البداية دائماً ودموع وآهات ساخنة على طريقة عبدالحليم حافظ لكن الحقيقة دائماً مُرة، فما أن يتوج الحب بالزواج حتى يسقط الحبيبان من سماء الهيام الى أرض الالتزامات والواجبات فيجد كل منهما أن كل الحب الذي عاشه مجرد سراب ليس له أي ظل في الزوجية، وعندها فقط يصرخ بأعلى صوته، "منك لله يا عبدالحليم"!! أول هدية تلقيتها منه كانت شريط كاسيت لأغنية "حبيبتي من تكون" لعبدالحليم وكان ذلك بعد أقل من شهر علىلقائنا الاول، أخذته منه بعد أن رجاني أن استمع إليه ثم أناقش معاني الاغنية معه في اليوم التالي، وحينما عدت الى بيتي وأدرت الشريط وجدت صوت عبدالحليم ينطلق بمقطع معين من منتصف الاغنية هو "فحرصي عليك كحرص نفسي على الحياة أن تكون"، وأدركت أن فتاي ضبط الشريط عند هذه الجملة ليوصل لي من خلالها رسالة حب فهمتها وحلقت معها في سماء الأحلام الوردية، وهكذا اختصر هذا الموقف الكثير في علاقتي بفتاي، خصوصاً بعد أن ناقشته في اليوم التالي في الاغنية ومعانيها وأفهمته ان الرسالة وصلت وقبلتها. بعد أيام صارح كل منا الآخر بمشاعره وسرنا معاً مشوار الحب حتى توجناه بالزواج. هذه هي قصة ارتباط أماني عاطف 26 عاماً بزوجها. لكن، كيف سارت بهما الحياة بعد الزواج؟ وهل وجداها تصويراً صادقاً لما عاشاه في أغنيات حليم؟ تجيب أماني بصوت تعلو فيه نبرات الغضب والاحباط: بعد الزواج وجدت أن الحياة مع الرجل الذي حلمت باليوم الذي يجمعني به مكان واحد اصبحت روتينية ومملة، فهو مثل كل الأزواج يخرج في الصباح لعمله وعندما يعود يطلب الطعام ثم يدخل لينام، وبعد استيقاظه في بدايات المساء يجلس لمشاهدة التلفزيون أو يخرج لزيارة الاقرباء، إنني أنظر إلى حالي فتمتلىء عيناي بالدموع. أين الكلمات الحالمة والمشاعر المتدفقة والقلب الذي كان يذوب حباً؟ أين حياتنا الآن من الحياة التي رسمناها مع اغنيات عبدالحليم؟! وهنا رواية اخرى مع اغنيات عبدالحليم تحكيها بطلتها السيدة هناء سعيد 32 عاماً والحكاية بدأت منذ حوالي خمسة أعوام قضت هناء أربعة منها في حالة سعادة مع حبيبها منذ ان تعرفت به مروراً بفترة الخطوبة وحتى تاريخ الزفاف، تقول: التقيت زوجي للمرة الاولى في أحد المطاعم الراقية حيث كنت موجودة مع عدد من صديقاتي لتناول العشاء وكان هو مسؤولاً عن المطعم، وفي أول زيارة تبادلنا حواراً عابراً انتهى بأن أعطيته رقم هاتفي، ومن الاتصالات الهاتفية تعمقت علاقتنا ثم صار يدعوني الى المطعم، وخلال وجودي يوحي الى الفريق الغنائي الموجود للترفيه عن ضيوف المطعم بغناء أغنيات معينة لعبدالحليم، ويشير اليّ عند الجملة التي يقصدني بها. وما زلت اتذكر تلك الأوقات والاغنيات، فأول أغنية كانت "باحلم بيك" وفيها يقول لي: "قد ما عمري يطول يا حبيبي هاستناك على طول يا حبيبي، يا للي محدش قال لك على الشوق إللي انا فيه، بكره الشوق يوصل لك وتجرب لياليه"، وفي يوم آخر قال لي: "سنين تفوت ما نحس بوجودها ولا وجودنا، ولحظة حب عشناها نعيش العمر تسعدنا، ومين ينسى ومين يقدر في يوم ينسى ليالي الشوق ولا نارها وحلاوتها، ولا أول سلام بالأيد، ولا المواعيد ولهفتها"، و مع كل كلمة كان خفقان قلبي يزداد، وشعرت بأنني اذا لم اتزوج حبيبي هذا سأموت، وبالفعل تم الزواج لكن بمرور الوقت تشاغل زوجي عني لدرجة ان اغنيات حليم التي كان يرسل لي من خلالها رسائل حبه المتدفق اصبح لا يهتم بسماعها بل ربما يغلق الكاسيت او الراديو ليستطيع النوم في هدوء، وهكذا وصلت الأمور الى الحد الذي جعلني اتساءل: اين ذهبت الرومانسية من حياتنا وكيف تحول من كان حبيبي الى مجرد زوج روتيني؟! وغير قصتي أماني وهناء هناك مئات من حكايات الحب والزواج التي كانت اغنيات عبدالحليم فيها دستوراً عاطفياً تسير وفقاً لبنوده العلاقة بين الفتى وفتاته بشكل لا يتسع المجال هنا لذكره بالتفاصيل وانما نقول عموماً ان الرومانسية التي عبر عنها عبدالحليم في اغنياته تمثل الشكل الامثل للعلاقة بين أي حبيبين، ولهذا أصبحت تلك الاغنيات قاسماً مشتركاً في كل قصص الحب. فمن هذا الذي لا يتمنى ان يعيش حبيبه حالة "لو كنت يوم أنساك إيه افتكر تاني" أو من الذي لا يريد أن يشعره حبيبه بأنه "حبه مالي كل لمحة من وجوده وأنه ابتسامته ودمعته وفرحة شبابه ولون خدوده"؟ وأنا شخصياً أعرف شاباً أضاع من يديه فتاة يحلم بها أي شاب، لا لشيء إلا لأنه كان متقمصاً الأدوار الحزينة لعبدالحليم، وكان يعشق اغنيات "في يوم في شهر في سنة" و"موعود" و"رسالة من تحت الماء" و"مشيت على الاشواك". وعندما ارتبط عاطفياً بتلك الفتاة لم يصدق ولم يعمل على أن تنتهي علاقته بها بالزواج، لأن كل قناعته ان الايام والزمن ضده، ولهذا ابتعد وسلم نفسه لأحزان عبدالحليم، حتى قررت الفتاة الارتباط بغيره. ولعل هذا السلوك يدفعنا للتساؤل: هل هؤلاء الأشخاص مرضى نفسيون، أو بمعنى أدق: هل التحليق في الخيال وتصور سيناريوهات تطرحها الاغنيات العاطفية مهما بلغت درجة توحدنا نوع من الاختلال النفسي؟! هذا ما يجيبنا عنه الدكتور محمد شعلان استاذ الطب النفسي في جامعة القاهرة، ولكن بعد أن نعرف رأي الشاعر عبدالرحمن الابنودي الذي يمكن ان نقول انه شارك ككاتب اغنية بقدر ما في مأساة هؤلاء المعذبين. يقول الابنودي: الحقيقة، أنا متابع لهذه المسألة منذ فترة طويلة وحاولت ان أجد تفسيراً لها، فكيف يمكن لأي شاب أو فتاة أن يبني حياته على أساس من كلمات الاغاني؟ وسبب انشغالي واندهاشي انني كإنسان اعيش الحياة بكل تفاصيلها. اعرف أن مسألة الرومانسية الحالمة والتحليق في فضاء العواطف ليست إلا ومضات في حياة أي إنسان، إذ لا يوجد ذلك الشخص الذي يعيش 24 ساعة في يومه في حالة من الهيام والعشق، كما أن الحياة ليست حباً وغراماً فقط، وانما هي مسؤوليات وأعباء وطموح وهموم وأشياء أخرى كثيرة أيضاً، فالتعبير عن الحب من زوج لزوجته لا يقتصر بالضرورة على تسبيل العيون لأن هذه حال المحبين الذين يلتقون سويعات اسبوعياً ثم يذهب كل منهما لحال سبيله. وفي الزواج يأخذ التعبير أشكالاً مختلفة منها مساعدة الرجل لزوجته وكلامه الطيب. ويكفي أن اقول انني حتى الآن لم أكتب قصيدة حب في زوجتي على رغم مرور سنوات عدة على زواجنا، لكن أزعم ان تصرفاتي معها عبارة عن مجموعة قصائد حب. الدكتور محمد شعلان وضعنا أمام الحالات والآراء ليتولى تحليلها يقول: لست معك في أن الشباب الذين يغرقون في الحب على طريقة عبدالحليم حافظ أو حتى هؤلاء الذين يتصورون أنفسهم مكانه في الأفلام التي مثلها هم مرضى نفسيون، أولاً لأن التوحد مع شخصية فنان تحبه وترى أنه يعبر عنك وعن أحلامك وآلامك ليس عرضاً مرضياً وإنما هو انعكاس لدرجة الخيال التي يمتلكها البعض. وزيادة درجة التوحد مرتبطة ارتباطاً طردياً بدرجة الخيال، كما أن هذه الحالة تأتي لمعظم الشباب في بدايات تحولهم من مرحلة الصبا الى الرجولة أو ما نسميها بفترات المراهقة ثم بدايات العشرينات. ولعل الدليل على هذا الحالات التي عرفتها عن اشخاص في مثل هذا العمر، أيضاً فإنك اذا بحثت عن شاب تجاوز الثلاثين ستجده يبحث عن مواصفات منطقية في عروسه بعيداً عن رومانسيات عبدالحليم، وهذه هي القاعدة التي لا تمنع أن تستمر الحالة مع بعض الأشخاص، خصوصاً أصحاب الحس الرقيق والمرهف الذين يميلون في طبيعتهم للرومانسية. نأتي للمشكلة التي تحدث، وهي صدمة هؤلاء في الشكل الذي تؤول إليه حياتهم الزوجية. ورأيي أن المشكلة تكمن في التفسير الخاطئ وعدم قدرتهم على تطويره بالشكل الذي يتناسب مع ظروف الحبيبين، فمثلاً وسائل التعبير عن الحب بعد الزواج تختلف تماماً عنها قبل الزواج لأسباب عدة، أهمها أن الحبيبين بعد الزواج يلتقيان فترات طويلة يومياً بعكس ما قبل الزواج، وليس مقبولاً أن يستمر الحب بشكله الرومانسي الحالم إلى ما بعد الزواج وإنما يأخذ أشكالاً أخرى، فمن الممكن أن يفاجئ الزوج زوجته بباقة ورد أو هدية بسيطة كل فترة، وهذا يعد أحد أشكال التعبير عن الحب، أيضاً مساعدة الرجل لزوجته في تحمل أعباء المنزل والأولاد تعبير عن الحب.