هل اننا نعيش حقاً عصراً إعلامياً ذهبياً، أم ترانا نغالي في تصديق ما يزعمه زمننا هذا لنفسه على هذا الصعيد فنخال في تفوق امكاناته وتقنياته الاتصالية، وهي هائلة غير مسبوقة تفوقاً مماثلاً لها، متساوقاً معها، من حيث الأداء؟ أي بعبارة أخرى، هل ان امتلاكنا وسائل اتصال لم يقيض للبشرية في ماضي تاريخها حتى ان تحلم بها، يجعل منا أكثر اطلاعاً على ما يجري في أصقاع الأرضف بأفضل مما كان متاحاً للأجيال التي سبقتنا على الأقل منذ بروز وسائط الاتصال الجماهيري؟ ذلك سؤال لا يجب لتقنيات الإعلام الحديثة، وما تتسم به من مواصفات تبلغ درجة الادهاش، بل الاعجاز، حتى تكاد تستثير فينا شعوراً بالصغارة أمامها، أن ترهبنا، فنتهيب طرحه... بل ان عوامل عدة ربما دعت إلى الإقدام على هذا الضرب من المساءلة. أول تلك العوامل، وهو قد يكون مبدئياً، انه ربما تعين الحذر دوماً من الانطباعات والعودة إليها بالتمحيص التي تولدها حقبة من الحقب، وتشيعها بين الناس، فتستوي اقتناعاً راسخاً في الأذهان، له قوة البديهي وتمكنه اللذان يجحدان كل نسبية. ولا غرو في أن الإشادة بعصر المعلومات من بين أبرز ما تتفق عليه إنسانية اليوم مستهلكة كانت أم منتجة، وما يحتل عندها منزلة اليقين. ثم ان حركة الحداثة قد دأبت، في مختلف أطوارها، على اطلاق توصيفات لانجازاتها المتلاحقة، أحياناً ما تكون ايديولوجية، أي من قبيل تقريظي، وليست دوماً من طينة تشخيصية موضوعية. فخطاب الحداثة حول ذاتها، وحول ما تجترحه وما يسمها من سباق نحو تفوق مضطرد النجاح، هو في الآن نفسه علمي موضوعي، وتبشيري إشادي تبريري، يتمازج فيه هذان الوجهان ويلابس أحدهما الثاني، بحيث لا بد من الانكباب عليهما تمييزاً وتنخيلاً وإلا أصبح نقد الحداثة مستحيلاً إلا من مواقع رجعية ماضوية. وذلك، على أية حال، موضوع معقد شائك دقيق، سوف لن نخوض فيه في هذا المجال، مكتفين منه بما يرتبط بسؤالنا، حول ما إذا كان الحديث عما يتسم به هذا الزمن من ثراء معلوماتي، رصداً وتداولاً، يعاين واقعاً ماثلاً، أم أن في الأمر مبالغة، وأن الجنوح إلى التغني يتجاوز فيه جانب التقرير بكثير. بطبيعة الحال، يكون من قبيل المكابرة العقيمة، لفرط ما هي مجافية لواقع الحال، السعي إلى تبخيس التطور المدهش الذي طرأ أثناء العقدين الأخيرين على تقنيات الاعلام والدور الذي أصبحت تضطلع به في حياة معاصرينا، وذلك أمر معلوم مشاع بما يكفي عن الاسهاب فيه. ما يمكن ان يكون محل سؤال هو ما إذا كان ذلك الفيض من الصور والمعلومات التي تنهال يومياً على المستهلكين من كل حدب أو صوب، تأتيهم عبر التلفزيونات. وقد أصبح بالامكان مشاهدة العشرات منها وعبر انترنت، ذلك الذي بات الموصولون به يعدون بعشرات الملايين، إضافة إلى الاذاعات وما إليها من صحف، قد جعل الناس أكثر علماً بمجريات الأمور وأكثر معرفة بالأحداث على الأقل الدراماتيكية منها وبملابساتها وحيثياتها وتطوراتها بأكثر مما كانت عليه الحال في السابق؟ مناسبة الخوض في ذلك هي، بداهة، الحرب الدائرة في يوغوسلافيا، ووظيفة الإعلام فيها وحيالها. فالنزاع ذاك، خصوصاً أن القوى الغربية الضالعة فيه هي القوى الضاربة إعلامياً، وبالنظر إلى ما للحدث من أهمية، يحظى بتغطية استئناثية. ذلك ما لا مراء فيه ولا جدال. ولكن التغطية تلك، على ضخامتها وعلى كثافتها، تترك لدى المرء انطباعاً بالفقر من حيث المادة الإخبارية، صوراً كانت أم معلومات. فوسائل الإعلام، بما في ذلك التلفزيون، سلطانها غير المتوج، تكتفي في الغالب بإيراد ما يقوله، صريحاً أو تسريباً، المسؤولون السياسيون وقيادات الأركان. أما صور الحرب فهي تكاد أن تنحصر من يوم إلى يوم، في تلك الطوابير من اللاجئين من كوسوفو، الوافدين، وقد أخذ منهم الهلع والبرد والتعب والجوع إلى البانيا ومقدونيا، وجوه منهكة بائسة تجول بينها كاميرات المصورين دون كلل، خصوصاً أنها تمثل نافذتها الوحيدة للإطلال على ما يجري داخل يوغوسلافيا من فظاعات، توحي بها تلك الوجوه دون أن تحيط بها، استدلالاً على الغائب بالشاهد كما كان يقول المتكلمون. ليس من وثيقة عن الأعمال القتالية وآثارها، على الأرض، في ما عدا بعض الصور تأتي من وسائط الاعلام اليوغوسلافية، وتقابل بارتياب وبتشكك مشروعين، على اعتبار أنها من أعمال الدعاية. وفي ذلك ما يذكّر، وإن إلى حد، بحرب الخليج الثانية، فتلك الحرب التي عدت أول الحروب التقنية والإعلامية، وكرّست غلبة شبكة "سي. ان. ان" كأكبر وسيلة اتصال كونية، اتسمت كذلك بقصور اخباري بالغ، فهي قد كثرت فيها الصور والنقل المباشر، ذلك الذي يشعر المشاهد بأنه يتابع أطوار المواجهة لحظة بلحظة وفي ابانها. كل ذلك مشفوعاً بالخرائط وبالرسوم التوضيحية تزدان بها الشاشة، وبشروح الخبراء، من عسكريين وسواهم، لكن حصيلة كل ذلك اللغط اننا لم نكد نعلم من مجريات تلك الحرب، في حقيقتها، إلا النزر اليسير. ما الذي يبقى من قصف بغداد سوى تلك الصور المرتجفة، المائلة إلى الخضرة، والتي تتخللها ومضات قيل بأنها طلقات المدفعية العراقية المضادة للطيران. حتى تم تشبيه تلك الصور بألعاب الفيديو؟ وهل من صورة، أو من تحقيق وثّقا ملاحقة القوات العراقية خارج تراب الكويت، ودفن العديد من أفرادها أحياء في رمال الصحراء من قبل القوات الأميركية؟ إلى ما سوى ذلك الكثير. صحيح ان الرقابة قد فعلت فعلها، في الحرب اليوغوسلافية، كما في سابقتها الخليجية، وأنها قد حالت دون قيام رجال الإعلام بوظيفتهم، ولكن ذلك ليس بالأمر المستجد، وهو يصح على كل حرب، والعسكريون لم يرتضوا يوماً للصحافة بوظيفة غير تلك الدعائية، فما السر إذن في ذلك الفارق في نوعية التغطية الاعلامية بين حروب الأمس القريب وبين نزاعات اليوم؟ فما لا شك فيه أن الرأي العام كان أفضل اطلاعاً عما كان يجري في فيتنام. بالرغم من تواضع امكانات تلك الحقبة، حتى أن بعض الأعمال الصحافية، من تحقيقات أو من صور، ترسحت في الأذهان، وستبقى في التاريخ كبعض أبلغ الشهادات على فظاعات تلك المواجهة، فمن لا يذكر صورة تلك الفتاة الفيتنامية الراكضة على الطريق عارية بعد أن قُصفت قريتها بالنابالم ونالت النيران من جسدها الصغير؟ ومن لا يذكر صورة ذلك الجندي الأميركي الذي يطلق الرصاص في رأس أسير من مقاتلي الفيتكونغ، كان جاثماً أمامه على ركبتيه موثوق اليدين؟ حتى حرب الجزائر، وقد كانت أقدم عهداً نسبياً، كانت المعلومات، شهادات وصوراً، أوفى بشأنها وأكثر دقة. كأنما إعلاميو اليوم في الغرب، وهم مدججون بالوسائل التقنية، قد تبنوا، من حيث يدرون أو لا يدرون، عقيدة عسكريي وسياسيي بلدانهم في تعاطي الحروب من بعيد، فيتابعونها ويغطونها عن بعد. تماماً كما كان يخوضها هؤلاء عن بعد، بواسطة الطيارين وتقنيي الصواريخ، والقصف الجوي أو الصاروخي، طريقة وحيدة في قتال لا يجب أن يتخلله انغماس في الميدان وأوحاله أو غباره، وتلاحم مع عدو من لحم ودم، يتلقى الضربات ويوجهها، فينأى الاعلامي الغربي عن حمأة المواجهات تماماً كما ينأى عنها مواطنه العسكري، حتى بات يبدو ان تلك الفصيلة من الاعلاميين من المراسلين الحربيين، ممن كانوا يمثلون حتى وقت قريب ارستقراطية المهنة، قد انقرضت أو أصبحت آيلة إلى الإندثار. ربما عاد ذلك إلى الثقافة والقيم الغربية التي أصبحت سائدة في هذه الحقبة التي يسميها البعض ما بعد حداثية، والتي تتسم بالمتعوية وبالسعي وراء الترفيه والملذات وبالإعراض العنيد عن كل ما من شأنه أن يمثل ألماً أو معاناة أو ما يستجوب تضحية. مجتمعات الغرب الراهنة تمقت مشاهدة الفظاعة ولا تريد رؤيتها، سواء في داخلها أو في الخارج، حتى لو أدى بها ذلك إلى دفن رأسها في الرمال. يكفي أن نرى كيف بات يجري توصيف المشاكل والعاهات الاجتماعية في بلاد الغرب، أو عدا ذلك مما من شأنه أن يثير اشكالاً اخلاقياً أو سواه. فالمشردون يسمون "البدون سكن ثابت"، والاجهاض يسمى "قطعاً إرادياً للحمل"، والخادم المنزلي يطلق عليه "عامل مساحة" هذا في ما يخص فرنسا على الأقل، والزنجي يسمى "البلاك"، وهي كلمة، من خلال تشخيصها للون البشرة، تعتبر أكثر حيادية من عبارة "نيغرو"، أو ما ماثلها من العبارات المحملة بموروثات السباب العنصري. بطبيعة الحال، يبقى المشرد تائهاً ينام في الشوارع، ويظل الاجهاض يلابسه بعض الحرج الاخلاقي في مجتمعات ذات خلفية مسيحية مكينة، ويبقى الزنجي في أسفل السلم الاجتماعي... الخ، لكن تلك التسميات تتكتم على ما في المشاكل التي تتعلق بها من عناصر فظاعة أو ازعاج أو حرج لا تريد لها مجتمعات المتعة أن تعكر عليها مزاجها. وهي لذلك تطلق على المشاكل الاجتماعية أو الإنسانية اصطلاحات من طبيعة تقنية، فتعمل بذلك على تحييدها، وتعبر، من وجه آخر، عن تفاؤلها بإمكانية حلها. أليست كل مشكلة تقنية، في عصر التكنولوجيا هذا، قابلة للتذليل؟ تلك، على أية حال، ظاهرة، أسهب في تناولها بعض كتّاب ما بعد الحداثة. ولعل تلك الثقافة، وذلك السلوك، هما ما يفسر حروب الغرب الحالية وطريقة خوضها، فمجتمعات المتعة، ما بعد الحداثية أو مهما كان اسمها، تستفظع الحروب. وهي إن اقتنعت بضرورة خوضها، فإنها لا تريد لأبنائها أن يكونوا من ضحاياها، ولا تريد أن ترى مشاهدها إلا كناية وتلميحاً. لا أحد يريد أن يرى ما يرتكبه ميلوشيفيتش في كوسوفو من جرائم عرقية، إلا على وجوه اللاجئين في ألبانيا ومقدونيا. ففظاعات الحرب لا يجب أن يعيشها إلا الآخرون ولا يجب لمجتمعات المتعة أن تعيشها إلا بالواسطة، فتتأثر لها عميق التأثر. أما عن امكانية سقوط ضحايا أبرياء من الصرب، يؤخذون بجريرة ديكتاتورهم، فذلك ما لا يدور في خلد أحد ولا يدخل في أي اعتبار. فحتى تكون صورة الحرب التلفزيونية جلية ومريحة، فإنه لا بد أن يقوم خط فاصل صارم بين من هم ضحايا بإطلاق ومن هم أشرار بإطلاق. وإذا كانت مجتمعات المتعة قد وجدت بذلك، وبالتواطؤ بين مسؤوليها السياسيين والعسكريين وبين إعلامييها، طريقة مثلى في خوض الحروب، دون تجشم فظاعاتها بأم العين، إلا أنها بذلك ربما فقدت قدرتها على الإدانة والاستنكار، تلك التي كانت في ما مضى من بين أبرز مظاهر حيوية ديموقراطياتها ومن وسائل فعل رأيها العام في مجريات الأحداث والتاريخ، وكانت تجعل منها موقعاً إنسانياً متقدماً على الصعيد الاخلاقي. ولعل البلادة المتعوية التي أصبحت تنيخ على تلك المجتمعات، هي التي تفسر اللامبالاة تجاه معاناة العراقيين من جراء الحظر، وهي التي تحول دون التدخل البري في كوسوفو، علماً بأنه السبيل الوحيد لحماية سكانه، وهي الكامنة وراء تلك المباركة العمياء للقصف الجوي ضد يوغوسلافيا، وكأن كل الصرب ميلوشيفيتش، وكأنه ليس في ذلك البلد شيخ أو رضيع أو امرأة. * كاتب تونسي مقيم في فرنسا