الفنية التي تسعى الى تقديم المتعة والمعرفة، هذه النصوص اخذت في ما بعد شكل الرواية التلفزيونية لأن المسلسل العربي كان يعتمد على القصة الممطوطة، اما الرواية فانها الأقرب الى المسلسل التلفزيوني بدليل ان معظم روايات القرن التاسع عشر المشهورة نُشرت على حلقات مسلسلة، وكانت البداية مع مسلسل "هجرة القلوب الى القلوب" للمخرج هيثم حقي الذي استعان هذه المرة بكاتب روائي هو عبدالنبي حجازي. هذا الأمر تكرر بصورة او باخرى في اعمال باقي المخرجين ممن اتخذوا هذا التيار طر يقاً وهدفاً. وميزت هذا التيار روح الحوار والنقاش والمعارك الفنية الشرسة التي خاضوها، ويبدو ان هيثم حقي حمل عبء هذه المعارك عن باقي زملائه، فخاض "الحروب" الفنية على جبهتين: الاولى من خلال اعماله التي قدم من خلالها رؤية جديدة وجريئة مثل "هجرة القلوب الى القلوب" و"دائرة النار" و"موزاييك" و"صور اجتماعية" و"ليل الخائفين". والجبهة الثانية من خلال معارك الصحافة، فهو لم يكتف بالحوارات التي كان يُدلي بها، بل انه تحول الى كاتب مدافعاً عن تياره بعناد وبالكثير من الحماس. ووقف على الطرف الآخر الممثل والمخرج هاني الروماني الذي طالما سخر من هذا التوجه، مؤكداً أن التلفزيون مستقل تماماً عن السينما، وان التلفزيون ولد وسيبقى في الاستوديو وفي اطار الحكاية التقليدية، وقدم اعماله ضمن هذا التوجه مثل "حد السيف"، اما باقي المخرجين انقسموا الى ثلاثة تيارات، الاول وهو التيار الكلاسيكي الذي انتمى اليه هاني الروماني من حيث العمل وانشق عنه من حيث المعارك النقدية التي خاضها، هذا التيار آثر الحفاظ على توجهه كما هو، معتبراً انه قام بالمغامرة الكبرى في بدايات التلفزيون أمثال غسان جبري وشكيب غنام وسليم موسى الخ، وتيار آخر ينتمي، زمنياً، الى البدايات.. مخرجو هذا التيار اعتمدوا الصمت لغة ووسيلة، لكنهم في الوقت نفسه ادركوا ان الزمن تاجاوز أعمالهم، فأما ان يسمحوا بذلك ويصبحوا في الخلفية من المشهد الفني، واما ان يسعوا الى مواكبة هذا الزمن من خلال المزيد من البحث والعمل والمغامرة، ووقف على رأس هؤلاء المخرج المخضرم علاء الدين كوكش الذي سعى من خلال مسلسله "ابو كامل" الى نوع من النصوص يشبه مشروع الرواية التلفزيونية، ومن ثم غامر وخرج بكاميرته خارج جدران الاستوديو للمرة الاولى في مسلسل "الأيام الصعبة". وبقي كوكش محتفظاً بحقه في البحث والتجربة وعدم الاستكانة. والمخرج محمد فردوس اتاسي يعتبر واحدا من مريدي هذا التيار حيناً ويقفز الى التيار الجديد، حسب نجاح او عدم نجاح عمله، مما يعني في النهاية انه لا يُلزم نفسه بمنهج واحد. أما التيار الاخير فلآنه تيار ما يسمى ب"يا ربي السترة" وهذا التيار يضم عدداً كبيراً من المخرجين الجدد الذين كان هدفهم الاول والاخير فرصة عمل، لذلك فان معظمهم قدم اعمالاً باهتة باستثناءات قليلة، وهؤلاء غالبا ما كانوا يميلون الى اتجاه هيثم حقي وجماعته كنظرية، لكنهم لم يقاربوا تجربتهم بسبب الفرصة المناسبة وبسبب امكاناتهم الفنية ايضا. الى هنا والمشهد الدرامي في سورية كان على عتبات انطلاقة استثنائية، فالساعات المنتجة راحت تتزايد عاماً بعد آخر، وكان هناك حرص شديد على النوعية، لأن المشهد الدرامي كان منتمياً الى مدارس فنية وفكرية عدة وكانت المعارك النقدية بين هذه المدارس تدور في اطار "حضاري" الى حد كبير، وحققت هذه الدراما قفزات مهمة، فحتى مطلع الستينات كانت هذه الدراما تحتفظ في جعبتها بالرواية التلفزيونية، الفانتازيا التاريخية، الانتاج الفخم، تنوع الاعمال من التاريخ الموثق الى الكوميديا من دون ان يسيطر نوع على آخر. وبدأ الرأسمال العربي يدخل ميدان الانتاج بالاضافة الى فتح الكثير من الأبواب المغلقة في المحطات العربية، ولكن ومع بداية التسعينات حدث انقلاب مفاجئ زعزع اركان هذا المشهد وشتت الكثير من المخرجين بين تيارات فكرية وفنية مختلفة، وذلك مع قدوم المخرج نجدة أنزور الى الساحة الفنية في سورية عبر أول أعماله "نهاية رجل شجاع".