تهتم الدول المتحضرة اهتماماً كبيراً بتأسيس الأرشيفات واقتناء الوثائق والعناية بها حفظاً وتصنيفاً ليفيد منها الباحثون في شتى المجالات. وتزداد قيمة الوثائق في الدراسات الأكاديمية المعاصرة كونها ركيزة من ركائز البحث التاريخي، ومصدراً أولياً يستطيع الباحث من خلاله معرفة الجوانب الأساسية المتصلة بموضوع بحثه. ولأن الباحثين في تاريخ المملكة العربية السعودية يعانون من ندرة الوثائق داخل المملكة، خصوصا فيما يتصل ببداية مرحلة التأسيس حينما كان الملك عبدالعزيز ورجاله منشغلين بحروب التوحيد عن بناء مؤسسات الدولة، وحينما كان التعليم في بداياته، والكتابة غير شائعة، والسجلات معدومة. وأغلب الوثائق المتوافرة عن تلك الفترة المبكرة تأتي من مصادر أجنبية قد لا يتيسر لكثير من الباحثين الإفادة منها، إما بسبب الحاجز اللغوي أو لوجودها في أماكن بعيدة يصعب الوصول إليها. ولسد هذه الحاجة الملحة قامت دار "الدائرة للنشر والتوثيق" باصدار اول عمل موسوعي عنوانه "الملك عبدالعزيز آل سعود: سيرته وفترة حكمة في الوثائق الأجنبية". تهدف الموسوعة الى تقديم ملخصات عربية للوثائق البريطانية والفرنسية والاميركية المتعلقة بحياة الملك عبدالعزيز وتاريخ المملكة العربية السعودية في عهده 1902-1953م، وتوفيرها للباحثين والمهتمين لتكون عونا لهم في أبحاثهم وكتاباتهم. ولا شك في ان إصدار موسوعة وثائقية تحكي تاريخ المملكة العربية السعودية إبان فترة حكم الملك عبدالعزيز آل سعود يمثل تجربة رائدة في مجال النشر، ليس على نطاق المملكة وحدها وانما على نطاق الوطن العربي. فالمعتاد أن تقوم بمثل هذه الأعمال الكبيرة مؤسسات حكومية أو جهات رسمية لا مؤسسات خاصة. لهذا التقت "الحياة" مدير عام دارالدائرة للنشر والتوثيق الدكتور سعد الصويان للحديث عن هذا المشروع المميز. اولا لماذا الوثائق البريطانية والفرنسية والأميركية؟ - وقع الاختيار على الوثائق البريطانية والفرنسية نظراً الى عراقة العلاقات الديبلوماسية القائمة بين دولة الملك عبدالعزيز آل سعود وبين هاتين القوتين الأوروبيتين اللتين كان لهما حضور ملموس في منطقة الجزيرة العربية خلال الفترة من 1883 الى 1955م، إذ يرجع تاريخ وجود القنصليتين البريطانية والفرنسية في جدة الى ما قبل عام 1825م. واود ان اشير الى ان أول وزيرين مفوضين وجههما الملك عبدالعزيز لتمثيله على المستوى العالمي كانا حافظ وهبة في لندن سنة 1930م، وفؤاد حمزة في باريس سنة 1939م" مما يضفي أهمية خاصة على محتويات خزائن الأرشيفات البريطانية والفرنسية بالنسبة إلى تاريخ المملكة العربية السعودية. وتحظى الوثائق البريطانية بأهمية خاصة، نظراً إلى الوجود البريطاني المبكر والمكثف على ساحل الخليج العربي، ومن هناك كانت السلطات البريطانية تراقب الأحداث في نجد عن كثب وباهتمام بالغ. وكانت علاقة الملك عبدالعزيز مع بريطانيا في مقدمة علاقاته مع القوى السياسية الدولية الأخرى. لذلك نجد وثائق الأرشيفات البريطانية تغطي عهد الملك عبدالعزيز منذ بداياته الأولى، بل منذ وجوده مع أبيه وعائلته في الكويت، وهذا ما لا يتوافر في المجموعات الوثائقية الأخرى. ولما اندلعت الحرب العالمية الأولى، وتدخلت بريطانيا عسكرياً في أجزاء عدة من العالم العربي، تعاظمت أهمية الجزيرة العربية بالنسبة إليها وإلى مصالحها، وأصبح اهتمامها بالشؤون الداخلية للدول العربية أكبر بكثير مما كان عليه من قبل، خصوصاً في سعيها إلى القضاء على الإمبراطورية العثمانية والتصدي لأي نفوذ ألماني، وبدأت تعمل على كسب الأصدقاء ودفعهم إلى التحالف معها في وجه من اعتبرته عدوا مشتركا. ولما كانت بريطانيا، باعتبارها دولة انتداب أو وصاية أو حماية، مسؤولة عن الشؤون الخارجية لمعظم الكيانات العربية المحيطة بالمملكة العربية السعودية، فإن الوثائق البريطانية تمثل المرجع الأول بالنسبة إلى علاقات الملك عبدالعزيز آل سعود مع تلك الكيانات. ناهيك عن الحالة التنظيمية الجيدة للأرشيف البريطاني، والسهولة النسبية في الحصول على الوثائق من هناك، وكثرة ما نشر من هذه الوثائق. أما فرنسا فيعود اهتمامها بالجزيرة العربية عموماً وبمنطقة الحجاز على وجه الخصوص إلى أنها كانت تعتبر نفسها قوة إسلامية عظمى بحكم كونها دولة مستعمرة تحتل الجزائر وتفرض الوصاية على تونس والمغرب وتمارس الانتداب على سورية ولبنان. وكانت تعتقد بأن من مهامها متابعة شؤون رعاياها المسلمين الذين يرتادون الديار المقدسة بأعداد كبيرة في موسم الحج من كل عام. وازداد اهتمام فرنسا بالمملكة منذ أن دخل الملك عبدالعزيز آل سعود الحجاز، لما كان له من مكانة كبيرة ليس في الجزيرة العربية فحسب بل في سائر الدول العربية والإسلامية. وقد وجدت فرنسا في دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب تهديداً لنفوذها في سورية، إذ تجاوز تأثير هذه الدعوة حدود الحجاز ونجد، وبلغ القبائل السورية الخاضعة للانتداب الفرنسي، فعملت جاهدة على مناهضتها. بيد أن هناك سبباً آخر للاهتمام الفرنسي بالمملكة يتمثل في التنافس القديم بين فرنساوبريطانيا وإيطاليا على المنطقة، ما دفع فرنسا الى أن تراقب عن كثب تحركات منافستيها في الجزيرة العربية. أما الوثائق الاميركية فتنبع أهميتها من اهتمام الولاياتالمتحدة بالمنطقة بعد اكتشاف النفط فيها، ومنح امتياز النفط في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية إلى شركة اميركية. وانعكس هذا الاهتمام على الدور الذي اضطلعت به الولاياتالمتحدة الاميركية في مشاريع البنية التحتية، ومشاريع الري والزراعة في المملكة منذ أواخر العقد الرابع من القرن العشرين. لكن هناك وثائق في دول اخرى تستحق الاهتمام ايضا؟ - نحن نعلم أن هناك وثائق أخرى مهمة في الأرشيفات الإيطالية والألمانية وغيرهما، وقد رأينا أن العمل في كل تلك الوثائق معاً سيكون عملاً ضخماً يتجاوز حجمه طاقتنا وإمكاناتنا، فيعرقل العمل أو يجهضه. لذلك أجلنا النظر في أي وثائق أخرى عدا البريطانية والفرنسية والأميركية إلى مرحلة لاحقة. وكيف حصلتم على هذه الوثائق؟ - فيما يخص الوثائق البريطانية فقد اتصلنا بالمسؤولين في المكتبة البريطانية، وبَيَّنا لهم ما نسعى إليه بالتحديد، واتفقنا معهم على ترتيبات استخراج ما يهمنا من الوثائق المحفوظة في سجلات وزارة الهند ومكتب السجلات العامة. كذلك استعنا في عملنا على الوثائق البريطانية بالمجلدات التي نشرتها المجموعة الدولية للأرشيفات في لندن تحت عنوان "طبعات الأرشيف". وتحتوي هذه المجلدات على عدد كبير من الوثائق، يدخل جزء منها ضمن إطار مشروعنا. اما الوثائق الفرنسية فقد وردتنا من مصدرين اثنين هما: ارشيف القوات البرية التابع لوزارة الدفاع، وارشيف وزارة الخارجية الفرنسية على مايكروفيلم. وبعض هذه الوثائق مكتوب بخط اليد . وبالنسبة الى الوثائق الأميركية فيستطيع الباحث في الشؤون السعودية ان يجد مادة ثرية من هذه الوثائق والمعلومات في السجلات المركزية السرية لوزارة الخارجية الاميركية. هل وضعتم معايير مسبقة للوثائق التي تريدون بحثها؟ - انطلقنا في مشروعنا من أسس واعتبارات مغايرة لتلك التي اعتمدت في الأرشيفات البريطانية والفرنسية والاميركية لتصنيف الوثائق. لذا كان لزاما علينا في البداية فحص ما يردنا من ملفات وفرز ما تحتويه من وثائق واستبعاد ما ليس له صلة منها بتاريخ المملكة في الفترة التي يغطيها المشروع. أما بالنسبة إلى الوثائق ذات الصلة بالمشروع فلم نستبعد أي وثيقة مهما بدت ضئيلة الأهمية. ذلك أن الحكم على أهمية الوثيقة أمر يحدده الباحث تبعاً لتخصصه وما يستهدف من بحثه. فقد يعطي الباحث الاقتصادي أهمية كبرى لوثيقة لا يلتفت اليها الباحث الجغرافي أو السياسي، والعكس صحيح. وهكذا كان تلخيص جميع الوثائق المتعلقة بحياة الملك عبدالعزيز وفترة حكمه بهدف تغطية هذه الفترة في مجالاتها البحثية المتعددة والمتنوعة هي الغاية التي توخيناها في مشروعنا. لقد كان مجرد نبش ما يهمنا من الوثائق، واستخلاصه من ركام الأوراق التي وصلتنا من الأرشيفات البريطانية والفرنسية والاميركية، مهمة غير هينة في حد ذاتها. فقد قمنا بمسح مئات الآلاف من الأوراق واخترنا منها عشرات الآلاف من الوثائق التي يزيد عدد صفحاتها على مئة ألف صفحة. وحرصنا على تقصي جميع الوثائق الفرنسية والبريطانية والاميركية المتعلقة بحياة الملك عبدالعزيز وفترة حكمه، وعلى إجراء مسح شامل لها، مهما اختلفت موضوعاتها. وكان المعيار الوحيد الذي خضع له اختيارنا هو أن تكون الوثيقة ذات صلة مقنعة بتاريخ الملك عبدالعزيز في كل جوانبه الشخصية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإدارية والحضارية وغيرها. ولم يكن المعيار الذي اعتمدناه سهل التطبيق على رغم بساطته في الظاهر. فكيف يمكن الحكم مثلا على وثيقة تتصل بتجارة حائل عام 1905م، أو بالعلاقات السياسية لدولة الأدارسة في عام 1909م، أو بالشؤون الصحية في المدينةالمنورة عام 1913م؟ جميع هذه التواريخ تدخل ضمن الفترة التي يغطيها المشروع، لكن هذه المناطق لم تكن تحت حكم الملك عبدالعزيز آنذاك. ولم تكن هذه هي المشكلة الوحيدة التي واجهتنا في تطبيق المعيار الذي اعتمدناه، بل كان لا بد لنا من تتبع الوثائق ذات الصلة بدول الجوار مثل اليمن وعمان والكويت والبحرين والعراق وشرقي الأردن، لأن الكثير من الوثائق ذات الصلة بفترة حكم الملك عبدالعزيز كانت ضمن تلك المجموعات التي يحسبها المرء لا تخص إلا جهتها. هل تعتقد بأنكم استطعتم ان تلبوا كل احتياجات الباحثين؟ - تلبي الوثائق التي نقدمها في هذه المجلدات، بشموليتها وتنوعها، حاجة القراء والباحثين من ذوي الاهتمامات المختلفة، وتقدم خدمة علمية لأكبر عدد من الباحثين سواء منهم من يركز على الجوانب الاقتصادية أو من يؤرخ للجانب السياسي الداخلي أو الخارجي، أو من يتابع التطورات الاجتماعية. وقد جاءت هذه الوثائق المتنوعة لتغطي مختلف المجالات بما في ذلك التطورات السياسية والاقتصادية الداخلية، والأوضاع المالية، والشؤون الاجتماعية، والجانب الديني، والمسائل الحدودية، والعلاقات الخارجية. هذا بالإضافة الى معلومات وأخبار متفرقة على درجات متفاوتة من الأهمية ذات صلة بالمسائل العربية والإسلامية. ان اهم ما يشد اهتمام الباحثين على اختلاف فئاتهم في تاريخ المملكة المعاصر هو تتبع مراحل توحيدها، وجهود الملك عبدالعزيز آل سعود في ذلك. فثمة فئة منهم تود التعرف مثلاً على جهوده في كسب ولاء القبائل ، وفئة أخرى من الباحثين يهمها تطور الجانب الدستوري والإداري والتشريعي في المملكة، ومن الباحثين من يركز على تطور الجهازين الأمني والعسكري انطلاقا من تعبئة رجال القبائل، إلى بدايات تأسيس قوات جيش نظامي وشرطة مركزية. ولا يخفى أن الاطلاع على هذه الوثائق يفيد الباحث في دراسة المواقف المعلنة والخفية التي وقفتها الفئات والقوى المختلفة من الملك عبدالعزيز ودولته، خصوصاًَ مواقف الجهات التي صدرت الوثائق عنها. فأي باحث يود القيام بدراسة من هذا النوع يجد في الوثائق كنوزاً ثمينة، إذ لا يظفر بمعرفة وجهات النظر والمواقف المختلفة فحسب، بل يستطيع كذلك أن يتتبع كيف تشكلت وتبلورت هذه الآراء وتطورت في مواقف بعينها. وهكذا يستطيع الباحث دراسة المواقف التي يتبناها هؤلاء من قضايا وأحداث وفئات وشخصيات معينة، مثل تلك المواقف التي تتصل بالنزاع بين الملك عبدالعزيز وقبيلة العجمان، أو بالإخوان في مختلف مراحل نشاطهم، أو بالهاشميين في شرقي الأردن والعراق في علاقتهم مع المملكة. هل اتبعتم الحياد في نشر الوثائق ؟ ام كان هناك انتقائية في الاختيار؟ - هذا المشروع يشمل اي وثيقة تقع في النطاق الزمني الذي حددناه وتحدث عن الملك عبدالعزيز او عن المملكة في عهده. اما عملنا في الترجمة والتلخيص فإنه يقتصر على نقل وجهة نظر معد الوثيقة دون مقارنتها بغيرها او اصدار اي حكم عليها او فرض اي قراءة نقدية تحليلية للوثيقة تتجاوز مرحلة التلخيص الامين لمحتوياتها، فقد حرصنا على استعمال لغة موضوعية محايدة تبلّغ دون ان تقّيم. وغاية التلخيص إعطاء معلومات دقيقة مختصرة تقدم للباحث فكرة واضحة عن الوثيقة تكفيه ليبني عليها قراره حول ضرورة العودة اليها.