ان الحفاظ على التراث يجب ألا يشكل غاية في ذاته فحسب، بل يجب أن ينفتح على ابداعي لنجعل من التراث العالمي منطلقاً للحضارة والثقافة الحية ومنبعاً تنهل منه جميع القوى الإبداعية". هذا ما خلص اليه باحثون شاركوا في مؤتمر جمعية بيروت التراث الدولي الثاني "أضواء على المدائن الأثرية والحضارية في العالم العربي". والمؤتمر الذي استغرق عقده يومين في "بيت الأممالمتحدة" اسكوا في بيروت، افتتحه رئيس الحكومة اللبنانية سليم الحص وتحدث فيه وزير الثقافة والتعليم العالي محمد يوسف بيضون، وذلك لاندراجه في نشاطات "اعلان بيروت عاصمة ثقافية للعالم العربي للعام 1999". وشارك في المؤتمر باحثون كثر منهم الدكتور نقولا زيادة وسكرتير "لجنة كتابة تاريخ العرب" في جامعة دمشق محمد محفل وموسى مخول والدكتور حسين صايغ ورئيسة قسم الدراسات الشرقية في جامعة البيرت لودفينغ - المانيا مارليس هانزه. وتناول الباحثون محاور عدة منها "ثقافة الآثار" و"تراث بلاد الشام الأثري، سماته ودلائله من الأصول حتى سقوط بابل سنة 539ق.م" و"أرض كنعان - أرض الحضارات" و"فن العمارة الإسلامية" و"من التراث العالمي". وجاء في التوصيات الختامية للمؤتمر ان بعد النقاش تأكد للمؤتمرين "أن دراسة الآثار ومعرفة التراث تدعم لدى الإنسان الشعور بالانتماء الى الحضارة الإنسانية، وتغذي فيه روح التسامح والتضامن والتآزر بين الثقافات والشعوب، وتدعو الى الحوار بين الحضارات عوضاً عن التناحر والتصادم. وهو أمر لا يتناقض بالضرورة مع حب الوطن والنضال من أجل ابراز المخزون الحضاري المدعم للذات العربية والمعزز لهويتها". كما وجد المؤتمرون أن "تعزيز مبدأ الحوار والوفاق بين الحضارات لا يمكن أن ينحصر في دراسات محددة وثقافات اقليمية معينة، في عالم يخوض مرحلة إزالة الحواجز باتجاه العولمة، حيث تتضاعف الاتصالات كل يوم، وعلى جميع الأصعدة. إذ ازدادت معرفتنا بالحضارات والثقافات عمقاً وشمولاً. وتنوعت المشكلات المطروحة في اطار صون التراث المادي وإحيائه، أو بمعنى آخر التراث الأثري والفني للشعوب، ما بين مشكلات تقنية ومالية، أثرية وتاريخية، متحفية وقانونية. كما أن الوعي بأهمية الآثار وابرازها قد نما نمواً مضطرداً خلال الأربعين سنة الأخيرة، ولا سيما بفضل الحملات الدولية والوطنية لانقاذ روائع التراث العالمي". وأضافت التوصيات "لكن هذه المعارف والجهود لا تزال في مراحلها الأولى في العديد من البلدان، حتى المتقدمة منها. وما زالت الاستقصاءات والتقنيات عن التراث مشتتة". وشدد المؤتمرون على "ان الحفاظ على الآثار يجب ألا يشكل غاية في ذاتها فحسب، إنما يجب أن ينفتح على فعل إبداعي إذ من خلال ذلك نجعل من التراث العالمي منطلقاً للحضارة والثقافة الحية، ومنبعاً تنهل منه جميع القوى الإبداعية". واعتبر المؤتمرون أن "بقدر ما للتراث من أهمية لا تزال العقبات التي يصادفها العمل المحلي والدولي قائمة ومتفاقمة بمقدار ما يتسع مفهوم التراث ذاته في المكان والزمان. فالميزانيات الأثرية تعتبر الأدنى في أكثر ميزانيات دول العالم إذا ما قيست بغيرها من الميزانيات التنموية، وأكثرها لا يكفي اطلاقاً لصون الآثار والمعالم التاريخية وخصوصاً في البلدان النامية. حيث لا يدرج معظمها برامج انقاذ هذه الآثار في سياساته الإنمائية الوطنية. هذا اضافة الى قلة إسهام القطاع الخاص بالجهد المبذول في الحفاظ على هذه الآثار وصون معالمها نظراً لضعف الوعي الأثري لديه، وللقصور الواضح في المعلومات التي تقدم للمواطنين على المستوى التربوي والتثقيفي". أما بالنسبة لبيروت فقد تبين "أن الحفريات التي أجريت فيها خلال تأهيل الوسط التجاري للمدينة قد أظهرت أن ثمة مواقع أثرية كثيرة تشمل فترات ومراحل تاريخية متعدّدة ومتنوعة. الأمر الذي يعني أن هناك صفحات من تاريخ بيروت ما زالت غير معروفة وغير محددة بدقة، مما يتطلب سعياً دؤوباً لمواصلة الدراسات والتنقيبات الأثرية ونشر نتائجها والمحافظة على المواقع المهمة التي تم اكتشافها، وقد صدرت توصية بهذا الشأن من اللجنة العلمية الدولية لليونسكو، وهذا كله إذا ما تم خدمة أساسية للمعرفة التاريخية والأثرية ويرفد الجهود العالمية في هذا المجال على أوسع نطاق لتحقيق هذا الهدف. ولذلك نقترح تصنيف بيروت من المواقع التراثية المتميزة وإدراجها ضمن قائمة التراث العالمي". وبناء على هذا كله خلص المؤتمر الى الآتي: 1 - تصنيف بيروت ضمن المواقع الأثرية المهمة التي ينبغي أن تندرج في سجل التراث العالمي لأهمية ما اكتشف فيها من آثار في المرحلة الأولى ولاستمراريتها. 2 - انشاء متحف خاص بآثار كامد اللوز وجوارها في البقاع الغربي لأهمية اكتشافات الموقع الحالية ضمن خطة شاملة ومتكاملة للدولة بإنشاء متاحف محلية في جميع أنحاء المناطق اللبنانية. 3 - تعزيز البحث والتنقيب وأعمال الترميم في المواقع الأثرية التي تعود الى تاريخ لبنان الوسيط في بيروت. وتشجيع البحوث العلمية الأثرية وتعزيزها لإماطة اللثام عن فترات تاريخية مجهولة للمواقع الأثرية في لبنان، وتفعيل مسافات الثقافة الأثرية في كل مراحل التعليم، من خلال معاينة الأجيال للمواقع الأثرية والتردد على زيارتها والعمل على الإسراع لإصدار: مقرر كتاب التاريخ في لبنان حسب البرنامج الذي أقرته وزارة التربية اللبنانية والمركز التربوي للبحوث والإنماء، بما يساعد على تماسك اللحمة بين أبناء الوطن وتركيز الهوية القومية والوطنية. تحديث قانون الآثار وانشاء صندوق وطني لدعم التراث. 4 - العمل على استعادة الآثار الوطنية التي تسربت الى الخارج بصفة غير شرعية. 5 - العمل على مكافحة عوادي الزمن واعتداءات الإنسان كأضرار التلوث وتخريب البيئة وضرورة تفادي سلبيات التخطيط الحضري وسوء السيطرة على التكنولوجيا الحديثة. 6 - المساعدة على إزالة العوائق التي تعرقل الجهود في الوطن العربي من بينها قصور الموارد البشرية والسعي الى إنشاء وتطوير مراكز البحث والتدريب في ميادين التراث الثقافي وإبراز معالمها. 7 - احترام وتطبيق الاتفاقات والتوصيات الخاصة بحماية التراث. 8 - ضرورة وأهمية تنسيق الجهود العربية في مجالات البحث وتكامله من خلال انشاء وتنشيط مجلس عربي للمعالم والمواقع، على أن تبادر جمعية بيروت التراث بالدعوة الى قيام هيئة تأسيسية تسعى لتحقيق هذا المشروع خلال مدة زمنية محددة، يكون من نواته ممثلوا الدول العربية المشاركة في المؤتمر على أن تكون بيروت مقراً لهذا المجلس. 9 - سعياً الى إرساء أسس تعاون ومؤازرة وتبادل خبرات بين العاملين في مجالات المحافظة على التراث وابراز معالمه، يوصي المؤتمرون بعقد اتفاقيات توأمة بين الجمعيات المختصة في البلدان العربية، والمبادرة الى وضع أسس للتوأمة بين جمعية بيروت التراث وجمعية صيانة مدينة تونس. 10 - العمل على إنجاز برامج توعية تبث عبر وسائل التواصل والإعلام المسموع والمرئي، وتدعو الى الحفاظ على الآثار وصيانتها وأهميتها في تاريخ الأمة وفي تعزيز الانتماء الوطني والقومي. 11 - الطلب الى اتحاد الجامعات العربية التعميم على جامعات الوطن العربي التي لم تفتتح أقساماً للآثار فيها، أن تبادر الى هذا الافتتاح لأهمية ذلك في تأهيل الأطر الكفية من أبناء الأمة تتولى مهمات التنقيب عن الآثار وصيانتها وإجراء البحوث في هذا الصدد. 12 - الطلب الى كليات الآداب في جامعات الوطن العربي أن تعمل على تدريس اللغات والنقوش القديمة في أقسام اللغات فيها، نظراً لأهمية ذلك في تعرف الحقب التاريخية وآثارها بروح من الموضوعية والتجرد. 13 - العمل على تعزيز نشر التراث في وزارات الثقافة العربية، وتحقيق المخطوطات العربية المنتشرة في مكتبات العالم، بغية تعريف أبناء الأمة بها. 14 - العمل على استصدار التشريعات الناظمة للحفاظ على الآثار في كل بلد عربي، وفرض العقوبات الرادعة بحق المخالفين حفاظاً على كنوز الأمة وصوناً لحضارتها. يتمنى المؤتمرون على جمعية بيروت التراث أن تتابع تنفيذ هذه التوصيات في ضوء إمكاناتها المتاحة على أن تعرض نتائج ذلك في مؤتمر قادم.