طلب جلال خوري من الجمهور الوقوف دقيقة حزن على رحيل منير ابو دبس أحد مؤسسي حركة المسرح الحديث في لبنان. بالطبع وقف الجمهور صغاراً وكباراً، من عرفوا الرجل ومن لم يسمعوا باسمه، إلا أن المصادفة شاءت أن يقف في وجه الحاضرين اثنان من أبرز تلامذة أبو دبس: ميراي معلوف التي تغرّبت الى فرنسا لتشارك في أعمال المخرج العالمي بيتر بروك، ورفعت طربيه الذي لا يغيب عن الخشبة ووسائل الإعلام في لبنان منذ قرابة نصف قرن. لكن علاقة الاثنين بالمؤسس الراحل سرعان ما أظهرت ثمارها في الأداء الآسر الذي قدّماه على خشبة غلبون قضاء جبيل، جبل لبنان) مساء أول من أمس. الحاضرون من مواكبي الحركة المسرحية في لبنان اعتبروا الأمسية تحية صادقة تجسّد اثر أبو دبس على جيلين من أفضل ممثلي المسرح في لبنان والمدى العربي وصولاً الى قلب العالم مع الرائعة ميراي معلوف. «شكسبير إن حكى» عمل مسرحي متقن على مستويات عدة أهمها بلا شك تمكّن طربيه ومعلوف من القبض على انتباه جمهور لم يعرف سواده الأعظم براعة التمثيل المسرحي في أرقى تجلياته. والوقع أن كثراً تخوفوا أن يفلت الجمهور أو يشرد او يصيبه التبرم بسبب اعتياده سطحيات التلفزيون والتمثيليات الدارجة، لكن حصل العكس وفي صورة مؤثرة لعلها أعادت بعض الأمل بنظرية «الجمهور شاشة بيضاء تعكس ما ينعكس عليها». وكان لنا أن نفرح لأن منير أبو دبس لم يرحل الى فراغ بل ترك لنا خميرة خصبة ها نحن نتغذى من خبزها. تذكرنا رضى خوري وريمون جبارة ورينيه ديك وانطوان كرباج وميشال نبعة وغيرهم ممن استمروا ويستمرون في الغَرف من جعبة الاستاذ منير، رحمه الله. في الشتاء المنصرم بدأت هذه المسرحية حين طلبت ميرنا بستاني عملاً محلّياً تضمه الى برنامج «مهرجان البستان» الذي احتفل كما العالم بأسره بمرور 450 سنة على ولادة شكسبير و400 سنة على موته. إلا أن نجاح «شكسبير إن حكى» ما لبث ان تحوّل الى مشروع مسرحي جوّال على كل الخريطة اللبنانية، فبعد الأشرفية وإهدن وغلبون ستعرض في صيدا وعكار وبعلبك والضاحية وأماكن أخرى قيد التفاوض بينها بلدة القاع المنكوبة: «إنها معركة باسلة ضمن مواجهة الحياة للموت عبر المسرح الذي لا لغة توازي لغته»، قال المسرحي المخضرم موريس معلوف وقد بدا كأنه يتتبع العمل عن كثب لشدة شغفه بالمسرح الجوال وشكسبير. كادت غلبون في ظل ريتشاد الثالث والملك ولير وليدي مكبث ان تتحول الى «حلم ليلة صيف»: مسرحية في قلب مسرحية تتعانق تناقضاتها في إلفة حميمة حيث يمحي الفاصل بين الممكن والمحال. وجاءت توصيفات شكسبير للمجتمعات المتهالكة والبلدان الخاضعة للظلم والطغيان والحكام الفاسدين او السافلين والمجانين مطابقة لما نعرفه ونعيشه اليوم. كذلك حروب التيجان ومخاضات الأمم. فظهر شكسبير بكل عبقريته على قرية جميلة تحتضنها بلاد جبيل بتلال خضراء، بيوتها حجر وقرميد وعرائش وزيتون، وفي ذاكرتها صدى لزمن ذهبي لم يفقد بريقه على رغم كل شيء.