محمد حسنين هيكل العروش والجيوش - قراءة في يوميات الحرب دار الشروق، القاهرة، ط2 1999 - 453 صفحة الحرب هي حرب فلسطين، والقراءة هي في يومياتها وأحداثها طوال نصف قرن 1948 - 1998. إنها أحداث جسام عاشها جيلنا وعاشت بعضها وما تزال الأجيال الشابة. والكاتب بمؤلفه الكبير هذا يريد ان يذكرنا ويريدنا ان نعيد قراءة تلك الأحداث. فالتذكر يقظة على حد تعبيره، واليقظة حالة من عودة الوعي قد تكون تمهيداً لفكر يتحول الى فعل. كان قيام دولة اسرائيل في وسط العالم العربي وفي قلبه هو الحدث الأكبر بالنسبة لشعوب الأمة العربية على امتداد القرن العشرين. قضت هذه الأمة النصف الأول من القرن تحاول بكل الوسائل منع قيام دولة اسرائيل، وقضت نصفه الآخر تحاول بكل طاقتها حصر تلك الدولة وضبط آثار وتداعيات قيامها. وكانت الأمة العربية على حق في نضالها، لكنه حق افتقد الوعي أحياناً، وافتقد الإرادة أحياناً، أو افتقد كليهما في كثير من الاحيان الأخرى. وإذا كان غروب القرن العشرين قد حل، والطوق العربي من حول اسرائيل مكسور، فإن التاريخ لم يصل الى نهايته. كيلا يتوقف الزمن العربي لا بد في رأي المؤلف من استعادة الوعي بواسطة المعرفة، واستعادة الإرادة بواسطة العقل. ويلفت المؤلف انتباهنا منذ البداية الى ان هذا الكتاب ليس تاريخاً للصراع العربي - الاسرائيلي، وليس متابعة أو تحليلاً لمساره الطويل. انما هو التفاتة مهمة الى لحظة الخلق الأولى، عندما وقع الانفجار وتمددت كتلته. هذا الكتاب مستند تاريخي نادر يروي بغير تزوير أو تزويق لمحات من الحقيقة عن أيام حاسمة في التاريخ العربي المعاصر، هي تلك الأيام التي شهدت قيام الدولة اليهودية على أرض فلسطين في أيار مايو 1948. وفي مثل هذا الشهر من أيار 1998 كانت احتفالات اليهود على أشدها في اسرائيل وغير اسرائيل بمناسبة مرور خمسين سنة على ميلاد "الدولة". والكتاب تصوير دقيق للعمل في حرب فلسطين في تلك الظروف. وهو بمقصده الاساسي محاولة في الحيلولة دون ان تفقد الأمة العربية ذاكرتها. فهو سجل أمين لحدث كبير كتبه شهوده بأنفسهم بالتزامن مع جريان الوقائع. فپ"يومية الحرب" هي أكمل مستند تاريخي لصورة ميدان القتال والخلفيات السياسية المتصلة به. ومن تقاليد جيوش العالم المتمدن ان يكون لكل قيادة عامة "يومية حرب" لأنها مركز التحكم والرصد. ويذكر المؤلف هنا ان ونستون تشرشل عندما أراد ان يكتب مذكراته عن الحرب العالمية الثانية وجد انه لا يستطيع ان يفعل ذلك من دون ان يرجع الى "يوميات الحرب" التي تحتفظ بها هيئة أركان الحرب الامبراطورية. وكذلك فعل الجنرال ايزنهاور والجنرال الكسندر وكثير من الخبراء والمحللين. ولقد أتيحت الظروف للمؤلف ان يعيش - في شبابه - تجربة حرب فلسطين سنة 1948 بوصفه مراسلاً متجولاً لصحيفة "أخبار اليوم". ففي الشهور الأولى من العام المذكور ذهب الى فلسطين ليتابع ما يجري ويعيشه "بقلبه وقلمه" معاً على حد تعبيره. فرأى حيفا تسقط، ويافا تحاصر، وترك حي "القطمون" في آخر سيارة تغادر القدس الى عمان. وكتب في "أخبار اليوم" عدة تحقيقات بعنوان "النار فوق الأرض المقدسة". وبقي في فلسطين لحظة إعلان الحرب متنقلاً بين مواقعها من بيت لحم والخليل مع قوات المتطوعين الى المجدل وأسدود. وظل يتابع الأحداث حتى توقيع اتفاقيات الهدنة في رودوس في مطلع 1949. وازداد اهتمام الكاتب أكثر وأكثر بقضية الحرب في فلسطين بعد قيام الثورة المصرية عام 1952. فقد كان اعتقاده ان تجربة فلسطين كانت من العوامل المباشرة لقيامها، كشأنها بالنسبة للانقلابات العسكرية السورية المتتالية. وفي الفالوجة كان لقاء المؤلف الأول - في آب اغسطس 1948 - مع الضابط الشاب جمال عبدالناصر. ويقول هيكل هنا: "وفي ما بعد سنة 1952 تقابلت الطرق بيننا وتآلفت رؤانا لأحوال زماننا وقضاياه، ثم كانت بيننا تلك الصداقة التي استمرت حتى رحل عن دنيانا سنة 1970". وبفضل هذه الصداقة أتيحت للكاتب في ما بعد ان يطلع على "يومية الحرب" على الجبهة المصرية في فلسطين. واذا كانت ظروف المؤلف آنذاك، بسبب الاحداث المتلاحقة في مصر، لم تسمح له ان يدرس تلك اليوميات ويحللها، فإنه عاد اليها بعد خمسين عاماً، أي مع احتفال اسرائيل بقيام دولتها عام 1998. يتألف الكتاب من بابين أساسيين: الأول سياسي تحليلي يتناول فيه مواقف الحكام من حرب فلسطين بما فيها من متناقضات ومفارقات. والثاني عسكري وثائقي يحتل الجانب الأعظم من الكتاب. وهذا الجانب يتناول "يوميات الحرب": التعليمات والأوامر العسكرية، البرقيات، البلاغات العسكرية. هذه "القراءة" في يوميات الحرب تكشف عن حقائق موثقة مذهلة من تاريخ تلك المرحلة. في الباب الأول يستعرض المؤلف أوضاع بعض الأنظمة العربية غداة الحرب العالمية الثانية، فيما تتسارع حركة الحلم الصهيوني نحو التحقق. هذه الأنظمة في تطلعها الى الزعامة أو الخلافة، كان يجمعها الكثير من التناقضات، فيما قضية فلسطين تطرح نفسها بقوة في المنطقة. وعندما دعا الملك فاروق الى مؤتمر أنشاص أول مؤتمر عربي للقمة لتدارس الأوضاع في شأن فلسطين، كان "التقاسم" قد تم الاتفاق عليه بالفعل بين الهاشميين والحركة الصهيونية، كما يقول المؤرخ اليهودي المطلع آفي شلايم، بحيث يذهب الجزء المخصص للفلسطينيين فور اعلان الدولة اليهودية، الى الأردن ويصبح جزءاً منها. وكان هذا الاتفاق يرضي الطرفين: فهو يطمس شعب فلسطين من جهة، ويحول إمارة شرقي الأردن الى مملكة لها عمقها على ضفتي النهر. وبينما كانت الوكالة اليهودية تتحرك على نحو حاسم صوب اقامة دولة يهودية في فلسطين بعيد صدور قرار التقسيم 1947، كان الحكام العرب يتبادلون الشكوك في بعضهم بعضاً. وعندما تحركت الجيوش العربية أخيراً في 15 أيار يونيو 1948 كان هاجس القيادات العربية المشترك هو حقيقة نوايا الملك عبدالله، لكن من العجيب انها هي نفسها بايعت الملك عبدالله قائداً أعلى لكل جيوش الدول العربية الداخلة الى فلسطين! ولم يكن عبدالله راضياً ضمناً عن تلك البيعة التي اعتبرها توريطاً له وتحميله مسؤولية الهزيمة. فقد كان يعلم مسبقاً بقوة اليهود. وهو لم يكن يريد قتالاً حقيقياً معهم رغم ان فيلقه العربي كان الجيش العربي الوحيد المهيء للقتال. كان يريد عملية التقاسم المتفق عليها: الهاغاناه تحتل الجزء اليهودي، والفيلق العربي يحتل الجزء العربي ويا دار ما دخلك شر! ويكشف المؤلف في هذه المرحلة عن عدد من الحقائق المذهلة. منها ان الجامعة العربية، ممثلة بأمينها العام آنذاك، عبدالرحمن عزام باشا، طلبت من غلوب باشا البريطاني وقائد "الفيلق العربي" ان يكون قائداً عاماً للجيوش العربية. وكان هذا الطلب محل دهشة الضابط البريطاني نفسه! ومن هذه الحقائق ذلك الاتفاق الأمني السري بالسماح لمصر "بسرقة أسلحة وذخائر بريطانية بالرضا" من مستودعات الجيش البريطاني في قناة السويس. والهدف البريطاني الظاهري من هذه "الصفقة" هو إحداث نوع من التوازن بين العرب واليهود، وتعبير عن الشعور بالاستياء من بعض الممارسات اليهودية ضد القوات البريطانية في فلسطين. أما الهدف الحقيقي من هذه الصفقة، كما يحلل هيكل، فهو ان بريطانيا أرادت ان تترك وراءها عشية انتهاء فترة الانتداب نزاعات محلية واقليمية تستنزف جهد الأطراف وتجعلها أشد حاجة الى الامبراطورية الأم! فإذا ما انتقلنا الى القسم الثاني من الكتاب، وهو القسم الوثائقي الذي يحتل الجانب الأعظم من صفحاته، أو حوالى 300 صفحة، نجد ان المؤلف لا يكتفي بنشر الوثائق بأرقامها وتواريخها تعليمات عسكرية، برقيات، أوامر، بلاغات... الخ، بل يضع بصماته الشخصية من خلال فهمه وتحليله لهذه الوثائق في مربعات بحرف أسود، وهو يتوقف عند برقية بعينها أو عند عدة برقيات متتابعة ليستخلص المغزى السياسي لها ضمن السياق العام لمجرى الأحداث. فهو يعلق مثلاً على البرقية الرقم 24 بتاريخ 7/5/48 والصادرة عن المخابرات والموجهة الى العمليات تفيد بأن "قوات شرق الأردن ابتدأت في الانسحاب من غزة الى شمال الخليل"، فيقول: "كان المنطق ان تنتظر قوات شرق الأردن في مواقعها حتى تسلمها الى القوات المصرية الداخلة الى هذا القطاع للعمل فيه بعد أسبوع واحد، لكنها بدلاً من ذلك قررت تركه رغم وجود دلائل ظاهرة في اشارات سابقة تتحدث عن وصول أربعين مصفحة الى المستعمرات المجاورة للحدود المصرية الملاصقة لقطاع غزة". ويستنج المؤلف: "ومعنى ذلك ترك فسحة اسبوع للقوات اليهودية تتحرك في المنطقة بغير رقابة أو اعتراض. والثابت ان وراء ذلك قراراً سياسياً اتخذ في عمان ومؤداه: بما ان الجيش المصري سوف يدخل الى فلسطين فإن هناك ضرورة سياسية ملحة في تجنب اتصال على الأرض بين قوات مصرية وقوات أردنية، أي تجنب وجود حدود برية مشتركة بين مصر والأردن". وذلك ما حدث بالفعل في ما بعد حين نفذت القوات اليهودية من قلب النقب الى خليج العقبة، وانسحبت أمامها سرية أردنية وتركتها تحتل "أم الرشراش" الذي بني عليه في ما بعد ميناء ايلات!". والواقع انه من دون هذه "المربعات"، أي الاستنتاجات السياسية التي يستخلصها هيكل من خلال البرقيات الواردة في "يوميات الحرب"، فإن هذه البرقيات، أو هذه "اليوميات" تبقى مجرد وثائق أو وقائع لا يمكن فهم أبعادها ومغازيها من دون الربط التحليلي والجهد البحثي الدؤوب الذي بذله المؤلف على مدى ما يزيد على 300 صفحة، لتتكون لدينا - وللتاريخ والأجيال القادمة - صورة واضحة عن خفايا وخبايا حرب فلسطين وأسرارها ودسائسها. هذا الكتاب سفر نفيس لكل باحث وكاتب. وليت المؤلف لم يتأخر ثلاثة وأربعين عاماً - كما يعترف هو نفسه في مقدمته - حتى يضع هذه الوثائق المهمة بين أيدينا