يهدف مشروع "الملك عبدالعزيز آل سعود: سيرته وفترة حكمه في الوثائق الأجنبية"، الذي شرعت دار الدائرة للنشر والتوثيق في تنفيذه منذ ما يزيد عن سبع سنوات، إلى تقديم ملخصات عربية للوثائق البريطانية والفرنسية والاميركية التي تتعلق بحياة الملك عبدالعزيز وتاريخ المملكة العربية السعودية في عهده. ولقد وقع اختيارنا على الوثائق البريطانية والفرنسية نظراً الى عراقة العلاقات الديبلوماسية بين المملكة وهاتين القوتين اللتين كان لهما حضورٌ مكثف في المنطقة منذ وقت مبكر. أما الوثائق الأميركية فتنبع أهميتُها من اهتمام الولاياتالمتحدة بالمنطقة بعد اكتشاف النفط فيها وما اضطلعت به في ما بعد من دور في مشاريع البنية التحتية في المملكة. وانطلقنا في مشروعنا من أسس مغايرة لتلك التي اعتمدتها الأرشيفات لتصنيف الوثائق. لذا كان لزاما علينَا في البداية فحصُ ما يردنا من ملفات وفرزُ ما تحتويه من وثائق واستبعادُ ما ليس له صلةٌ منها بالفترة التي يغطيها المشروع. وكان مجرد نبش ما يهمنا من وثائق واستخلاصه من ركام الأوراق التي وصلتنا من الأرشيفات مهمةً غير هينة حيث قمنا بمسح مئات الآلاف من الأوراق واخترنا منها ما يقارب ثلاثين ألف وثيقة يزيد عددُ صفحاتها على مئة ألف صفحة لخصناها في ما يقارب خمسة عشر ألف صفحة ستنشر في عشرين مجلداً. وتبين لنا أن الأسلوبَ الذي تتبعه الأرشيفات في تصنيف الوثائق كثيراً ما يؤدي إلى وجود نسخ متعددة من الوثيقة الواحدة في ملفات مختلفة وتحت أرقام مختلفة. ففي إحدى الحالات قد نجد وثيقة مستقلة تتضمن عدداً من المرفقات ثم نجد الوثيقةَ نفسَها في حالة ثانية من ضمن مرفقات وثيقة أخرى، وهلم جرا. هذا يعني أننا لو التزمنا بطريقة التصنيف المتبعة في الأرشيفات لوقعنا في بعض المشكلات التي قد يكون أهمُها أن الوثيقة نفسَها ستلخص أكثر من مرة. ومن جهة أخرى فإن التعاملَ مع المرفقات على أنها أجزاءٌ من وثيقة واحدة تختلف عنها في التاريخ قد يخرج بعضَ الوثائق الهامة من سياقها التاريخي الأصلي. لذلك كان من أهم الأمور التي واجهتنا تحديد تعريف عملي وإجرائي للوثيقة ووضع معايير نستند إليها ونلتزم بها في عملنا. وكان من أهم العمليات التي لجأنا إليها بموجب هذه المعايير عمليةٌ اصطلحنا على تسميتها "فك الوثائق"، وتتمثل في فصل المرفقات عن الوثيقة الأم والتعامل معها كوثائقَ مستقلة. وبعد عملية الفك نقوم بفرز الوثائق المفكوكة فنستبعد منها ما هو مكرر أو غير مطلوب ثم نصنف الوثائقَ المطلوبةَ زمنياً ونرتبها حسب تاريخها، وتصبحُ عندها جاهزة للتلخيص. وفي حال وجود صيغتين من الوثيقة في ملفين مختلفين إحداهما أكملُ من الأخرى، كان قرارنا دائما هو اعتماد الوثيقة الأكمل واعتبار النسخة الأخرى تكرارا نكتفي بالإشارة إليه. ومن حالات التكرار وجودُ أصل رسالة في ملف ووجودُ نسخة منها في ملف آخر، وفي هذه الحالة قد لا يتعدى الاختلاف وجود التوقيع على الأصل ومجرد الإشارة إليه على النسخة، ولكن في حالات أخرى قد توجد ملاحظةٌ بسيطة خَطَّها مستلم الوثيقة أو مستلم النسخة عليها، أو حاشيةٌ كتبت في ما بعد. هذه حالات من التكرار التي لم يكن التعامل معها سهلاً وكنا في كل حالة نطرح على أنفسنا عدداً من الأسئلة أهمها: هل مسودةُ الوثيقة وثيقةٌ بحد ذاتها، خصوصاً في الاتفاقات والمعاهدات التي يسبقها عددٌ من المسودات تتعرض كلٌ منها للتعديل؟ لو اعتبرنا كلَ مسودة وثيقةً، فهذا قد يقود إلى عمل ملخصات متعددة تكرر المعلومات نفسها مع تغييرات طفيفة. ثم كيف نتعامل مع وثيقة تنمو باستمرار، كأن يكتب أحد المسؤولين رسالة ويعلق عليها الشخصُ الموجهة إليه بحاشية، ويحيلها بدوره إلى شخص ثالث بحاشية أخرى، ثم توضع مسودةٌ للإجابة عنها، وهكذا. هل نعتبر كل مرحلة من هذه المراحل وثيقة؟ وكان المبدأ الموجه لنا في تحديد ما نعتبره تكراراً هو حرصنا على ألا نحجب أية معلومة مهمة من دون أن نثقل على القارئ بقراءة ملخصات تكرر المعلومات ذاتها. ولقد جزأنا ملخصَ الوثيقة إلى أربعة أجزاء أساسية هي: الترويسة، والإسناد، والمتن، والذيل. تتألف الترويسةُ من سطرين أولهما يتضمن تاريخَ الوثيقة والثاني رقمَها الأرشيفي مضافا إليه عدد صفحات الوثيقة بين قوسين. وباعتبار أننا اعتمدنا التاريخ أساساً لترتيب الملخصات فإن عمليات فرز الوثائق آلياً على أجهزة الحاسوب اقتضت منا كتابةَ تاريخ الوثيقة في السطر الأول من الترويسة، كما اقتضت منا أن نخالف الطريقةَ المعتادة في كتابة التاريخ ونبدأه بالسنة ثم الشهر ثم اليوم. فعلنا ذلك ليقوم الحاسوب عند عملية الفرز الآلي بترتيب الوثائق حسب تسلسل سنواتها، فتبقى الوثائق التي يعود تاريخها إلى السنة نفسها مجتمعةً يتلو بعضها بعضاً حسب تسلسل شهورها، وتلك التي يعود تاريخُها إلى الشهر نفسه يتلو بعضها حسب تسلسل أيامها. ولقد ساعدتنا عملياتُ فك الوثائق وترتيبها زمنيا وفرزها آلياً على اكتشاف جميع التكرارات واستبعادها. وحيث أن بعض الوثائق مكررٌ في أكثر من ملف واحد، فقد حرصنا على أن تكون نسخةُ الوثيقة التي نعتمدها للتلخيص هي الأوفى والأوضح من بين النسخ المتوافرة. والرقم الأرشيفي الذي نورده في الترويسة هو للملف الذي يحوي هذه النسخة التي اعتمدناها في التلخيص. وفي الذيل الذي يأتي في نهاية الملخص أوردنا أرقامَ الملفات الأخرى التي تحتوي نسخاً مكررة من الوثيقة أو مكان نشرها إن كانت منشورة. بعد ترويسة الوثيقة يأتي الإسناد، وهو عبارة عن مقدمة وصفية موجزة للوثيقة، يتضمن تعريفا بها وتحديدَ الأطراف المعنية بها مع ذكر الألقاب الرسمية للمرسل والمرسل إليه، وتحديد جنسية كل منهما، ووظيفته ومقر عمله. ويبين الإسناد ما إذا كانت الوثيقة مرفقةً طي وثيقة أخرى مع إيراد المعلومات الخاصة بتلك الوثيقة. بعد الإسناد يأتي التلخيصُ المترجم الذي يستهدف إعطاء معلومات دقيقة مختصرة عن محتوى الوثيقة تكفي لكي يقرر الباحث مدى أهميتها بالنسبة إليه. ولا يقصد من التلخيص أن يكون بديلاً عن الوثيقة نفسها وإنما هو دليل يجمع بين الإفادة والإيجاز لما تحتويه الوثيقة من معلومات قد تخدم الباحث وتعطيه فكرة واضحة عن الوثيقة تكفيه ليبني عليها قرارَه حول ضرورة الاطلاع عليها. وقد نالت ضوابطُ التلخيص والترجمة الحظ الأوفر من المداولات والمناقشات بين أفراد فريق العمل. كما أن العملية نفسَها مرت بمراحل تطور مبنيّة أساساً على تقدم سير العمل وتبلور رؤية المشروع وأهدافه. وتنوع الوثائق من تقارير إلى رسائل خاصة إلى مذكرات أو يوميات أو برقيات وغيرها، وتنوع كتّاب هذه الوثائق ومستوياتهم الثقافية، ترتب عليه بالضرورة تنوعٌ كبير في أساليبها، ودرجة رسميتها، ودرجة حضور ذات الكاتب فيها. ولما كانت محاكاةُ هذه الأساليب مدعاةً إلى ظهور ملخصات غَير متجانسة أسلوبياً، استدعى الأمر منا الاتفاقَ على مواصفات أسلوبية موحدة وتبني قالب صياغي للترجمة، بحيث نتجاوز تقلباتِ أساليب الوثائق. ويختلف حجم متن الملخص بالطبع من وثيقة إلى أخرى باختلاف حجمها ونوعها وأهمية المعلومات الواردة فيها. وقد حرصنا أن تكون نسبةُ الملخصات متقاربةً بحيث يمثل حجم التلخيص ما يقارب 20-25 في المائة من حجم الوثيقة. وقد راعينا في التلخيص إبقاءَ الألقاب ذات المدلول الرسمي والسياسي والوظيفي، وألقاب شيوخ القبائل والأمراء، وغير ذلك من الألقاب ذات الصفة المهمة في مجال معرفة الوظيفة أو الرتبة، إلخ. وحرصنا على إثبات ألقاب الملك عبدالعزيز، باعتباره محورَ المشروع وهدفَه، بناء على التدرج التاريخيّ للقبه الرسمي من إمام وأمير إلى حاكم فسلطان ثم ملك، وكذلك الأمر بالنسبة إلى مسميات الدولة السعودية وتحولِها لمعرفة التطور التاريخي الذي مر به مفهومُ الدولة في المملكة. وتعاني الوثائقُ بشكل عام من أخطاءَ كثيرة منها ما يتعلق بالجانب التاريخي، ومنها ما يتصل بكتابة أسماء الأعلام والقبائل والمواقع. ولقد ميزنا بين الأخطاء التي تنتج عن سهو أو غلط في الطباعة أو شيء من هذا القبيل، والأخطاء الناتجة عن معلومات ناقصة أو عدم دراية. أما الأخطاء التي تنتج عن سهو أو غلط في الطباعة فقد بادرنا إلى تصحيحها. وقد نجمت عن كتابة أسماء الأعلام والقبائل والأماكن الجغرافية باللغتين الإنكليزية والفرنسية مشكلةٌ خاصة، وذلك نظرا الى تعدد التهجئات الأجنبية للكلمة الواحدة أو لوجود خطأ في الأصل. وكان من الممكن لنا أن نثبت الأسماءَ كما وردت ونتركَ مهمةَ التحقق منها للقارئ، لكننا تبنينا الخيار الأصعب، وهو استجلاءُ النطق الصحيح عن طريق مقابلة أسماء الأعلام والأماكن بأسمائها العربية من واقع المصادر والخرائط والاستشارة. وبعد كل مرحلة من مراحل العمل كنا نفرّغُ من أعضاء الفريق العاملين على المشروع من أجل مراجعة مجمل ما تم إنجازه لتفحصه والتدقيق فيه من النواحي التقنية والتاريخية، وتلمس المشكلات التي حدثت حتى تلك اللحظة لتلافيها مستقبلاً. وكان من بين الأمور التي تشغلنا النظر في دقة وكمية المعلومات التاريخية الواردة في الملخصات ومقارنتها بما جاء في الوثيقة الأصلية. وبعد الانتهاء من عمليات التلخيص والترجمة والمراجعة عرضنا الملخصات على لجنة من المؤرخين السعوديين لتفحصها والتدقيق فيها ووضع اللمسات الأخيرة عليها ليخرج المشروع في شكله النهائي على هيئته العلمية المنشودة. وتلبي الوثائق التي تم تلخيصها حاجة القراء والباحثين من ذوي الاهتمامات المختلفة. ولعل أهم ما يشد اهتمام الباحثين في تاريخ المملكة المعاصر هو تتبع مراحل توحيدها، وجهود الملك عبدالعزيز آل سعود في ذلك. وهناك فئة أخرى من الباحثين يهمها تطور الجانب الدستوري والتشريعي والتقسيمات الإدارية التي عرفتها المملكة في مراحل مختلفة من عهد الملك عبدالعزيز. وهناك من الباحثين من يهمه تتبع ظهور وتطور المؤسسات التي قامت عليها الدولة. وهناك من يهمه تطور الجهازين الأمني والعسكري وبدايات تأسيس قوات جيش نظامي وشرطة مركزية، مروراً بمختلف المحاولات التنظيمية الإصلاحية في هذين القطاعين. والباحث المتتبع لمراحل التطور الاقتصادي في المملكة يهمه معرفة أن اقتصادها قام لفترة غير قصيرة على الحج كمورد دخل أساسي قبل اكتشاف الثروة النفطية. ومن الباحثين من يركز على مجال امتيازات النفط والمناجم وأثرها المباشر في إحداث نقلة نوعية في اقتصاديات المملكة. وقد يود البعض تتبع ظهور البنية التحتية في المملكة من طرقات وطاقة كهربائية وشبكات مياه وموانئ ومطارات، وتطور قطاعات الصناعة والتجارة والزراعة. وقد يركز البعض الآخر على أسعار صرف العملة وبدايات الريال السعودي، وإنشاء مؤسسة النقد وأبعاد السياسة النقدية للمملكة وتاريخ الميزانية والمؤسسات المالية. وهناك من الدارسين من يهتم بالبعد الاجتماعي والتركيبة الديموغرافية والإحصاءات السكانية للمجتمع السعودي. وهناك من يهمه معرفة أسماء القبائل وبطونها وعشائرها وشيوخها وديارها ومواردها ومراعيها وتوزيعها على خارطة المملكة. وقد يُعنَى البعض برصد ظواهرَ اجتماعية متفرقة مثل التدخين أو دخول الراديو. وربما يتابع البعض الآخر شؤون الرق وكيفية معالجة الملك عبدالعزيز لهذه الظاهرة. ومن الباحثين من يهتم بتاريخ الخدمات الاجتماعية في المملكة للمعوزين والقاصرين والمعوقين وعلاقاتها بالأوقاف الإسلامية. ومنهم من يُعنَى بإبراز تاريخ الشؤون الصحية وتطور خدماتها ومؤسساتها وبنيتها الأساسية، البشرية والتجهيزية. وكان من نتائج اتساع رقعة المملكة أن أصبحت خدمةُ الحرمين الشريفين ضمن مهام الحكومة، مما يجعل من الجانب الديني مبحثاً لا غنى عنه للكثير من الدارسين. إذ لا يمكن دارسةُ تاريخ المملكة من دون الوقوف على ظاهرة الحج، وموقف العالم الإسلامي من قيام الدولة السعودية، ومن قيادة الملك عبدالعزيز لها، وبسط سلطته على أراضي المقدسات الإسلامية. أما على الصعيد الخارجي، فلعل من أهم ما يميز تاريخ المملكة في بداياته وحتى منتصف فترة حكم الملك عبدالعزيز مسألة الغارات القبلية عبر الحدود مع الكويت والعراق وشرقي الأردن، وفي بعض المناطق التي كانت محل خلاف مع اليمن. وكان لهذه الغارات انعكاسات كبيرة على صعيد علاقات المملكة بجيرانها، وبالحكومات البريطانية والفرنسية والإيطالية، إضافة إلى مسألة رسم الحدود ذات التعقيدات السياسية والقانونية. ويستطيع الباحث من خلال الوثائق أن يتتبع الأدوار والمهام التي اضطلع بها أشخاصٌ بعينهم ممن كان لهم اسهام كبير في تاريخ المملكة، مثل إخوة الملك عبدالعزيز وأبنائه، والأمير عبدالله بن جلوي وعبدالله السليمان وعبدالله النفيسي وعبدالعزيز القصيبي ويوسف ياسين وغيرهم من رجالات الملك، ومثل جلبرت كلايتون وبيرسي كوكس وأندرو راين وعبدالله فلبي من الجانب البريطاني، وجاك روجي ميجري وابراهيم دبوي من الجانب الفرنسي، وكارل تويتشل وألكسندر كيرك وجيمس موس من الجانب الأميركي. ولم يكن هذا المشروع ليرى النورَ ويخرجَ بهذا الحجم العملاق، وعلى هذا المستوى المتميز، لولا أن صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز، كعادته في رعاية المشاريع العلمية والفكرية، أمدَّه بدعمه المطلق وحفَّه برعايته الكريمة. * المشرف العلمي ومدير عام دار الدائرة للنشر والتوثيق.